الذات نافذة تطل على العالم ..قراءة في ديوان (بحة في عواء ذئب)

بحة في عواء ذئب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مريم العجمي

هنا آلاء فودة، في كل السطور تلمحها جالسة: صيدلانية وزوجة وأم وكاتبة تتغرب عن نفسها وتعيد ترتيب الأشياء للتتعرف من جديد على ذاتها ونتعرف منها على العالم.

(العالمُ إنعكاسٌ هشٌ للذات\ حجرٌ في الطريق\ ريشةٌ في جناح غراب\ بحةٌ في عواء ذئب) (وأنت وحدكِ تطلبين من العالمِ للمرة الأخيرةِ\ أن يكون ذاتيا ذات يوم)

هذا الخروج من النَفس لتطابق الأشياء والمفردات من حولنا؛ تكسبنا المزيد من المعاني وتمنحنا الفرصة للنظر والتمعن في الداخل، هنا فقط يكمن العالم.

(العالم كله معاد\ لا شيء يستدعي الانتباه غير ذاتك)

(وماذا فعلتِ أنتِ يا آلاء لتفيدي العالم؟)

 عالم آلاء الخاص جدا تاركة اسمها هنا بكل الصدق والعفوية. وحدها الذات التي تستطيع حملها لتقدمها للعالم؛ هي التي تعرف، لاتمنح أسفار ومدن بعيدة، لا تتفلسف بغياهب الكون ومجراته، فقط بكل بساطة تمنحنا ذاتها (آلاء).. وتتشعب الذات في اتجاهاتٍ ثلاث: الكتابة، الصيدلة، ربة المنزل (زوجة وأم) ويقف أمامهم مأزق الوقت. معادلة من ثلاث مدخلات منحتنا خلطة فريدة في الكتابة.

عندما تصبح الكتابة ملاذاً.. تكتب آلاء بوعي كامل بالكتابة لا من وحي أو إلهام أو أبراج عالية، تمسك سكين المطبخ وتكتب، تجلي الصحون وتكتب، تعطي الدواء للمرضى وتكتب، حيث العادي تصنع منه المدهش.

(سألوذ بالكتابة\قبل أن تغرس البعوضةٌ سيفها في دمي\ وتسحب القصيدة)

(أن تسمح لاسمك أن يُكتب قويَّا في نهايات القصائد)

تكتب لأنها خُلقت للكتابة، فُرضت عليها وأكملتها بالنوافل

(وحده الله\ وحده يعرف الطريقُ جيدا\ وسيغفر لي عدمَ اكتمال النص)

(وُلدتُ بقصيدةٍ في أعلى كتفي\ تحكُّني كلَّما تظاهرتُ بالحبِّ\ تقفزُ في رأسي إذا عانقته\ فأغيب عنه فيها\ تلوي رقبتي تباعا\ إذا غافلتها\ ودخلتُ في المشهدِ مرةً أخرى)

الأنثى هنا لا تنفصل عن عالم القصيدة: ربة المنزل زوجة وأم، تظل الأمومة منطقة ثرية وحافلة بكل ما هو ملهم.

(يتسرب منّي دمٌ وملحٌ وماء\ أتجددُّ لينمو على جلدي طفلٌ)

(والمطبخُ فارسٌ نذلٌ\ يطعنني وهو يدير وجهه عني)

(سيرحل عنّي طفلي الذي أدَّبتُه مراراً\ على خرقِ قواعدِ الاشتياق\ والتكوُّم بأنصاف الدوائرِ\ والتحلي بالضجر)

(والجدران التي ربّيتُها تتقافز أمامي\ كامرأةٍ تجيد مهارة الكيد\ فحزني ميكانيكي كأمومتي وجسدي بلا كتالوج)

(ربما التعثر في فتح حديثٍ مع ربَّة منزل\ كلما رأتني لعنتْ خوفي\ واستمرتْ في بصق النصح

المثقوب بكثرة الولادات واحتمال الولادة\ بجرعات المسكن ووصفات التنحيف)

(طفلي الذي مات قبل أن يولد\ كان عارفاً بالخطة كلها\ لذا أدركته الحكمة قبل البدء)

..

وحين تختلط الصيدلة بالكتابة، الصيدلة المهنة الكيميائية الخاصة بالمعادلات، يمكنك استخلاص الدواء من السموم، كل شيء مدروس بدقة، كل شيء خاضع للتجربة، كل خطوة يتبعها نتيجة وعليك الملاحظة.

(ماذا لو سمحوا لي\ أن أرفع مستوى الصوت قليلا\ لأغاني فيروز\ ليتمكن المرضى تحت أجهزة التنفس\ والأطفال في الحضّانات\ والعجائز فوق الكراسي المتحركة\ أن يسمعوها جيدا)

(أنا موظَّفة حكومية\ تضجر من مرضى أتو قبل الحضور\ ومرضى أتو قبيل الانصراف\ أعبسُ في وجه من يجعلني أعيد تلقينه جرعة العلاج\ وأسخرُ من جهلِه\ في عدم معرفة مُسماي الوظيفي\ ومناداتي بألقابٍ تقديرية\ أتصفّحُ.. بحرصٍ شديد.. دفاتر العهدة\ وأعاملها كمريضٍ بحاجةٍ قصوى لجرعة أكسجين)

..

وتتضافر الثلاثة أضلع في خفة تجربة غير معروفة النتائج..

(في كلِّ مرة أكتب فيها نصاً\ أقولُ هذا هو النص الأخير\ سأتركُ روحي هنا\ سأقطع من لحمي في تلك السطور\ وألفظُ أنفاسي الأخيرة على عتباته\ وحين ينتهي النص أُشرع في تمزيقه\ هذا النصُّ غير جيد\ هذا النصُّ لا يليقُ بنهايةٍ مجيدة\ بنهايةٍ لأمٍ تبحث طيلة النهار عن فمٍ لابنتها\ بصيدلانية تتحسس مواضع الألم\ لتغرز فيها عصبا جديدا\ عصباً يثور كلما نفخنا فيه\ بنهايةٍ تليق بزوجةٍ نسيت أصابعها في المواعين\ وحين احترقت الوجبةُ طبختْ نفسها كبديلٍ واقعي)

(وليس ثمة أشباحٌ كثيرة\ شبحُ العمل\ شبح الكتابة\ شبح الطريق\ وشبح الحلقة المفقودة)

..

لا شيء يقلق المبدع كالوقت، صديق وعدو في آن، والوقت عند آلاء مجسم: كائن حي، تتعامل معه وتمنحه التسميات، بكل ما يختزنه من مشاعر ويتركه من أثر..

(أسدُّ بجسدي المترهل شقوق الوقت\ أسكب الماء على عتبات البيت\ وأهذِّبُ شفراتِ العالم)

(بالأمس ابتلعتُ الكثير من المواعيد\ فنبتت في جوفي أمنياتٌ وموسيقى وعشاق جدد)

(الحياة خزانة ملابسَ لا تفرغ أبداً\ تتبدَّل بفعل الأيامِ والعوزِ والحنين)

(لم تبقَ للمواعيدِ معاولها\ ولم يتسنَّ لي تحسسُ وجهي قبل أن يتلاشى)

(فلم تفلح آلة الزمن في تعديلِ ما جرى\ ثقبٌ أسودُ كبيرٌ سيبتلعني في آخر المدار)

(لي ثلاثٌ وعشرون خيبة\ ومازلتُ أقتفي أثرَ المواقيتِ\ أبحثُ في الساعاتِ عن مواعيدَ تشبه الفرح\ أقطفُ من الحائطِ نتائجه المعادة\ أدق المسامير في المدن حجريةِ القلبِ\ وأجرُّ عدوى الانتظار لمسافرين مثلي\ عبروا من آخر الوقت لمبتداه)

(المواعيدُ التي خالفت أصحابها)

(هذه عناوينك البريدية جمعها بملصقاتٍ لا يتلفها الوقت\ ولا تسقط بالتقادم)

(القطارات التي تحكُّ قدمكَ في مبتدأ العمر\ ستعبرُ بجواركَ بأمانٍ تام\ دون أن تلتفت إليك\ وتتلاشى رويدا رويداً\ حين يخرج عمرك من باقة العدد)

(من يمسك عصا الوقت من المنتصف\ ويشير بها إلى مواضعِ أقدامنا\ لتتوقَّف الحياة قليلاً\ لتتوقف لحظة\ لحظةً واحدة ربما تكفي لفتح كوَّةٍ للإيمان)

(ووداع الغرباء الذين لم يجمْعهم الوقتُ ولا المقعدُ ولا الأجوبة الناقصة)

(حياتُك هي تلك اللحظة\ الوقت المجزوء من وحدات الزمن\ الفرصة الضائعة دائما لتفسير الإشارة)

(هل جرّبت أن تقفل صنبورَ الزمن\ وتقفَ عارياً في وجه المدرعات\ مدرعات العائلة والوطن والعالم)

(حتى وأنت تطّوقُ الزمنَ بتلفيعتك المهدلة\ أنت متراجعٌ ونذل)

(ستذهبون وتأكلون الأيام قطعةً واحدة\ لكنكم لن تستطيعوا أن تستأصلوني من تعاقب أرحامكم)

بإشاراتٍ مختلفة من الخذلان والأمل، الهوَّس بالزمن وما يصنعه، فرضيات توقف الوقت واستحالتها، ترى نفسك أثرا لا يُذكر في الزمن الشاهق، نفخة تراب من جبل عظيم، بحة في عواء ذئب، لكنك أيضا بطل فارس وعنوان هذا الديوان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الديوان صادر عن الهيئة العامة للكتاب
كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم