لا تريد الجنة لو كانت وحدها

لا تريد الجنة لو كانت وحدها
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

من الغريب أنى لست – فى العادة – ممن يتحمسن لشعر نثر العامية بصورة عامة وما زلت أسيرة شِعر الرواد وعلى رأسهم الكبير الراحل فؤاد حداد. لهذا حين تجاوبت مع إبداع شاعرة العامية أمينة عبد الله قلت لنفسى: لا شك هذا دلالة على شىء له هوية مختلفة . 

قرأت كل أعمال الشاعرة المصرية أمينة عبد الله (أغلبه فى شعر العامية المصرية ويوجد لها ديوان قصيدة نثر واحد صدر فى ليبيا يحمل عنوان كان الماء عبدا ساجدًا وقرأته ) وللحق أعجبنى ديوانها الأقدم الصادر عام 2007 ” ألوان رغاوى البيرة الساقعة (عنوان طويل نوعا) أكثر من بعض دواوينها اللاحقة ربما لأن شجن النبرة وتتابعات الصور فى الديوان المذكور كان متسيدا على السمات الأخرى التى بدأت تلوح فى شعريتها التى سأحاول تسليط بعض الضوء على عناصر منها باستشهادات قليلة.

لاحظت فى شعر أمينة عبد الله ذلك الميل إلى صياغة حوارية متخيلة/ افتراضية مع الآخر أو آخر ضمن حوار الذات الشاعرة مع نفسها بما ينطوى عليه ويؤدى إليه منطق الديالوج المتسائل من تحليل للذات ولهذا الآخر كما تتضمن أكثر دواوينها تعريفات .. تميل هى إلى هذا لأن التعريف محاولة لخلق معنى وإيجاد إجابة على أشياء مهجوسة بها الذات الشاعرة المعذبة هنا.. التعريف رغبة فى تخليق دلالة للسلوكيات والأحداث والمواقف، رغبة فى الكشف والفهم ورفع الغموض والحيرة عن النفس، لكن وجود التعريف أيضاً يعنى احتمالية وجود معنى أو معطى ما لدى صاحبه، معنى مسبقًا عميقاً يعيش ويمضى به ويعينه على مواجهة الملغِز واللا مبرَر وهى كثيرا ما تستخدم آلية التعريفات كوسيلة لاختتام قصيدتها خاصة فى دواوينها اللاحقة مثل “سوبر ماركت و بنت الشتا مثلا.  

ويمكن المجادلة كذلك أن التعريف دوجما فى حد ذاته، ولو بدرجة طفيفة، لكن لم أفهم سبب تكرار بعض القصائد وتقاطعها بين الديوانين المذكورين، ولكن رجحت أن تفاوت مواعيد الصدور بين دور النشر المختلفة قد يكون السبب

الشاعرة تعتمد بشكل متعاظم على توظيف التراث التاريخى و الدينى كما فى قصيدة “بيان من الحجاج بن يوسف الثقفى” أو من التراث الشفاهى المرتبط بالأمثال الشعبية ذلك الخزان العملاق الذى يسحب منه الشعر العامى و لا ينضب كما نرى فى قصيدة “تفاصيل” من ديوان “سوبر ماركت” و هى تزاوج هذا التوظيف الذكى دون إفراط ، بمفردات صادمة تتعمد إيرادها و كتابتها كما هى بلغتها الأجنبية دونما ترجمة مثال كلمات class  و Trade Mark وmessage وقد تورد كلمة “فيديو كليب” هكذا فى نهاية قصيدة تقوم على الاستعارات والتشبيهات المستوحاة من التراث الدينى (كقصيدتها عن الحجاج) لتضمن إحداث صدمتها على مستوى بلاغة الخيال.

وللتفلسف الحدوسى – إن جاز وصفه هكذا – نصيب غير يسير فى شعرية أمينة عبد الله سواء جاء فى صورة تعريفات للعطش ، للوحدة ( هاجس الذات الشاعرة عبر أكثر من عمل ) أو للحزن و غيره ، أو جاء على شكل جمالى ينوء بإدانة الآخر بسخريتها الهادئة كملمح آخر آخذ فى التعمق و التبلور بنضج فى شعريتها حينما تقول مثلا لا حصرًا : ” فكرة إنك شبه حد باعرفه / خلتنى أستدعى معرفتى بالنمور”.

أردت أن أقول للشاعرة: كم أعدتنى لذكريات مشاعر وأزمنة الحزن الأكبر .. وقت كنت أرى فى مناماتى نمورًا تحاول قتلى وأجدنى ملتصقة بكفها تجرى بأقصى سرعة لها لضمان تحطيم رأسى فى جدار !

لماذا وكيف يكتب ناقد أو شاعر حتى عن شاعر فيبدأ فى الاعتراف بما لا حق – سوى فى الشعر – للبوح به و كشفه ؟! أستغرب نفسى.

دعونا نعود للتعريفات الآخذة مساحة ليست بالمحدودة فى شعرية أمينة عبد الله. هى مهمومة أيضا بالفكرة ، يوجد فى شعرها محاولة لإماطة اللثام عن مفاهيم و حالات معقدة و مُركّبة تحاول الذات الشاعرة فك الاشتباك بينها و لا أقول إن شعرها مفاهيمى لكن محاولة العثور على معنى أو سبب خلف الأشياء هو جهد مضاعف تبذله الذات الشاعرة للمحافظة على بعض العقل ، لتحرى بعض الهدوء والتقاط الأنفاس .. و قد تكون الفكرة أو المفهوم نتاج لحوار مع الآخر وليس فقط نتاج تحليل لموقف أو مسلك منه/ منها .. كذا يبنى الشاعر عالمه الذى يحاول إخفاء أهم ما جاء إلى الشعر به جاهزا مكتملاً : وجدانه وأفكاره و مشاعره و قناعاته هو . تتستر هى قليلا فى سوبر ماركت الذى يلوح أقل نضجا وأكثر ” جدلا و تحليلا من بنت الشتا فى تقديرى وبالحتم أقل ” بساطة من ألوان رغاوى البيرة الساقعة .

أمثلة التعريفات التى توحى بالقناعة الكاملة السابقة على لحظة الكتابة، أو لحظة الجنون أو موقف الغضب الخ فى الحياة كثيرة وهى تفضلها عادة كنهايات لعدد من قصائدها مثال حين تقول :

“ببساطة

أول الفكرة

جنون

منتهاها

حقيقة”. ( قصيدة ” حب شكله مختلف ” من ديوان  سوبر ماركت )

ولنلاحظ شكل صياغة المقطع الأخير هذا . هى اختارت بكل وضوح كتابة كل كلمة على سطر بما يعكس محاولة – ربما – من الذات الشاعرة لتفكيك العالم لأبجدية أولية ، لزمن عدم تزاحم و تداخل الأفكار والأصوات والمعانى .. لحالة أولية بسيطة ، العودة للغة و معنى لا يحتاج لشروح أو براهين وتظاهُر بالموضوعية و قبول تعدد الآراء أو وجود أكثر من احتمال و معنى لنفس المفردة ” الفكرة ” ( التى قد تكون فكرة أى شىء بالمناسبة ) .. هذا النزوع نحو عالم تحكمه التعريفات يوحى لى بنزوع نحو مطلقات تصدقها و تؤمن بها الذات الشاعرة المرهَقة والسليبة التى تسعى الشاعرة إلى توكيد عزيمتها و عدم إخفاء ضعفها و هزيمتها فى آن .

و سأسوق مثالا آخر على هيمنة التعريفات على شعريتها :

“الاختصار فى الكتابة

بيقتل أطفالى

 قبل ما يتولدوا ” .

(قصيدة ” ملاك  فضى ” وهى المقطع الثالث من قصيدة ”  المسافة بين الشىء و نقيضه ” من ديوان سوبر ماركت ) .

و من ناحية أخرى نجد شعرية أمينة عبد الله تتحرى الأفكار و تناقشها بما قد يذهب – أوقاتا – بتلك الشعرية إلى حافة الهاوية لتقف على حدودها بما يعنى أنها تتهددها فى أحيان كثيرة حين تدعمها بذلك الحرص على ” الإيضاح ” وتوصيل المعنى و لكن تنجو بها حين تنأى عن مواصلة ذلك الجهد البوحى الطابع . من الأمثلة الناجحة على احتشاد الأفكار وعدم تورط الشاعرة فى الكشف غير الفنى ما تختم به قصيدتها الحلوة ” علاقات حميمه ” :

بين الحب و الخوف

انت مطحون بعلاقات مش حميمة

كلها شبه العلاقة بين الطوق والإسورة

و كلها أشكال للهروب

من ضغوط فى دماغك لوحدك

لإنك ما حاولتش تجرد الفكرة

 و تربط بين ضغوطك و أفكارك

 وبين الضغوط والأفكار العامة

 فلبست الإسورة مكان الطوق “.

و فى مقابل هذا نجدها تورد أسماء كثيرة لشخصيات تقابلها من مواطنين و أصدقاء مثقفين الخ تثرى بهم عالمها الذى لم ينقفل على ذاتيتها حصرًا و هو ما نلمحه فى بنت الشتا و ألوان رغاوى البيرة .. .

أحسستُ بقصيدة ” صورة ” فى ديوان بنت الشتا من أقوى قصائدها تقنيا فهى تقوم على محور شبه دائرى تكرارى تترك القارئ فى حال الأسى المحتبسة فيها الذات الشاعرة وهى تمزج ذلك التكنيك بالسخرية العاتية كما فى قصيدة ” لوجو” التى تجعلنا نستعد قليلا لسخريتها من العنوان اللافت للانتباه ( ولم تفتنى ملحوظة أن ” بازل ” وردت كعنوان فرعى فى ديوانها الصادرعام 2007 “ألوان رغاوى البيرة الساقعة ما أحالنى إلى شعور الذات الشاعرة بأن العالم أحجية تريد فك طلسمها و معرفة شفرات تعاملها معها وتستخدم الكلمة أكثر من مرة داخل نصوص ذلك الديوان ) . تكتب مثلا :

“ماشى

بضهرك باستمرار

ولما تخبط ف عربية فيها اتنين بيحبو بعض

تبكى بجد

من وجع الخبطة ؟

ولا من فكرة اتنين بيحبو بعض ؟! “. ( من ديوان ألوان رغاوى البيرة الساقعة ) .

و لدى أمينة عبد الله يبلغ الوصف حد الشفرة الجارحة كما فى قصيدة ” مفترق طرق ” التى تكتب فى نصفها الأخير : عنقود غضب / انفرط ف قلبى / معصب عينى برباط ألم حقيقى / الوجع بيجامات سترتش / وردها دمى المهدر بمنتهى السهولة / من دربكة عربيات الأمن “ثم فى نهايتها ترواغ :  ” أنا مش فى مفترق طرق / ولا محتارة بين طرفين / أنا محاصرة فى الخطوة اللى بامشيها / جوا الجزمة ” .

هكذا تسطع العامية بلا خجل أو مواربة و ” تزيين ” للغة ، هكذا تأتى العامية بحمولتها الجارحة العنيفة وبجمالياتها الفجة بلا إدعاء ، بلا تمظهرات أو سواتر و هكذا تحيل الشاعرة كينونتها و عدم حراك عمرها كلها على فعل يوحى – نهائيا – بالشلل و عدم الحركة للتدليل على منتهى العجز و الانخناق والتكبل الذاتى ، كما تتواصل إدانة الذات عبر مجمل القصائد تقريبا كأنما الذات الشاعرة لا تملك القدرة على تجسير المسافة الفاصلة بينها و بين الآخر إلا عبر تقنيتين : السخرية و موازنتها بنقد الذات العنيف كإدانة محتومة مزدوجة التصنيف . من القصائد الجميلة كذلك ” شرقيات ” و ” ساعة الحيط اللى واقفة على ساعة من سنتين ” و ” و طن ” ( من ديوانها سوبر ماركت و خاصة فى مقطعها الثانى حيث تكتب) :

” دورت عليك ف دفتر اليوميات

 و ف ذكريات معارفك

و المقابر

صاحبت الميتين و ما لقيتكش

لا معايا و لا معاه

عملت لك شاهد و ما افتكرتش اسمك

فكتبت عليه …….. ”

و هنا تبين نقطة ضعف ربما أحسستها مع الشطر الأخير و هو ما لاحظته على عدد من قصائدها سواء فى العامية أو فى ديوانها الفصيح الوحيد بقصيدة النثر ” و كان الماء عبدا ساجدا وأقصد ورود جملة أو شطر ما كان يأتى – بالنسبة لى – كجزء ناتئ أو فائض بعد ن تكون القصيدة قد اكتملت و انتهت فعلا . وكنت أظل أتأمل القصيدة بدون ذلك النتوء فأجد جمالياتها تحققت و أشبعتنى قبله وكلما أعاود القراءة يتدعم ذلك الشعور. لكن للحق هذا كان بارزًا فى ديوانها الفصيح أكثر من شعرها العامى رغم أن بديوان و كان الماء عبدًا ساجدا” العديد من القصائد الجميلة حيث المخايلة وإقصاء المعنى و مواربته أو تعليقه بما يشرك القارئ فى استكشاف ثم ارتشاف مكامن الجمال فى النص .

كما قلت هى تتجلى فى اللحظات التى تجافى فيها عملية تشريح و تحليل المشاعر إن للذات أو للآخر و تذهب إلى منطقة شديدة الخصوصية فى طرح معناها ببساطة و المفارقة أنه فى هذه اللقطات يمنحها الشعر نفسه بالمجاز و الاستعارات كذلك بلا اعتساف مثال :

” تفتح بالموسيقى بيبان

 تخلصك من العدوانية

ترقص مع ضلك بحب “. ( من قصيدة ” شرقيات ” ضمن ديوان سوبر ماركت ) .

كما أن ” الضل ” الذى يرد بكثرة فى دواوينها نجد معادله الموضوعى فى حالة السُكر المفصح عنها ضمن ديوان “ألوان رغاوى البيرة .. حيث الكلام الصريح عن تأثير الخمر و أيضا استخدام مفردة ” الأحلام ” و ” الحلم ” بوفرة و هى حالة شجنية غيمية ترتبط بإيحاءات الظل و تأثير الاحتياج له / الرغبة فى الهرب والخلاص منه وكما أن ” الضل ” يحتل مركزا مهما فى هذه الشعرية فإن مفردة الذاكرة أو الحالات المنسابة منها كثيرة الحضور فى دواوينها ( مثال ألوان رغاوى البيرة الساقعة ).. أليس عالم الذاكرة هو ” الضل ” ؟ . ألا توحى ” ألوان رغاوى البيرة بألوان مخالفة للواقع ،الواقع الضاغط على الذات الشاعرة؟؟. هل نحن نحلم بالألوان أم تغيم الألوان فى المنامات ليتسيد الأبيض والأسود .. أو عنصرا الليل والنهار كما تستخدمهما الشاعرة لفظا لتشكيل الرماد المقترن بالظل وإيحائه ؟ . أليس الظل حالة قد ترتضيها الذات الشاعرة وتحنق عليها ؟

تكتب فى “انتظار الصبر الجميل” ضمن ديوانها سوبر ماركت :

” باشق لك

بين صدرى نهر

تتلاقى فيه بأحلامك

 وادّارى ..

أتنازل عن سطوتى لصالحك

أرضى بأصغر مساحة فى الصوره

و كل ما تمر نقطة ضوء

تفتح ف قلبى قدره أكبر ع التسامح

 و تجاوز أشكال الحب المعتاده “.

 هذه الشعرية التى ” تحاكم ” الكون و كائناته بدون استبعاد للذات تملك الصراخ الأبدى ، الصرخة غير المستعارة لذات شاعرة جريحة : ” مش عايزة الجنة لوحدى ” .. كما تكتب . هذا شرطها لأن تقبل دخول الجنة .. هو نفس شرطها لمواصلة الحياة و القدرة على العطاء !

تقول فى ألوان رغاوى البيرة الساقعة ( حيث تطالب القارئ بترتيب النصوص كما يريد هو لإراحة نفسها ربما من هذا العبء.. حيث كل شىء عبء) :

” رشت آخر برفان زهق من أنفها

طلعت منها ريحة شياط ممزوج بعفن ”

وأيضا :

” بيتهيئ لى

إننا زهقنا م العنف ،

الخمرة ،

الكمبيوتر ….

والفساد …..

بيتهيئ لى

إننا محتاجين

شوية رومانسية “.

هى محقة .. و أيضا هى ذكية تعرف أن القارئ قد مل من الصيغة المهترئة لشعر عامية يقف فى محطة العويل و الندب على الذات ( خاصة من المرأة الشاعرة ) ، و كم من موهبة ( موزونة أيضا ) أهدرها أصحابها بالتوقف فى تلك المحطة و عدم إثراء شعريتهم بقراءة كل الإرث الشعرى للعامية المصرية ( و خاصة المصدر الطوفانى للشاعر الكبير الراحل فؤاد حداد ) وكذلك بعدم إدماج و استدخال عناصر أخرى فى الشعر العامى ( من السينما و الرواية والمسرح وغيرها ) فأمينة عبد الله مثلا تستطيع الكتابة عن تأثير رواية ” العطر” لباتريك سوزكيند و مقارنة واستلهام ذلك بعوالم روائحها هى والآخر ، والتناص مع جمل من روايات لماركيز أو من دواوين لشاعر العامية الراحل مجدى الجابرى و تقدرعلى توظيف حوار فلسفى أو سياسى متعمِق فى سياق شعريتها كما أن جرأتها فى التعبير الذاتى ضمن تلك الشعرية يستحق الإعجاب حتى وإن نافست شعريتها أحيانا  المواطِنة شبه الملتزمة سياسيا أو تزاحمت نصوصها بآثار الروافد والقراءات المعرفية و الفلسفية . 

مقالات من نفس القسم