عن روايتي “هروب معالم وجه” و”الزلزال وتوابعه” لمصطفى الأسمر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أيمن مصطفى الأسمر

بالتزامن مع ذكرى مولده السادسة والثمانين (25 يونيو 1935) صدرت روايتان للأديب المصري الراحل مصطفى الأسمر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الروايتان هما “هروب معالم وجه” و”الزلزال وتوابعه”، أحاول من خلال هذه القراءة السريعة لهما أن أكتشف ويكتشف معي القارئ السمات الأساسية لأسلوب مصطفى الأسمر ورؤيته الفكرية، متتبعا قدر الإمكان المراحل المختلفة التي مرت بها مسيرته الإبداعية.

بدأ مصطفى الأسمر مشواره مع الكتابة الإبداعية في أواخر خمسينات القرن الماضي، وكانت كتاباته في تلك المرحلة الأولى من مراحل تطوره مستمدة من “العين المبصرة” لواقع مجتمعه، تلتها مرحلتي الكتابة عن الموظف المصري، ثم عن البسطاء من أصحاب الحرف التي لا تجد قبولا بين الناس كالحانوطي / حامل النعش / مغسل الموتى .. الخ، ثم ظهرت مرحلة القصة الومضة، وبعد توقف امتد لسنوات، عاد مصطفى الأسمر إلى الكتابة وأصبح العقل يلعب دورا كبيرا، فأصبحت فكرة القصة تأتي قبل “حدوتتها”، فجاءت مراحل تالية أسماها الأديب الراحل “الشرنقة”، و”الصيحة”، و”الأخيرة”.(*)

وقد كتب مصطفى الأسمر خلال تلك المسيرة الطويلة في مجالات القصة والمسرحية والرواية والدراسات الأدبية، وغيرها من الأشكال الإبداعية المختلفة، وإذا اعتبرنا أن المبدع ينمو مثل الشجرة كما أنه يتطور ويمر بمراحل مختلفة مع التقدم في العمر واكتساب المزيد من الخبرات التراكمية، إلا أن البذرة التي تنمو منها تلك الشجرة تحمل بداخلها جينات لا تتغير مهما طال الزمن، ومهما تراكمت الخبرات.

يهتم مصطفى الأسمر في أغلب أعماله بالإنسان وسعيه الدائم إلى الحرية والتفاعل مع الآخرين مع الاحتفاظ بالخصوصية، وفكرة الحرية هنا ليست فكرة مطلقة، لكنها حرية مرتبطة بالعقل وبالمسئولية، وبالرغبة الملحة في مواجهة أشكال التنميط والقهر المختلفة، فالأسمر يريد أن يختلف البشر ويتمايزوا، لكنه يريدهم أيضا أن يتواصلوا على خلفية هذا الاختلاف والتمايز، فالتواصل والتفاعل بين أحرار مختلفين متمايزين، أجدى وأهم نفعا من الارتباط الجبري بين جماعات من العبيد فاقدي الإرادة.

ويمكن أن نوجز بعض السمات الأساسية التي توضح أسلوب مصطفى الأسمر الذي تمسك به طوال عمره وبكافة مراحل تطوره:

  • السخرية المريرة
  • الاستفادة من التراث الشعبي
  • المفردات اللغوية البسيطة ولكنها الدالة
  • سعة الخيال واللجوء إلى الفانتازيا
  • اللجوء إلى الرمز أحيانا وإلى التجريد أحيانا أخرى

أما عن روايتي “الزلزال وتوابعه” و”هروب معالم وجه” فقد كتبهما مصطفى الأسمر وهو يصارع المرض، ويظهر ذلك بوضوح تام في إهداء “الزلزال وتوابعه” إلى “نزيف مخ” و”جلطة مخ”، وفيها يواجه مصطفى الأسمر الكون والعالم، الحياة والموت، الصحة والمرض، السعادة والشقاء، الخير والشر، وغيرها من قضايا الإنسان الكبرى بدهشة الطفل الصغير وبراءته، وحنكة الشيخ الكبير وتجربته، فيستمد من تجربته الشخصية مع المرض مغامرة سردية يتجاوز فيها المعاناة الشخصية والنمط المألوف لكتابات السيرة الذاتية ليبدع عملا روائيا متجاوزا، فبدلا من الفصول المعتادة يتشكل بناء الرواية من الزلزال (نزيف المخ) وتوابعه المتتالية.

والشخصية الرئيسة في الرواية والذي يعبر عنه بالضمير “هو” تدمج الطفل بالشيخ بالسارد بمصطفى الأسمر نفسه، لكن الطفل والشيخ يتبادلان الأدوار والخبرة:

“لا عليك، نخطط معا لنهرب، فكلانا واحد ..”.

فنراه يعود إلى الحارة القديمة وإلى الجد والجدة:

“أبصر نفسه طفلا صغيرا .. ورأى حارته والبيت الأول لأسرته والزقاق الضيق المؤدي إلى باب بيت الجد والجدة .. ارتقى السلم المؤدي إلى الدور الأول، “الدرابزين” هو نفس “الدرابزين” المكون من حديد .. الحديد يتخذ مع كل درجة شكلا زخرفيا متكرر الوحدات يعلوه خشب يرتكز عليه أهل الدار بكفوفهم أثناء صعودهم وهبوطهم، أما الدرج نفسه فكان مغطى ببلاط متداخل الألوان كبلاط الصالة .. على يسار السلم كانت حجرة الجد والجدة بخدمتها حمام بلدي مثبت إلى جواره حنفية من نحاس مثبت عليها خرطوم .. والحجرة بها سرير من نحاس قوائمه مرتفعة وينتهي كل عامود “بكبشة …”.

يعود أيضا إلى الصحاب من البنات والبنين وألعابهم ومغامراتهم التي لا تنتهي:

“- هل أخذ كل واحد منكم “عيديته”؟

أجمعوا وقالوا:

– كلنا، ولم نصرف منها شيئا، هي معنا.

قال صبى:

– معي تعريفة ومليمين.

وقال آخر:

– وأنا معي ثلاث مليمات وبرنزا.

وقالت واحدة:

– أما أنا فمعي قرشا كاملا نصفه لي ونصفه لأختي.

هو قال:

– أول شيء سنصنعه عندما نصل إلى حارة العيد أن نركب “الدواخية”، البنات في جانب والصبيان في جانب.

قالت أصغر البنات:

– بل نصعد كلنا معا ونركب المركب.

قال صبى:

– يا “عبيطة” أنها ليست مركبا، هي شكل المركب فقط.”

فنغوص في تفاصيل حياة ذلك الطفل/الشيخ/السارد، فنتعرف على حكايته مع الديك الشركسي الذي يخشاه، ونراه يتحاور مع الأرنب والهدهد وكائنات مختلفة حقيقية أو متخيلة، بل ويعود إلى عصر إخناتون وصراعه مع كهنة آمون، ويخوض مع رفاقه مغامرات كمغامرات السندباد وألف ليلة وليلة.

والعودة إلى الطفولة هي إحدى التقنيات والحيل السردية التي استخدمها مصطفى الأسمر في هذه الرواية بغزارة، وقد سبق له استخدامها في العديد من أعماله السردية السابقة لربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل.

من التقنيات المحببة أيضا لمصطفى الأسمر أن يحتوي المتن على حكايتين – أو أكثر – متجاورتين متوازيتين/متقاطعتين لتوضيح أفكار الكاتب وكسر الجمود والرتابة في التدفق السردي، فنرى حكاية الطفل/الشيخ/السارد تتوازى وتتقاطع مع حكاية الأطباء من التابع الأول إلى التابع الأخير، إنها تقنية ساحرة استخدمها مصطفى الأسمر في أعمال كثيرة سابقة، وعمل كثيرا على تطويرها على مدار سنوات متتابعة من مشواره الإبداعي:

“( أ )

هو كان بين الصفين محاصرا ومحصورا، جاهد كي يحدد الزمن، أهو النهار أم الليل، لكنه أخفق، جاهد كي يتكلم ويقول كلاما، أي كلام لكنه لم يستطع .. سعى كي يشير بإصبعه للواقفين حوله، محاصرين له، لكنه لم يتمكن، فشل، لم تطاوعه أصابعه، أوحى إلى نفسه أنه يحلم، وأنه لا يذكر كيف بدأ الحلم ولا متى ينتهي .. المكان لم يره من قبل، لم تألفه عينه، ولم يشعر تجاهه برابطة ألفة …

( ب )

“كان الستة جلوسا بحجرة انتظار الأطباء، لم ينشغلوا بالنقاش ولا بحوار، كل واحد منهم ترك مشروبه المفضل أمامه بالكوب ولم تلمسه أصابعه .. كان الصمت يحيط بهم وكل يحاول أن يجد تفسيرا لما يحدث .. قطع كبيرهم الصمت وقال:

– مع قطع الأشعة أن الحالة هي حالة نزيف مخ إلا أن ما يحدث له أمر مختلف تماما.

قال آخر:

– فالأعراض لا تشير لهذا.

أضاف ثالث:

– ولا هي حتى أعراض جلطة.

تكلم الأصغر سنا:

– أنصدق الأشعة أم نصدق إحساسنا.

قال أكبرهم:

– لم يبق أمامنا إلا الانتظار لنرى ماذا يحدث له.”

وتمضي بنا الرواية أو يمضي الزلزال وتوابعه، حيث يمارس مصطفى الأسمر المزيد من حيله السردية، ليصل بنا إلى التابع الأخير فيواجه الطفل/الشيخ/السارد بل يواجه مصطفى الأسمر نفسه النهاية التي لا مفر منها:

“هـو كان يعرف يقينا يقينا أن هذا التابع هو التابع الأخير وأنه قادم قادم لا محالة، وأن لا مهرب منه ولا فرار ولا انعتاق …”

 

       أما في روايته “هروب معالم وجه” فينشطر الإنسان على ذاته:

“أمسك لسانه ولم يكمل لأنه لا يريد أن يخبر أحدا بحكاية ظله أو شبيهه سواء كان هذا الشبيه الأول أو الأربعين”

ويواجه مصيره وهو يرى أعضاءه تتلاشى واحدا تلو الآخر:

“- أنت لم تصطدم ولم تقع ولكنك فقدت بعضا من أذنيك كما أخبرتك.

– أعرف وقد أنبأتني أصابعي بهذا، فأصابعي بمجرد لمسها للأشياء قادرة على أن تحكم بجلاء على ما فقدته.

– على المدى البعيد ربما تفقد أذنيك كلها فتصور رأسك بدون أذنين، وليس هذا فحسب بل ربما على المدى البعيد فقدت السمع كما فقدت أذنيك فسيختفيان تماما ويحل محلهما شعر كثيف.

– وكيف يكون حالي وأنا أطرش.

– وستكون أخرسا كذلك فأنت تعرف أن من يفقد القدرة على السمع يفقد أيضا قدرته على الكلام.”

“- ماذا حدث لك أثناء غيابك عنا؟

– لم يحدث لي شيء.

ـ إذن لماذا عدت مبكرا على غير عادتك؟

فقال لهم باختصار شديد وهو يلضم الكلمات بعضها ببعض وبسرعة حتى أصبح كلامه يفهم بصعوبة بالغة:

– لقد تلاشى حاجبي الأيمن وليس هذا بأمر يثير الدهشة وتلاشيه لن يحول بيني وبين الحياة.

– لكن اختفائه سيسبب لك الكثير من المشاكل وأنت لست بحاجة إلى المزيد منها، أتعرفها أم نخبرك بها؟”

وكالرواية السابقة يندمج السارد/مصطفى الأسمر بالشخصية الرئيسة وما انبثق عنها من ظلال وأشباه ونظائر، فيستعيد حياته بمراحلها المختلفة، ويوظف مرة أخرى نفس التقنيات والحيل السردية التي أشرنا إليها سابقا، كما نراه يستخدم تقنية أخرى جديدة، حيث يعود إلى تجربته الإبداعية طوال مشواره مع الكتابة ليستعيد ما أنتجه، كأنه يضع إشارات مرجعية تدفع القارئ للتساؤل والبحث والعودة إلى تلك الأعمال الإبداعية ليعيد اكتشافها:

” ولأن السلم كان عاليا جدا جدا جدا ومرتفعا جدا جدا جدا فلم نر له نهاية كالسلم الذي كان في قصة “الصعود إلى القصر” وهي قصة قرأناها لا ندرى متى ولا في أي مجموعة كانت.”

“هو فكر أن يصعد بأصابع يده إلى وجهه ليرى ويتأكد هل اندثرت فعلا أم ما زالت بمكانها المعهود، لكنه تراجع عن التنفيذ وشغل نفسه بالتفكير في “ومضة مواجهة” وما حدث له فيها وتذكر حواره مع زوجته”

“- أكيد لقد أتيتم لتبحثوا عن الضرس الذي سقط.

– وكذلك عن باقي الأعضاء التي اختفت وتلاشت وانفلتت من وجوهنا.

– سندلكم عليها ولكن قبلا استمعوا لقصة “انشطار” وسنستشهد بثلاث فقار (من البداية / ومن الوسط / ومن النهاية) ويقرأها عليكم فريقان من الجالسين هنا فوق المنصة فريق يقول وفريق يعقب أيضا فريق ثالث، والفريق الثالث هو الذي يسرد ويروى، أتوافقون؟”

“وإذ رأي نفسه ورأي ظله أيضا جالسا بجواره تحت الناطحة قال للظل:

– سأروي لك قصة “غوص مدينة”

– وأنا سأتابعك.”

“هو رأي نورا مبهرا يسطع من هذا الحجر ووجد بجواره مجموعة من الورقات تناولها من باب الفضول لكنها كانت غير مرتبة، وكان رقم كل ورقة ظاهرا بوضوح يحضه على ترتيبه، فاستغرق وقتا حتى رتبها كلها وابتدأ ينظر فيها ويقرأها، فوجد صفحتها الأولى تشير لعنوان رواية اسمها “جديد الجديد في حكاية زيد وعبيد” والرواية عبارة عن مرقومات ست وكل مرقومة بها حاشية وللحاشية هامش وهي من أبواب …”

“هو حط على تفكيره ما قرأه عن “المشوار العظيم” لطفل صغير من سكان قرية مجهولة الاسم والصبي اسمه قراوية …”

وتمضي الرواية لنتابع اختفاء الأعضاء، والحكايات العجيبة مع الظلال والأشباه والنظائر، ويمارس مصطفى الأسمر المزيد من ألعابه السردية، ليعزف لنا تنويعة جديدة على لحن النهاية التي لا مفر منها:

” تخلت قبضتاه عن الطائرة فأحس بجسده يهوى نحو الأرض ولم يعد يعرف من أين تشرق الشمس أمن الغرب أم الشرق؟ لم يعد يعنيه كم عضوا ذهب من وجهه وكم عضوا بقى؟ بل أصبح ما يشغله عندما يصبح بين هؤلاء البشر بأي وجه سيقابل الله الخالق العظيم؟”

يستخدم مصطفى الأسمر في روايتيه لغة سردية خاصة تجمع بين الواقع والفانتازيا، وتخاطب العقل والروح معا، وتفتح أبوابا ومسارات متعددة للتفكير والتأمل، فتحية له .. ولروحه المبدعة السلام والمحبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*) مقتطفات من شهادات مختلفة كتبها مصطفى الأسمر بنفسه حول مسيرة حياته ومشواره مع الكتابة (بتصرف)

 

مقالات من نفس القسم