فصل من رواية “هواء مالح”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة خميس

مدخل

ستهاجمني تلك اليد مرارًا في منامي، طرية وصغيرة تنثني من الحركة بسهولة. أتخيل لمستها الناعمة فأرتعب أكثر. رغم رائحة الموت الخارجة منها والدماء قرب معصمها، فإنها نظيفة تمامًا كأنما وجدت وحدها دون صاحب ولم تنقطع للتو من جثة مشتتة.

تشغلني تلك اليد كثيرًا، فحينما أغمض عينَي تتصدر المشهد أمامي مرفوعة لأعلى وترفرف مع حركة الهواء. كيف وصلت إليَّ ومن صاحبها وكيف منحت لنفسها حرية الحركة بتلك الطريقة اللينة؟

تؤلمني رؤيتها وتنغرس أصابعها عميقًا في قلبي ليغوص من الحزن، تمس شيئًا ما بداخلي ليدفعني إلى الشعور بالذنب. لم أعرف لماذا تفعل كل هذا تلك اليد، رغم براءتها وصمتها المطبق.

يعلو نبضي بينما يدوي أزيز السرو من فوقي، زقزقات العصافير وصوت تكسر الورق الإب_ري، ضجيج يعلو وينخفض حسب كثافة الشجر من فوقي لكنه لا يصمت أبدًا.

تتلقفني أشجار السرو من شجرة لأخرى صانعًا غابة متشابكة من أعشاش الطيور. ذلك الصوت مع شعاع الشمس الساخن المتسلل من الغصون، واليد الملقاة على الأرض أمامي كل ذلك جعل مشاعري تغلي على مهل. رأسي فارغ وعيناي معلقتان بأحزمة الضوء، تيارات الهواء الساخن ورائحة الدماء، توخزني سخونة الهيكل المعدني على ذراعي فأشعر بالوهن، بينما أحاول إبعاد الكلاب الضالة التي تتشاجر على تلك اليد أمامي.

هوة في رأسي وصوت الأزيز المتقطع يعلو ويتردد، شيء ما ليس في محله.

أنفصل عن المشهد للحظة كي أستعيد السبب الذي وضعني هنا، رداء المستشفى اللبني الباهت يلفني ببقع الدماء المتجمدة بينما يقتحم صوت القطار الخلفية، صوت عالٍ يرفع نبضاتي، فأحتمي أكثر بشجرة السرو من خلفي، أستند بجذعي عليها.

شيء ما ينقص المشهد لكنني لم أدركه بعد، يقطع الأزيز صوت سارينة الإسعاف المارة بالقرب مني مع نواح الجموع حول باب المستشفى العام على الرصيف المقابل. تتوقف سيارة الإسعاف أمامي بينما يخرج المسعف النقالة التي تحمل جسدًا ضئيلًا مغطى بملاءة بيضاء.

تركوا الجسد على النقالة وصمتت الضوضاء من حولي، اختفت جموع الناس على باب المستشفى وقرب محطة القطار، وساد الصمت بينما اختفت اليد من أمامي.

الهواء مالح وحلقي جاف، يتملكني الوهن، لكنني لا أقدر على مقاومة التطلع للجسد المسجى أمامي فأقترب من سيارة الإسعاف المتروكة وسط الشارع، لا يتحرك الجسد أبدًا فأشك أنه ميت، وتكشف الملاءة البيضاء عن وجهه وجزء من ذراع الفتاة، أتطلع إلى الوجه الذي أحفظ ملامحه جيدًا كما أراها في المرآة، تفتح الفتاة عينيها فأتهاوى على الأرضية وتعود اليد أمامي.

يعود الأزيز المتقطع وتعود الجموع حول باب المستشفى، تتقاتل كلاب الشارع على اليد، بينما يقضمها أحدهم بعنف، ومن حولي يتحرك المسعف بجسدي على النقالة. أتبين ملامح شخص أمامي، وجهه حاد ونحيل، عيناه واسعتان وشعره أسود مغبر، يتحرك فمه لكنني لا أسمع شيئًا. أغمض عينَي لأثبت مشهد أغصان السرو المتشابكة، حركة العصافير، واليد المقطوعة لأغيب على النقالة الحديدية في طرقات المستشفى المزدحمة.

1

فوكة 2008

لم تكن اليد الممدودة في حلمه مصدر قلق نومه، أو كوابيسه التي لا تنتهي برائحة الدماء الصدئة. لكن ما أقلقه تلك الليلة كان نظرة الفزع في عينَي الفتاة بجوار الحطام. في عمله اعتاد جمعة البدء بعد انتهاء الآخرين، عقب كل حادث يتجه بعدما تنتهي سيارات الإسعاف من نقل الضحايا أو جثثهم على حد سواء. دون إلقاء نظرة على عدد المصابين أو الموتى، يستطيع جمعة تخمين الرقم من كمية الدماء داخل الهياكل المحترقة للسيارات. ذلك الحادث كان مختلفًا عما رآه من قبل. لا يستطيع نسيان تلك اليد أبدًا التي برزت له أسفل الحطام. ناعمة ترتعش أصابعها في خوف وتتسلل لتتبين الطريق من حولها، تلك اليد ملمسها دافئ متعرق ومليء بالدماء. اقترب منها ليفاجأ بصاحبتها حينما أزاح جزءًا من الكراسي المتكسرة لعربة القطار المحترقة.

الحادث ضخم والدماء في كل مكان، ليس ذلك ما اعتاد التعامل معه طوال الوقت، صوت سارينة الإسعاف لا ينقطع من رأسه ورائحة الدماء في كل مكان.

حينما أزاح الكرسي وجد صاحبة اليد بجسد نحيف وملابس مكسوة بالشظايا والدماء، أزاحت عربة الإسعاف الكثير من الأجساد الميتة بجوارها، لكنهم تجاهلوا يدها الطرية الخارجة من الحطام. اتسعت عينا الفتاة للحظة لتحدق في عينيه، وتحرك يدها حركة أخيرة. ثم استكانت لكنها ظلت تقبض بكل قوتها على يده.

اصطدمت قدمه بجزء من الهيكل المتفحم، فجُرحت جرحًا خفيفًا ظل يؤلمه لكنه تجاهل الألم وأخرج هاتفه ليهاتف سائقي النقل كي ينقلوا تلك الهياكل المعجونة الرمادية المسحوقة. الزحام طاغٍ على المشهد، ورغم نقل كل الضحايا ورفع الأشلاء فإنه ما زال هناك الكثيرون ممن يقفون لمعاينة المكان. وقع الحادث قرب المنطقة التي يقيم فيها في فوكة، فسمع صوت الاصطدام والانفجار الناتج عنه من غرفته بوضوح ليستقل السيارة مسرعًا كي يعي ما حدث، لم ينتظر تلك المرة أن يرفع الآخرون الضحايا حتى يبدأ عمله.

انتظر جمعة السائق ليساعده في ربط الهياكل ورفعها، واحدًا تلو الآخر. حتى انفض الكثيرون وغادروا المكان، فاستقل معه السيارة قرب مساحة الخردة القريبة من الطريق لينزل الهيكل بها ويعود جمعة إلى غرفته قرب المساحة.

بالقرب من مزلقان القطار وفي عمق الصحراء، تقع تلك المساحة الواسعة من الأرض ممتلئة بهياكل السيارات المتهالكة أو حطام الحوادث، اعتمد جمعة ورفقاؤه في العمل تحديد سور للمساحة بسلك شائك كي يحميها من لصوص الخردة الذين يداهمون الأرض ليلًا كي يسرقوا قطع السيارات التالفة.

كي تصل الهياكل للساحة ينبغي أن تعبر مزلقان القطار عند فوكة، وتمشي بحذاء السكة الحديدية مسافة بعيدًا عن قرية فوكة الواقعة في عمق الصحراء، والتي لا تعتبر قرية بالمعنى المفهوم، إذ إنها تجمعة لعدة من بيوت البدو وبعض المحال البسيطة، التي يضطر جمعة أحيانًا للمشي إليها كي يؤمن لنفسه احتياجاته اليومية في غرفته بجانب الساحة.

بعد أن انتهت السيارة من وضع الهيكل خرجت على الطريق، أغلق جمعة باب غرفته على نفسه. مساحة الغرفة واسعة شبيهة بشقة صغيرة مكونة من غرفة واحدة وحمَّام صغير ملحق بها. أسفل النافذة وضع جمعة أنبوبة موصلة بعين بوتاجاز وعدة أوعية لتسوية طعامه مع غلاية للشاي. وبجوار باب الغرفة براد صغير مكدس بزجاجات المياه وبقايا وجبات طعامه.

استقر جمعة على الكنبة الأسيوطي، وفي يده زجاجة من المياه المثلجة يتجرع منها بلهفة بسبب شدة الحر بالخارج.

طرق أحدهم باب الغرفة الخارجي، ففتح جمعة الباب ليجد «محمد» الصبي البدوي الذي يعرض خدماته من القرية، حينما يعجز جمعة عن مغادرة الساحة.

_ هنروح نجيب العشا، محتاج مني حاجة؟

_ استنى هنا، أرتاح وآجي معاك تكون الشمس هديت.

وقف الصبي على الباب محتجًّا، فهو يريد الانتهاء من الطلبات كي يعود لقضاء أمسيته بمنزله بالقرية، لكن جمعة الذي أعيته شمس الظهيرة، قرر عدم الذهاب وقضاء أمسيته بالغرفة، أعطاه نقودًا لشراء الجبن ثم صرفه وأغلق الصبي الباب وراءه.

في تلك الأوقات يعاود جمعة التفكير في حياته وكيف وصل لذلك المكان من الإسكندرية، مدينته التي اعتقد أنه سيظل بها طوال حياته. يفكر في الصيف كفصل محتمل الحرارة، ويتذكر تجواله على الشواطئ لبيع العوامات كل صيف، يزاحم الصعايدة الذين يأتون من قراهم كل صيف لتقسيم الشواطئ للعمل عليها، ولا يستسلم جمعة لتهديداتهم الصريحة ومرونتهم في الفصال عنه.

لم يتخيل جمعة أنه بعد سنوات سيكون في ذلك المكان محاصرًا بالرمال، لا يرى البحر إلا حينما يتجه قرب الطريق السريع لإزاحة هياكل السيارات الناجمة عن حوادث الطريق، يتذكر رمالًا أخرى كان يطويها مشيًا بالحمولة على ظهره لينتهي يومه ببضعة جنيهات تكفيه لإعالة نفسه، مختلفًا عن تلك الأفواج القادمة للبيع على الشاطئ، والأسر التي تنتظرها على محطات القطار.

على المنضدة مد ذراعه ليشحن هاتفه، وبجوار الهاتف الراديو الذي عدل مؤشره ليثبته على محطة القرآن الكريم، فانطلق صوت الشيخ محمد رفعت ليتمتم وراءه بما حفظه منذ سنوات طويلة من القرآن.

بعد برهة طرق الصبي الباب ليتسلم جمعة منه طلباته، التي وضعها بالبراد بجوار الباب وودع الصبي الذي عاد إلى قريته، فتح جمعة الباب المؤدي للساحة، ووضع كرسيًّا أمام الباب، كانت الشمس غابت ليحل الهواء باردًا وخفيفًا. فتح مغلف الجبن الكرتوني ليفرده على الخبز ثم طواه ووضعه في الطبق، نقلها لتكون بجانب الكرسي منضدة صغيرة، حضَّر الشاي ثم جلس على الكرسي يدندن بصوت عالٍ بعدما نقل محطة الإذاعة لمحطة الأغاني.

_ البحر بيضحك ليه

وأنا نازلة أتدلع أملا القلل

البحر غضبان ما بيضحكش

أصل الحكاية ما تضحكش.

…………………………..

*صدرت الرواية أخيراً عن دار الشروق بالقاهرة

مقالات من نفس القسم