عقدتي الأوديبية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرانك أوكونور

ترجمة: ممدوح رزق

كان أبي في الجيش طوال فترة الحرب العالمية الأولى؛ لهذا لم أره كثيرًا حتى سن الخامسة، ولم يكن ما رأيته منه يثير القلق. أحيانًا كنت أستيقظ وأبصر شخصية مهيبة ترتدي الزي العسكري، وتتطلع إليّ في ضوء الشمعة، وأحيانًا، في الصباح الباكر، كنت أسمع صوت إغلاق الباب الأمامي ثم إيقاع مسامير حذائه على حصى الممر. كانت تلك عتبتي دخول وخروج أبي بالنسبة لي. مثل سانتا كلوز؛ يجيء ويذهب بشكل غامض.

في الواقع كنت أحب أجازاته بالرغم من زمنها الضيق، وكذلك عدم التفاهم بينه وبين أمي. في الصباح الباكر وعندما أستقر بجواره فوق السرير الكبير كان يدخن، وهو ما أكسبه رائحة عفنة ممتعة، كما كان يحلق ذقنه، والتي كنت أراها عملية شيّقة بشكل مذهل. في كل مرة كان يترك وراءه أثرًا من التذكارات. نماذج مصغرة من الدبابات، وسكاكين جورخا بمقابض من الرصاص، وخوذات ألمانية، وشارات قبعات، وعصي، وأزرار، وجميع أنواع المعدات العسكرية. تذكارات مخزنة بعناية داخل صندوق طويل فوق خزانة الملابس في حال كان هناك حاجة لاستخدامها في أي وقت. شيء من الغرابة كان أساسيًا في شخصية أبي؛ إذ كان يتوقع دائمًا أن تكون كل الأشياء مفيدة. عندما يغادر؛ كانت أمي تسمح لي بالصعود فوق الكرسي والتفتيش في كنوزه. لم تكن تبدو متحمسة بقدره تجاهها.  

كانت الحرب أكثر فترة سلمية في حياتي. نافذتي العلوية تواجه الجنوب الشرقي وكانت أمي تغطيها بالستائر، لكن لم يكن لذلك سوى تأثير ضئيل. كنت أستيقظ دائمًا مع أول ضوء، ومع ذوبان جميع مسؤوليات اليوم السابق؛ أشعر بنفسي أشبه بالشمس، مستعدًا للإشراق والفرح. لم تبد الحياة أبدًا بهذا الوضوح والبساطة والامتلاء بالاحتمالات كما كانت آنذاك. كنت أخرج قدميّ من تحت الأغطية ـ السيدة اليسرى والسيدة اليمنى كما كنت أسميهما ـ وأخترع لهما مواقف درامية يتناقشان خلالها حول مشاكل اليوم. على الأقل كانت السيدة اليمنى تفعل ذلك؛ فرغم أنها كانت تعبّر عن نفسها بشكل كبير، لكنها لم تمتلك السيطرة ذاتها التي لدى السيدة اليسرى؛ لذا كانت تكتفي بالإيماء بالموافقة.

تناقشت معهما في ما ينبغي أن نفعله أنا وأمي خلال اليوم، وما يجب أن يقدمه سانتا كلوز لكليهما في عيد الميلاد، وما الخطوات التي يجب اتخاذها لإضفاء البهجة على المنزل. كانت هناك مثلًا تلك المشكلة الصغيرة المتعلقة بالطفل. لم نستطع أنا وأمي الاتفاق حول الأمر. كان منزلنا هو الوحيد في البناية الذي لا يضم طفلًا جديدًا. قالت لي أمي إننا لا نستطيع تحمّل تكلفة شراء طفل حتى يعود أبي من الحرب لأن ثمنه باهظ. ذلك كان دالًا على مدى تباسطها معي. عائلة جيني المجاورة لنا كان لديها طفل جديد، والجميع يعرف أنهم لا يستطيعون دفع مبلغ كبير لشرائه. قلت لنفسي إنه ربما يكون طفلًا رخيصًا. كانت أمي تريد شيئًا جيدًا حقًا، ولكنني شعرت بأنها متطلبة للغاية؛ طفل عائلة جيني كان مناسبًا لنا.

بعد أن حددت خططي لهذا اليوم؛ نهضت ثم وضعت كرسيًا تحت نافذة العُليّة ورفعت الإطار بما يكفي لإخراج رأسي. كانت النافذة تظل على الحدائق الأمامية للتراس خلف منزلنا، ومن ورائها يمتد واد عميق نحو المنازل العالية المبنية بالطوب الأحمر، والمتراصة على الجانب المقابل من التل. كانت تلك المنازل العالية لا تزال غائمة، بينما المنازل الأخرى على جانبي الوادي مضاءة بالكامل، رغم الظلال الغريبة الممشوقة التي جعلتها تبدو بصرامة طلائها على نحو غير مألوف.   

بعد ذلك دخلت غرفة أمي، وتسلقت السرير الكبير، وحين استيقَطت بدأت أخبرها بمخططاتي. في هذه الأثناء، رغم أنني لم ألحظ ذلك، كنت متجمدًا في قميص نومي، ورحت أذوب أثناء حديثي حتى غفوت بجانبها عندما اكتمل ذوبان جليدي. لم أستيقظ ثانية إلا حين سمعت صوتها في الأسفل وهي تعد الإفطار داخل المطبخ.

بعد الإفطار ذهبنا إلى المدينة؛ حضرنا القداس في كنيسة القديس أوغسطين وتشاركنا في صلاة من أجل أبي ثم قمنا بالتسوق. كنا نذهب في نزهة إلى الريف لو كان طقس الظهيرة لطيفًا أو نتوجه لزيارة الصديقة العزيزة لوالدتي الأم القديسة دومينيك في الدير. كانت أمي تجعل الجميع يصلون من أجل أبي، وكل ليلة، قبل النوم، كنت أسأل الله أن يعيده إلينا سالمًا من الحرب. بحق؛ لم أكن أعرف من الذي أصلي من أجله إلا قليلًا.

في صباح أحد الأيدام، دخلت إلى السرير الكبير، وهناك، كما هو متوقع، كان أبي موجودًا بطريقته المعتادة مثل سانتا كلوز، لكنه لاحقًا استبدل الزي العسكري بأفضل بدلة زرقاء لديه، وكانت أمي سعيدة للغاية. لم أجد ما يدعو للسعادة. كان أبي بدون زيه العسكري أقل جاذبية تمامًا. لكن أمي كانت تبتسم وتشرح لنا أن صلواتنا قد استجيبت ثم انطلقنا إلى القداس لنشكر الله على عودة الأب سالمًا إلى المنزل.

للمفارقة! في ذلك اليوم بالذات عندما جاء لتناول العشاء؛ خلع حذاءه وارتدى خُفَّه، وكذلك القبعة القديمة القذرة التي كان يستعملها في البيت ليحمي نفسه من الزكام ثم عقد ساقيه وبدأ يتحدث بجدية إلى أمي التي بدت قلقة. بطبيعة الحال لم أحب مظهرها القلق لأنه كان يدمر جمالها، لذا قاطعته.

“لحظة واحدة، لاري!” قالت برفق.

كان هذا فقط ما اعتادت أن تقوله عندما يكون لدينا زوّار مملون، لذا لم أعط أهمية للأمر وتابعت الحديث.

“كن هادئًا، لاري!” قالت بنفاد صبر … “ألا تسمعني أتحدث مع بابا؟”

كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها تلك الكلمات المشؤومة “أتحدث مع بابا”.

لم أستطع إلا أن أشعر بأنه إذا كانت هذه هي طريقة الله في الاستجابة للدعوات فإنه حتمًا لا يستمع إليها بتركيز كامل.

“لماذا تتحدثين إلى بابا؟” سألت بأقصى ما استطعت إظهاره من اللامبالاة.

“لأن بابا وأنا لدينا أمورًا يجب مناقشتها. الآن، لا تقاطعنا مرة أخرى!”.

في فترة ما بعد الظهر، بناءً على طلب أمي، أخذني أبي في نزهة. هذه المرة ذهبنا إلى المدينة بدلًا من الريف، وتصورت في البداية، بتفاؤلي المعهود، أن ذلك قد يكون تحسّنًا. لم يكن الأمر كذلك. كان لأبي وأنا مفاهيم مختلفة تمامًا عن التنزه في المدينة. لم يكن لديه اهتمامًا حقيقيًا بالترام والسفن والخيول، وكان الشيء الوحيد الذي بدا أنه يسليه هو التحدث مع رفاق في مثل عمره. كلما أردت التوقف كان يستمر في المشي ببساطة ويده تسحبني خلفه، وعندما يريد التوقف لا يكون لدي خيار سوى فعل الشيء نفسه. لاحظت أن اتكاءه على الحائط هو علامة رغبته في التوقف لفترة طويلة. في المرة الثانية التي رأيته يفعل ذلك ثار جنوني. بدا وكأنه يستقر هناك إلى الأبد. جذبته من معطفه وسرواله، لكن أبي، على عكس أمي التي حين كنت أشدها بقوة تقول غاضبة: “لاري، إن لم تكن مهذبًا سأصفعك بقوة”، كان لديه قدرة غير عادية على عدم الاكتراث بشكل لطيف. قمت بتقييمه متساءلًا إن كان بكائي سيكون مجديًا الآن. لكن أبي بدا بعيدًا جدًا عن أن يزعجه ذلك. حقًا، كان الأمر كأني في نزهة على الأقدام مع جبل! إما أن يتجاهل الجذب واللكم تمامًا، أو ينظر إلى الأسفل بابتسامة التلهي من قمته العالية. لم ألتق أبدًا بأحد منغمسًا في نفسه كما بدا أبي. 

في وقت الشاي، وحينما بدأ الحديث بين أمي وأبي مرة أخرى، بدا الأمر معقدًا هذه المرة بحقيقة أن أبي لديه صحيفة مسائية، كل بضعة دقائق يضعها جانبًا ليخبر أمي بشيء جديد منها. شعرت أن ذلك لعب غير نزيه.

كنت مستعدًا للتنافس معه “رجل لرجل”في أي وقت على انتباه أمي، لكن عندما يحوذ شيئًا معدًا له من قِبل الآخرين فإن ذلك لا يترك لي أي فرصة. حاولت مرات عدة تغيير الموضوع دون جدوى.

“يجب أن تكون هادئًا بينما بابا يقرأ”… قالت أمي بضيق.

كان من الواضح أنها إما تحب الحديث مع أبي حقًا أكثر مني، أو أن لديه سيطرة رهيبة عليها تجعلها تخشى الاعتراف بالحقيقة.

“ماما” .. قلت تلك الليلة عندما كانت تضعني في السرير، “هل تعتقدين أنه إذا صليت بخشوع فإن الله سيرسل أبي إلى الحرب مرة أخرى؟” …

بدت وكأنها تفكر في ذلك للحظة …

“لا يا عزيزي” .. قالت مبتسمة “لا أعتقد أنه سيفعل”.

“لماذا لن يفعل، ماما؟” …

“لأنه لم يعد هناك حرب، عزيزي” …

“لكن، ماما، ألا يستطيع الله أن يجعل حربًا أخرى تحدث إذا أراد؟”  …

“لن يرغب في ذلك عزيزي. ليس الله من يصنع الحروب، بل الأشرار” …

“أوه” قلت …

كنت محبطًا من ذلك، وبدأت أفكر في أن الله لم يكن كما اعتقدت تمامًا.

صباح اليوم التالي استيقظت في ساعتي المعتادة، شعرت كأني ثمل. وضعت قدميّ على الأرض وابتكرت محادثة طويلة تكلمت فيها السيدة اليمنى عن المشكلات التي واجهتها مع والدها حتى أدخلته دار الرعاية. لم أكن أعرف تمامًا ما هي دار الرعاية، لكن بدا أنها المكان المناسب لأبي. ثم أخرجت كرسيًا وأطللت برأسي من نافذة العُلّية. كانت خيوط الفجر تتسلل بهالة غامضة من الذنب جعلتني أشعر كما لو أنني ضبطتها لحظة ارتكاب فعل سيء. كان رأسي ممتلئًا بالقصص والمخططات، فتسللت عبر الظلام الدامس إلى السرير الكبير. لم يكن هناك مكان يجاور أمي، لذا كان عليّ التحرك إلى ما بينها وأبي. في تلك اللحظة نسيت أمره، ولدقائق عدة جلست منتصبًا، أبحث في ذهني عما يمكنني القيام به تجاهه. كان يأخذ أكثر من حصته العادلة في السرير. لم أستطع أن أكون مرتاحًا، لذا ركلته مرات عدة جعلته ينخر ويتمطى، لكنه أفسح المجال بشكل جيد. استيقظت أمي وأخذت تتطلع نحوي. 

استقررت بشكل مريح في دفء السرير وإبهامي داخل فمي.

“ماما!” همهمت بصوت عال وراض.

“شش! عزيزي” … همست “لا توقظ بابا!” …

كان هذا تطورًا جديدًا، يهدد بحزم أكبر من “التحدث إلى بابا”. الحياة بدون مؤتمراتي الصباحية المبكرة لم تكن محتملة.

“لماذا؟” سألت بجدية …

“لأن بابا المسكين متعب” …

بدا لي ذلك سببًا غير كاف بالتأكيد، كما أصابتني العاطفية في “بابا المسكين” بالاشمئزاز. لم أحب هذا النوع من المبالغات؛ إذ تبدو لي دائمًا كدليل على عدم الصدق.

“أوه!” قلت بخفة، ثم بنبرة ساحرة: “هل تعرفين إلى أين أريد أن أذهب معكِ اليوم، ماما؟” …

“لا، عزيزي”، تنهدت …

“أريد أن أذهب إلى نهر جلين وأصطاد السمك الشوكي بشبكتي الجديدة، ثم أريد أن أذهب إلى ساحة فوكس آند هاوندز، و …” …

“لا توقظ بابا!” همست بغضب، واضعة يدها على فمي.

لكن فات الأوان. كان مستيقظًا أو قريبًا من ذلك. تذمر ومد يده نحو أعواد الثقاب، ثم حدّق بدهشة في ساعته.

“كوب من الشاي، عزيزي؟” سألته أمي بصوت وديع وخافت لم أسمعها تستخدمه من قبل . بدا وكأنها خائفة تقريبًا.

“شاي؟” صرخ بغضب. “هل تعرفين كم الساعة؟” …

“وبعد ذلك أريد أن أذهب إلى طريق راثكوني” قلت بصوت عالٍ، خائفًا من أنسى شيئًا مع كل تلك المقاطعات.

“اذهب إلى النوم فورًا، لاري!” قالت بحدة.

بدأت أذرف الدموع. لم أستطع التركيز أمام الطريقة التي استمر بها ذلك الثنائي في معاملتي، وكان خنق مخططاتي في الصباح الباكر كدفن عائلة من المهد.

لم يقل أبي شيئًا. أشعل غليونه وامتص الدخان وهو ينظر إلى الظلال دون أن يهتم بأمي أو بي. كنت أعلم أنه ساخط للغاية. كلما أبديت ملاحظة، أخرستني أمي بغضب. شعرت بالخوف. كنت أرى أن ذلك ليس عادلًا، وينطوي على شيء شرير. كلما أشرت لأمي إلى الإهدار في تجهيز سريرين بينما يمكننا النوم في سرير واحد؛ كانت تخبرني أن ذلك صحيًا أكثر، والآن ها هو هذا الرجل، هذا الغريب، ينام معها دون أدنى اعتبار لصحتها! استيقظ مبكرًا وأعد الشاي، وبالرغم من أنه أحضر لأمي فنجانًا إلا أنه لم يحضر لي أي شيء.

“ماما” صرخت .. “أريد فنجان شاي أيضًا” …

“نعم، عزيزي” قالت بصبر .. “يمكنك الشرب من فنجان ماما”.

هذا ما حسم الأمر. إما أن يغادر أبي أو أغادر أنا المنزل. لم أكن أرغب في الشرب من فنجان أمي. كنت أريد أن أعامل بمساواة في منزلي. لذا، فقط لأغيظها، شربت الشاي كله، ولم أترك لها شيئًا. تقبلت هي ذلك بهدوء أيضًا.

لكن في تلك الليلة، وبينما كانت تضعني في السرير، قالت بلطف:

“لاري، أريدك أن تعدني بشيء”.

“ما هو؟” سألت …

“ألا تدخل وتزعج والدك المسكين في الصباح، وعد؟” …

“والدي المسكين” مرة أخرى! كنت أشعر بالشك في كل شيء يتعلق بذلك الرجل المستحيل.

“لماذا؟” سألت.

“لأن بابا المسكين قلق ومتعب ولا ينام جيدًا” …

“لماذا لا ينام أمي؟” …

“حسنًا، أنت تعرف، أليس كذلك، بينما كان بابا في الحرب، كانت أمك تحصل على البنسات من مكتب البريد؟” …

“من الآنسة ماكارثي؟” …

“صحيح، لكن الآن، كما ترى، لم تعد الآنسة ماكارثي تملك المزيد من البنسات، لذا يجب على بابا أن يخرج ليجد لنا بعضًا منها. هل تعرف ماذا سيحدث إذا لم يستطع؟” …

“لا” قلت …  

“حسنًا، أعتقد أننا قد نضطر للخروج والتسول مثل تلك العجوز المسكينة في أيام الجمعة. نحن لن نحب ذلك، صحيح؟” …

“لا” وافقت. “لن نحب ذلك” …

“لذا ستعدني ألا تدخل وتوقظه؟” …

“أعدك” …

أعلم أنني كنت جادًا في ذلك. كنت أدرك أن النقود مسألة جوهرية، وكنت ضد الاضطرار إلى الخروج والتسول مثل العجوز في يوم الجمعة. وضعت أمي جميع ألعابي في دائرة كاملة حول السرير بحيث يكون سقوطي حتميًا فوق أي منها مهما كانت الطريقة التي سأحاول الخروج بها من ذلك الحصار.

تذكرت وعدي تمامًا عندما استيقظت. نهضت وجلست على الأرض ولعبت ـ لساعات كما بدا لي ـ ثم أحضرت كرسيًا ونظرت من نافذة العُلّية لساعات أخرى. كنت أتمنى أن يحين وقت استيقاظ أبي، أن يعد لي أحد كوبًا من الشاي. لم أشعر بحرارة الشمس على الإطلاق. كنت أشعر بملل عارم وبرد قارص. أشتاق ببساطة إلى دفء وعمق فراش الريش الكبير.

أخيرًا لم يعد بوسعي التحمّل أكثر من ذلك. دخلت إلى الغرفة المجاورة، وبما أنه لم يكن هناك مكان بجانب أمي فقد تسلقت فوقها. استيقظت من جديد …

“لاري” همست ممسكة ذراعي بشدة “ماذا وعدتني؟” …

“لكنني فعلت، ماما” صرخت عالقًا في المصيدة .. “كنت هادئًا لفترة طويلة جدًا” …

“أوه، عزيزي، أنت متجمد!” قالت بحزن، وهي تتحسسني في كل مكان .. “الآن، إذا سمحت لك  بالبقاء؛ هل ستعدني ألا تتحدث؟” …

“لكنني أريد أن أتكلم، ماما” صرخت باكيًا …

“هذا لا يصح” قالت بحزم غير معتاد بالنسبة لي .. “بابا يريد أن ينام، هل تفهم ذلك؟” … 

فهمت ذلك جيدًا. كنت أرغب في التحدث، وكان هو يريد أن ينام. أي بيت هذا على أي حال؟

“ماما” قلت بحزم مماثل. “أعتقد أنه سيكون أفضل لأبي أن ينام في سريره الخاص”.

بدت مذهولة من هذه العبارة لأنها لم تقل شيئًا لفترة.

“الآن، مرة واحدة وإلى الأبد” تابعت، “يجب أن تكون هادئًا تمامًا أو تعود إلى سريرك. ماذا ستختار؟” …

أحبطني ذلك الظلم. كان يدينها التناقض وعدم المنطق. لم أحاول حتى الرد. ممتلئًا بالضغينة ركلت أبي. لم ينتبه لذلك لكنه أصدر تأوهًا وفتح عينيه في هلع.

“ما الوقت الآن؟” سأل بصوت مذعور ولم يكن ينظر لأمي وإنما إلى الباب، كما لو كان يرى شخصًا هناك.

“ما زال الوقت مبكرًا” أجابت بهدوء .. “إنه فقط الطفل. عد إلى النوم مرة أخرى، الآن لاري” أضافت، وهي تخرج من السرير “لقد أيقظت بابا وعليك العودة”.

في هذه المرة، ورغم هدوئها، كنت أعلم أنها تعني ما تقوله مثلما أعلم أن حقوقي وامتيازاتي الرئيسية قد ضاعت تقريبًا ما لم أصرّ على التمسك بها وتأكيدها فورًا. عندما رفعتني أمي أطلقت صرخة تكفي لإيقاظ الموتى. أطلق أبي زفرة “ذلك الطفل اللعين! ألا ينام أبدًا؟” …

“إنها مجرد عادة، عزيزي” قالت بهدوء، رغم أنني كنت أبصر اضطرابها …

“حسنًا، حان الوقت ليخرج من هنا” صرخ أبي وبدأ يتقلب في السرير. جمع فجأة كل الأغطية حوله والتفت نحو الحائط ثم نظر إلى الوراء من فوق كتفه، دون أن يظهر منه سوى عينان صغيرتان، خبيثتان، وداكنتان. بدا الرجل شريرًا جدًا.

لكي تفتح باب غرفة النوم كان على أمي أن تتركني. فككت نفسي واندفعت صارخًا نحو الزاوية البعيدة. كان أبي يجلس في السرير منتصبًا.

“إخرس، أيها الجرو الصغير!” قال بصوت مختنق …

كنت مذهولًا لدرجة أنني توقفت عن الصراخ. لم يتحدث إليّ أحد بتلك النبرة من قبل. حدقت إليه بذهول ورأيت وجهه مشوّهًا بالتشنجات. عندئذ فقط أدركت تمامًا كيف أن الله قد أكرمني لدرجة التدليل حين استجاب إلى صلواتي من أجل العودة الآمنة لهذا الوحش.

“إخرس، أنت!” صرخت وأنا في ذروة الغضب …

“ماذا قلت؟” صرخ أبي قافزًا من السرير بعنف …

“ميك، ميك!” صاحت أمي .. “ألا ترى أن الطفل غير معتاد عليك؟” …

“أرى أنه يتغذّى أكثر مما يتعلم” زمجر أبي ملوحًا بذراعيه …

“يحتاج أن تُصفع مؤخرته” …

كان كل صراخه السابق لا شيء مقارنة بهذه الكلمات الفاحشة التي يقصدني بها. جعل دمائي تغلي بحق.

“اضرب نفسك!” صرخت بشكل هستيري” .. “اضرب نفسك! اسكت! اسكت!”…

عندئذ فقد صبره وبدأ يهاجمني. فعل ذلك دون الإقناع المتوقع من رجل تحت بصر الأم المذهولة. انتهى الأمر بضربة خفيفة وحسب، لكن الإهانة البالغة الناجمة عن تعرّضي للضرب بسبب تدخلاتي البريئة من غريب، غريب تمامًا، تسلل إلى سريرنا الكبير؛ هذه الإهانة جعلتني أجن كليًا. صرخت وصرخت، ورحت أرقص حافي القدمين أمامه. كان يبدو محرجًا، وشعره كثيفًا تحت قميص الجيش الرمادي القصير، ويحدّق إليّ كجبل يوشك على السقوط فوقي. أعتقد أنها كانت اللحظة التي أدركت فيها بأنه يشعر بالغيرة أيضًا. كانت أمي واقفة في ثوب نومها، تبدو كما لو أن قلبها محطم بيننا. كنت آمل أن تشعر بما يوحي مظهرها لي. بدت في عينيّ أنها تستحق كل ذلك.

منذ ذلك الصباح أصبحت حياتي جحيمًا. كنت أنا وأبي  عدوين بشكل معلن. نقوم بسلسلة من المناوشات ضد بعضنا حيث كان يحاول سرقة وقتي مع أمي، وأنا أحاول سرقة وقته معها. عندما كانت تجلس في سريري لتروي لي قصة؛ كان يبحث عن زوج من الأحذية القديمة التي زعم أنه تركها في بداية الحرب. أثناء حديثه مع أمي؛ كنت أصدر جلبة وأنا ألهو بألعابي لكي أظهر عدم اهتمامي التام. في إحدى الأمسيات حدث المشهد الأكثر احتدامًا عندما عاد من العمل ووجدني ألعب بشاراته العسكرية، وسكاكين جورخا، وعصي الأزرار؛ نهضت أمي وأخذت الصندوق مني.   

“لا يجب أن تلعب بألعاب والدك إلا إذا سمح لك بذلك، لاري” قالت بصرامة .. “والدك لا يلعب بألعابك” …

لسبب ما نظر أبي إلى أمي كما لو أنها لكمته ثم ابتعد عنا عابسًا …

“تلك ليست ألعابًا” قال بتجهم وهو يتفحص الصندوق ليرى إذا كنت قد أخذت شيئًا .. “بعض التذكارات نادرة جدًا وقيّمة” …

لكن مع مرور الوقت تبينت أكثر كيف تمكن من إبعاد أمي عني، وما زاد الأمر سوءًا هو أنني لم أستطع فهم طريقته أو إدراك ما يجذبه لأمي. كان في كل وسيلة ممكنة يبدو أقل جاذبية مني. لهجته عادية، ويصدر أصواتًا أثناء شرب الشاي. اعتقدت لفترة أن ما يثير اهتمامها هو الصحف، لذا اخترعت بعض الأخبار الخاصة بي لأقرؤها لها. ثم اعتقدت أنه قد يكون التدخين، وهو ما كنت أراه جذابًا بالفعل؛ فأخذت أنابيب التبغ وبدأت أعبث بها في المنزل حتى أمسك بي. لدرجة أنني كنت أصدر أصواتًا أثناء شرب الشاي، لكن أمي حينئذ فقط أخبرتني أنني مقرف. بدا أن كل شيء يدور حول تلك العادة غير الصحية في النوم معًا، لذا قررت أن أذهب إلى غرفة نومهما وأتجسس عليهما كاتمًا أنفاسي حتي لا يعرفا أنني أراقبهما، لكنهما لم يفعلا شيئًا يمكنني رؤيته. في النهاية هزمني. بدا الأمر وكأنه يعتمد على أن تكون بالغًا وتعطي الناس خواتم. أدركت أنه سيتعيّن عليّ الانتظار.

لكنني في الوقت نفسه أردت إفهام أبي أنني أنتظر فحسب، ولم أستسلم في الحرب بيننا. ذات أمسية كان مزعجًا للغاية، يتحدث بإفراط فوق رأسي. قررت حينئذ أن أطلق العنان لنفسي …

“أمي”، قلت، “هل تعرفين ماذا سأفعل عندما أكبر؟”

“لا، عزيزي”، أجابت. “ماذا؟”

“سأتزوجك”، قلت بهدوء

أطلق أبي ضحكة قوية، لكنه لم يأخذ كلامي على محمل الجد. كنت أعلم أن ما قلته لن يؤخذ إلا كدعابة، ورغم ذلك، كانت أمي سعيدة. شعرت بأن ارتياحًا تسلل إليها حين عرفت أنها ذات يوم سوف تتحرر من قبضة أبي.

“ألن يكون ذلك لطيفًا؟” قالت مبتسمة.

“سيكون لطيفًا جدًا” قلت بثقة. “لأننا سننجب الكثير والكثير من الأطفال”.

“هذا صحيح عزيزي” قالت بهدوء. “أعتقد أنه سيكون لدينا واحدًا قريبًا، وعندئذ ستحصل على المزيد من الصحبة”.

كنت سعيدًا لأنها كشفت لي بأن استسلامها لأبي لا يمنعها من أخذ رغباتي بعين الاعتبار. كان من شأن ذلك أيضًا أن يضع عائلة جيني في مكانها المناسب مقارنة بنا.

لكن الأمر لم ينته على هذا النحو المثالي. أصبحت أمي مشغولة جدًا، وبالرغم من أن أبي قد بدأ يمضي المساء خارج البيت إلا أن ذلك لم يمنحني ميزة خاصة. توقفت أمي عن اصطحابي في نزهات، كما أصبحت حساسة للغاية، وتضربني بلا سبب على الإطلاق. تمنيت أحيانًا لو لم أذكر سيرة الطفل اللعين. بدا أن لدي موهبة في جلب الكوارث لنفسي. 

وحلت الكارثة! وصل سوني وسط ضجة مروّعة. ولم أحبه منذ اللحظة الأولى. كان طفلًا صعب المراس بالنسبة لي، ويتطلب الكثير من الانتباه. لم تكن أمي تستوعب بغبائها قدرة هذا الطفل على التظاهر. كان أسوء من أن يكون عديم الفائدة. ينام طوال اليوم، مما يضطرني للتحرك في المنزل على أطراف أصابعي تجنبًا لإيقاظه. لم يعد النهي متعلقًا بإيقاظ أبي، بل أصبح التحذير الآن هو “لا توقظ سوني!”. لم أفهم لماذا لا ينام الطفل في الوقت المناسب. لذا كلما أدارت أمي ظهرها لي وهو نائم كنت أقرصه لإبقائه مستيقظًا. ضبطتني أمي ذات يوم وأنا أفعل ذلك وضربتني بقسوة شديدة.

في إحدى الأمسيات عاد أبي من العمل وكنت ألعب بالقطارات في الحديقة الأمامية. تظاهرت بأنني لم ألحظ قدومه ثم ادعيت بأنني أتحدث إلى نفسي وقلت بصوت عال: “إذا جاء طفل آخر إلى هذا المنزل سوف أرحل”.

توقف أبي فجأة ونظر لي من فوق كتفه.

“ماذا قلت؟” سألني بصرامة.

“كنت أتحدث إلى نفسي فقط” رددت، محاولًا إخفاء ذعري. “إنه حديث خاص”.

استدار ودخل المنزل دون أن ينطق بكلمة. قصدت أن يكون ذلك تحذيرًا جادًا لكن تأثيره كان مختلفًا تمامًا. أصبح أبي لطيفًا جدًا معي. كنت أستوعب سر ذلك بالطبع. أفرطت أمي في الاهتمام بسونى، حتى في أوقات الوجبات كانت تنهض وتنظر إليه في المهد بابتسامة حمقاء، وتطلب من أبي أن يفعل الشيء نفسه. كان مهذبًا على الدوام حيال ذلك، لكنه أيضَا يبدو مرتبكًا للغاية وكأنك تستطيع أن ترى عجزه عن إدراك ما تتحدث عنه أمي. اشتكى من بكاء سوني في الليل، لكنها كانت تستاء فقط، وتقول إن سوني لا يبكي إلا عندما يكون هناك شيء خاطئ. كانت تلك كذبة مفضوحة، لأن سوني لم يكن لديه أي شيء، وكان يبكي لجذب الانتباه وحسب. كان مؤلمًا حقًا رؤية مدى سذاجتها، وبالرغم من أن أبي لم يكن جذابًا إلا أنه كان يتميز بذكاء عظيم. كان يرى ما يخفيه سوني، والآن عرف أنني أرى أيضًا ما يخفيه هو.

في إحدى الليالي استيقظت فجأة. كان ثمة شخص بجانبي في السرير. للحظة جامحة شعرت أنها أمي بالتأكيد وقد استعادت رشدها وقررت ترك أبي إلى الأبد. لكنني سمعت سونى يبكي متشنجًا في الغرفة المجاورة، وأمي تردد: “اهدأ حبيبي! اهدأ حبيبي! اهدأ حبيبي!” فعرفت أن هذا الشخص ليس هي. كان أبي مستلقيًا بجانبي، مستيقظًا تمامًا، يتنفس بصعوبة، ويبدو غاضبًا جدًا.

بعد لحظات عرفت سر نقمته. أتى عليه الدور الآن. بعد أن طردني من السرير الكبير تم طرده هو أيضًا. لم تعد أمي تأخذ أحدًا بعين الاعتبار سوى ذلك الجرو السام سوني. لم أستطع إنكار شعوري بالأسف تجاه أبي. لقد مررت بكل ذلك، وحتى في ذلك العمر كنت طيب القلب. بدأت أربت عليه وأقول: “اهدأ حبيبي! اهدأ حبيبي!”. لم يرد.

“ألن تنام أيضًا؟” قال بخشونة.
“آه هيا ضع ذراعك حولي. هل تستطيع؟” قلت، وقد فعل، بنوع من الحذر، أعتقد أن ذلك هو الوصف الأنسب. كان نحيفًا جدًا لكنه أفضل من لا شيء.

في عيد الميلاد، بذل قصارى جهده ليشتري لي نموذجًا رائعًا للسكك الحديدية. 

مقالات من نفس القسم