المحظية

موقع الكتابة الثقافي art 69
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيزابيل باثكيث

ترجمة: أحمد عويضة

ـ يبحث الناس عن المغامرات في طريق سانتياجو[1] ، يسألون الله في صلاةٍ طويلة، يتأملون معنى الحياة ويرغبون في تبرئة أنفسهم من الذنوب التي صنعوا، يقابلون أُناسًا، يعرفون أماكن، يتوقون إلى التواصل مع البيئة المُحيطة، ومع رفقائهم. يقولون إنك بقيامك بالمسير تُدرك روحك، ولكن في الحقيقة فإن ما تعيه هما قدميك.

ضحك ودفن وجهه في الوسادة. اسمه بيدرو.. باولو؟  لا أعرف، لقد مر وقت طويل.. كنت بالكاد بلغت العشرين من عمري. أتذكر أنه بغمازتين في خديه، وأنه كان يدرس الاتصالات، وأنني جعلته سعيدًا للغاية.

ـ أنا أتحدث بجدية. يعرف الحاج أبعاد تورم إصبع قدمه بالمليمتر، يلعن تلك النعال والأحذية التي ارتداها لأعوام، والتي سببت تلك الخشونة في ذلك المكان عينه الذي ترتكز عليه خطوته، خشونة لن تختفي قط. لا ألم يعادل ألم الأقدام.. تعذيب مستمر. كل خطوة هي تذكير بأنك ارتكبت أخطاء في حياتك.

ـ لم يسبق لي أن ضحكت لهذه الدرجة من الحديث عن الأقدام.

شرعنا في تبادل القبلات من جديد.

التقينا قبل ساعاتٍ في حفل مزعج، كنت أبحث في اقراص الأغاني المحدودة للمضيف عندما اقترب هو من مشغل الموسيقى. شغل أغنية Destination anywhere. سئم بيدرو.. بابلو، أو أيًا كان اسمه، من الاستماع لـ The Commitments مثلي.

ـ هل وجدتِ شيئًا؟

كان طويلًا، غريب الأطوار، وللوهلة الأولى بدا أخرقًا. سأكون كاذبة لو قلت أنه كان مثيرًا للإعجاب.

ـ ليس كثيرًا، نصف الاسطوانات غارقة في الرُم والكوكاكولا.

ـ تلك هي المرة الثالثة التي تصدح فيها تلك الأغنية، والفيلم أيضًا لم يكن بهذا السوء أيضًا.

فيض من الآراء المتسرعة لأجل إثارة الإعجاب، والكثير من ويسكي بالانتاينس وبعد ذلك جعلته يربض بين رجليّ في فراش صغير في شقة مشتركة تقع في شارع آلكالا. أثارتني الغمارتين أكثر من الويسكي، وبالنسبة له فكانت لهجتي هي ما قامت بذلك. ذلك المنزل لأحد أصدقاءه بالتأكيد، فالسرير صغيرًا عليه، حتى أن مشط قدمه كان يلامس حافته. لا أعرف كيف وصلنا من دبلن إلى جبل دي جوزو.

  • للحجاج أقدام كأقدام الرياضيين، تنتشر بها الفقاقيع، الإكزيما، التهاب الجلد التماسي، وبثور ذات أبعاد لا يمكن تصورها.
  • أنت تعرفين الكثير عن الأقدام، وعن الطريق.
  • ذلك لأنني (وأغمضتُ عيني في تدين زائف) إن كنت قد وصلت إلى هنا فبفضل الرسول.

لسبب ما لم يفهم تلك المزحة، وشعرت به يقشعر تحت الملاءة.

  • أنت…
  • جاليثية؟ اعتقدت أن ذلك واضح.
  • متدينة….

كان ذلك ساحرًا. سيصبح قاسيًا لو خدعته أكثر قليلًا وأخبرته أنني هربت من أخوية القديسة كلاريس المسكينة. عقل المهندس الناشيء الذي يحمله برمج نفسه على أنه ضاجع امرأة متحررة، لا أنه كان المرة الأولى لراهبة. قهقهتُ ضاحكة وأخبرته بالحقيقة.

  • تمتلك أمي صيدلية في قرية قريبة من سانتياجو، على الطريق الفرنسي.

زفر بارتياح.

  • وتستقبلين أنت الكثير من الحجاج الذين يحتاجون….

لقد كان يحب التفاصيل الأُخروية..

  • يمكن أن تشُم رائحة الحجاج من على مسافة بعيدة، وهذا ليس مجرد كلام. في الوقت الذي يصلون فيه إلى صيدلية أمي يكونون قد قطعوا حوالي سبعمائة كيلومترًا بنفس الثياب ونفس الأحذية، ينامون في أقبية الكنائس، على أكوام القش، يغسلون ملابسهم الداخلية وجواربهم في نافورة أو جدول، بنفس قطعة الصابون التي يغسلون بها وجوههم في الصباح. إنهم بحاجة لكل شيء.

لم أقص عليه الحقيقة كاملةً.

أردت أن أخفي مثلًا أن أمي اعتادت الشرب قبل ذلك الوقت بعامين، عندما أتمت الأربعين، في عام 93،  عام التقاعد في سانتياجو دي كومبوستيلا، وكان هذا هو الدافع الحقيقي وراء شروعي في الوقوف في الصيدلية، لنتجنب أن تقوم هي بذلك. أن تضحك على “كالّو” لشخص غريب شيء وأن تضحك على الهوس الكحولي لشخص يحبك بشدة شيء آخر. لازلت غير مستعدة للمزاح في هذا الأمر. كانت أمي تتجرع علبتين أو ثلاثة علب من البيرة أثناء تناول الطعام كل يوم. ثم تغفو حتى أذنيها لبرهة وبعد ذلك تذهب إلى العمل مباشرة. ورغم غسول الفم برائحة النعناع الذي تستخدمه بكثافة إلا أن الرائحة الكريهة ظلت موجودة، وصارت هي مشتتة أكثر فأكثر.

” لقد طلبت منك نولوتيل يا جلوريا، وليس سيكريبات.”.

صيدلانية سكرانة في قرية تعداد سكانها سبعة آلاف نسمة أمر لا يظل خفيًا لوقت طويل، وبدأ الناس يتحدثون. لذلك حصلت على شهادتي كمساعد صيدلي. رسبت في دورة التوجيه الجامعي (COU)، وقضيت العام التالي في إعادة الدراسة بعد الظهر. COU بأحرف واضحة، تقضي على أي شكوك حول استمرار عملنا.

هذا ما قصصته على باولو.

  • أردت الخروج من هناك بشدة.
  • لكن إن كانت هناك كلية في سانتياجو والصيدلية جاهزة بالفعل…

أطلقت زفرة ملل. المهندس عملي وعقلاني.

  • هكذا تقول السيدات في قريتي أكملي درب أمك وجدك.

ألقى بابلو بجسده فوقي، وفعلناها مرة أخرى.

  • هل أذكرك بسيدات قريتك؟

إحدى مزايا بيدرو.. بابلو، هي السهولة التي يعيد بها التقاط خيط الحديث – بعد أن ننتهي من المضاجعة – من حيث توقفنا بالضبط.

  • إذن فأنت أردتِ كسر تقاليد الأسرة.

في الحقيقة فتلك كانت إحدى أسباب مشاحناتنا اليومية أنا وأمي في الأشهر الأخيرة لي في المنزل، نقاشات تنتهي دائمًا بالصراخ: أنتِ وهراء رسمك، لديك كل شيء هنا، لا تظني أنك ستعيشين حياة سهلة في مدريد، حان الوقت لتتحملي العبء معنا، لقد عملت بجد طوال حياتي، إن كنت لا تريدين الدراسة فهذ مشكلتك. لن تري مني بيزيتا واحدة.

 بعد إعفاءها من الوردية المسائية، أصبحت تضع وجبة خفيفة على المائدة وتفتح العلبة تلو العلبة حتى تسقط نائمة في الفراش. تم قبولي وقتها في كلية الفنون الجميلة في مدريد وستبدأ الدراسة في العام الذي يليه، لكني كنت أحتاج إلى ثلاثين ألف بيزيتا للتسجيل، مبلغ لن تمنحه لي أمي، والموعد النهائي في غضون أسبوع.

عندئذ ظهرت هي.

أشعل بابلو سيجارة وسأل:

  • هل هذه إحدى حكايات الطريق؟
  • والأقدام.

مقارنة بالحج في العام السابق فالقرية كانت قاحلة في ذلك الصيف. تدفق الحجاج لا يزال مضطربًا غير منتظم، بالكاد يعبر رواق المجد بضع مئات من المنتصرين في كل فصل. كان ذلك قبل أسبوع من كسر تاسوتي لأنف لويس إنريكي في مونديال الولايات المتحدة، وبدأ إندوريان طواف فرنسا بشكلٍ ضعيف، ولكن في القرية لم يدُر الحديث إلا عنها: الممثلة الأمريكية التي خرجت من رونثيسبايس وقضت شهرًا في الهرب من الصحفيين والفضوليين. أخبرني خواكين، زميلي المزعج في  المعهد والذي يعمل مصورًا فوتوغرافيًا في سانتياجو، وتتبع الممثلة من نُزل إلى نزل، بأن المنافسة في الفترة الأخيرة صارت شرسة. الصحف في كل مكان. أودع كل الصور في وكالة وطنية مع وعد بإنهاء الريبورتاج بالتقاط صورٍ حصرية للنجمة السينمائية وهي تعانق تمثال القديس.

في ساعة متأخرة من النهار دخلتْ إلى الصيدلية، مجهدة تتصبب عرقًا، تتظاهر برباطة الجأش بعد سباقٍ في شوارع القرية لتهرب من المزعجين. تُشبه صورة مرسومة. أرادت أن تمر خِفية بقبعة ضخمة سخيفة تُغطي حتى أذنيها ومعطف مطر باهظ الثمن بلون الليلك، بدت كأنها يانكي من الثمانينات. ثم، الآثار الحتمية للحج.. الجلد المتشقق الممتلئ بالبقع، الأظافر السوداء المتكسرة، الأحذية الممزقة، ورغم أنها أخفت العينين المشاغبتين -السمة الأكثر تميزًا في ملامحها- خلف نظارة سوداء مستديرة العدسات كمغنية قديمة، إلا أنني تعرفت على خصلات الشعر الأحمر الملتصق بعنقها وفمها المقوس دون أن تبتسم مما يُعطي شعورًا بالتواطؤ الخفيف. كانتْ قد بلغتْ الستين في ذلك الوقت، وترعرتُ وأنا أشاهد أفلامها مثل الجميع. إنها إحدى النجمات التي لدى كل واحد من مشاهديها ذكرى مفضلة لها. 

بابلو:

  • دائمًا ما أبكي في نهاية فيلم شروط إظهار العاطفة.

قرفصتْ وراء ماكيت طفل عملاق من الورق المقوى، إعلان لشركة ألبان صناعية، ألقت نظرة إلى الشارع من خلال الفاترينة الزجاجية لتتأكد بأنها في أمان، ثم اقتربت من “البنك” وهي تعرج.

  • أهلا.. معذرة.. آه.. أريد إبـر….

قاطعتها وأنا أجيب بالإنجليزية:

  • إبرة تقطيب جروح؟

أومأت برأسها ممتنة.

  • وماء أكسجين وقطن وضمادات..

قالت الكلمة الأخيرة بالإسبانية، بلسانٍ ثقيل يلتصق بسقف الحلق.

جمعتُ المطلوب ووضعته بجوار الخزينة، وبصرها لازال معلقًا بالشارع، ولتكسب بعض الوقت لتستعيد اتزانها، شرعت في إخراج حافظة نقودها دون عجلة. عدلت من وقفتها لأن رجلها اليسرى آلمتها.

  • تقرحات؟

أومأت برأسها وهي تعدل نظارتها وقالت:

  • من المفترض أنني اعتدت هذه الأشياء، لكن تلك ظهرت اليوم فجأة. لقد تخليت عن كل ما كان معي، ولا أحمل الآن حتى حقيبة ظهر، وليس لديّ ما أريد أن أرتاح منه.

سألت لنفسي: كم مرة سيتسنى لك في الحياة أن تسدي معروفًا لأحد أساطير هوليود؟

  • حانت ساعة الإغلاق.. لا أظن أن أحدًا آخر سيأتي.. هل ترغبين في الدخول إلى الغرفة الخلفية لتُعالجي نفسك؟

تطلعت إلى وجهي للمرة الأولى، وشعرتْ – لسبب وجيه- أن ذلك لم يكن عرضًا متاحًا لجميع الحجاج وأنني على دراية بها وبمكانتها.

  • أنت لطيفة جدًا.

عن قرب يبدو المشاهير فجّين وفاقدين للأمان. نحن نفترض أننا نشعر بالألفة نحوهم بسبب الساعات الطويلة من الخيال التي نقضيها بصحبتهم، ولكن الحقيقة ليست كذلك، وهذا ما يشتتنا. كانت مهذبة ومتحفظة في نفس الوقت، هادئة، تحسب كل عبارة تنطق بها حسبة استراتيجية، كأنها آلية دفاع قد تعلمتها.

جلست على الكرسي منتصبة، كراقصة محترفة. شمّرت كميها وخلعت نظارتها. قضت يرقات الفراشات وقتًا ممتعًا على ساعديها. الأسابيع التي قضتها في النُزل الإجتماعية نسفت حشمتها، خلعت الجورب وكأنه غلاف ورقي لـ “كب كيك” وكشفت عن قدمٍ بدائية متوحشة. وكأنها حافر. الجروح والعلامات منتشرة حتى في باطن القدم وبين الأصابع.

  • هذا هي سان جين بيد دي بورت، (مازحة) الأول لا يُنسى قط، وهذا في سوبيري، وهنا بورجوس، كاستروخيريث، بونفيرادا، مانسيا دي لاس مولاس، آستورجا، وهذا.. هذا.. بورتومارين.

جرح بورتومارين يغطي كل الكعب تقريبًا.

  • تسميتها هي أقل ما يمكن أن أفعله، لقد رافقتني طوال الطريق.

مزقتْ غلاف إبرة التقطيب.

  • كان أبي يقول: من يسافر وحيدًا يسافر اسرع.. عنده حق.

غمزت لي وشرعت في تقطيب بورتومارين، تغرز الإبرة في جانب وتمررها إلى الجانب الآخر بمهارة، تابعت الخيط وهو يطفو فوق السائل اللمفاوي والتقرحات تتسرب خارجًا من الثقوب المقابلة.

  • باطن القدم والروح هما نفس الشيء – ثم تهجت الكلمتين بالانجليزية – s-o-l-e وs-o-u-l.. كتابتهما مختلفة لكن نطقهما واحد.

لا أظن أنها ترغب في الحديث، هي فقط تريد أن تعرب عن امتنانها فبدأت محادثة بشكلٍ عادي من نقطة مجهولة في الزمان والمكان، لأن تلك الممثلة المبهرة مهووسة بالتناسخ ووحدة الروح، ولأن مشقة الحج قد زادت من أوهامها الصوفية. وسرعان ما عددت لي حيواتها السابقة، وكشفت لي بالتفصيل عن الرؤيا التي كُشِفت لها بينما كانت تغفو تحت شجرةٍ قُرب فونثيبادون، عن ذلك السياسي السويدي الذي كان حبيبها لسنواتٍ وقُتِل بالرصاص في الشارع أثناء ذهابه إلى السينما منذ عدة سنوات.

اعتدل بابلو جالسًا في الفراش فجأة..

  • انتظري انتظري.. هل تقولين بأن شيرلي ماكلاين كانت حبيبة أولوف بالم؟
  • من؟
  • أولوف بالم، رئيس الوزراء السويدي الذي أُغتيل عام 86.
  • في عام 86 كنت أتناول.
  • يا لها من صدمة!
  • لنرى إن كنت ستصدق كل شيء. أخبرتني أيضًا أنه قبل لقاءهما الأول في نيويورك، فقد التقت هي والسياسي السويدي في القرن التاسع، كان هو شارلمان وهي أمة مغاربية.
  • لا لا لا..
  • ليس لدي ما يكفي من الخيال لاختراع شيء من هذا القبيل.

الحجاج يصلون ممسوسين بعض الشيء في النهاية. تلعثمت وأنا أقول كلمات مثل أوه، ياله من شيء مثير، وأنا عاجرة عن إخفاء شكوكي حول اعترافاتها الميتافيزيقية. كبحتْ ابتسامة ساخرة تقول بها أنها واثقة من أنها تحكي حقيقة أكيدة قلّما يفهمها أحد. زمتْ شفتيها ورفعت حاجبيها، تلك طريقتها الساخرة، إشارة للثقة موجهة إلي تقول بها ماذا يُمكن لهذه القروية أن تعرف عن الحقائق المتسامية.

  • عند الفجر سأدخل سانتياجو، سأمشي طوال الليل وحدي ويجب أن أكون مرتاحة.

شكرتها في داخلي لتغيير الموضوع. سكبتْ بعض ماء الأوكسيجين على التقرحات للمرة الأخيرة وتركتها تجف في الهواء. خفت أن أكون قد أسأت إليها وكان كل ما أفكر فيه هو أن أتملقها بعض الشيء قبل أن تُغادر.

بحثتُ في خزانة الصناديق الكبيرة وأخرجت باقة من الفوط الصحية.

  • نعم.. أعرف أنك تحتاجين إلى هذا.
  • أشكرك.

قالتها وضحكت بسخرية عند رؤيتها، ثم أتبعت:

  • لكن إذا كان هناك شيئًا لا أفتقده في الحقيقة فهو هذا.

ضحكت وقلت:

  • لا لا.. كثير من المشائين يقولون إن هذه الفوط الصحية أفضل من فرش الأحذية العادي. السليلوز طري وناعم، ملائم للجروح المفتوحة، ويمتص العرق.

أومأت وملأت الابتسامة وجهها لدرجة جعلت عينيها تضيقان حتى كادتا تختفيا.

  • يا لها من فكرة جيدة. هل رأيت؟ ننسى الأشياء غير الموجودة في محيطنا رغم أنها ضرورية. يجب أن نبذل جهدًا لنتذكر.

بصراحة، لم أفهم الرابط بين الفوطة الصحية والتناسخ، لكنها أشارت إليه بسعادة.

لف الظلام الطريق، سارتْ حتى باب الخروج دون أدنى مشكلة، وشكرتني. وكان ذهني خاويًا فلم أقل شيئًا.

  • لماذا قُمتِ بهذه الرحلة؟
  • لإنهائها.

أخرجت بضعة أوراق نقدية من حقيبة خصرها وتركتها فوق البنك دون أن تقول أي شيء. وعند الباب التفتت كي تقول وداعًا، وغمغمت:

  • إلى الأمام[2].

ورفعت كفها بعلامة النصر وغادرت.

تفاصيل الوداع، وأشياء أخرى، مكنتنا ، بابلو وأنا، من أن نجد تسلية حتى الفجر. لا لم أرها ثانية قط (كما أنني لن أرى بابلو أيضًا ثانية بعد تلك الليلة)، ونعم فالنقود التي أعطتني إياها غطت الفجوة، العسر، ومصاريف التسجيل. هؤلاء الأجانب، تلك القوة الإمبريالية، يتجولون حول العالم، يرمون الأوراق النقدية ويسببون الفوضى بتغيير العملات.

تلك هي الكذبة الأخيرة التي قصصتها على بابلو.

النقود على “البنك” كانت كثيرة، لكنها ليست كثيرة جدًا. يتبقى مبلغ ضئيل، لذلك غادرت على الفور. لم يكن العثور على خواكين صعبًا، دائمًا ما يقف عند نفس الجدار ليدخن السجائر كل يوم سبت مع زملاءه المعتادين. تخيل هو أن الممثلة نائمة تستريح بعد مطاردة الظهيرة، تستجمع قوتها للجزء الأخير من الرحلة، وأنها ستقضي هذا اليوم في استعادة القوى. قبل أن أعطيه المعلومة تفاوضت معه نقدًا وفي التو على المبلغ المتبقي لي حتى أبلغ الثلاثين ألف بيزيتا. لا.. لستُ نادمة على إخباره، وجب عليّ أن أرمي الحجر لأبلغ الهدف. بالإضافة إلى ذلك، فخواكين وصل قبل باقي الصحفيين لكنه لم يتمكن من إلتقاط صورة احتضان تمثال القديس: ليس مسموحًا بالتقاط الصور داخل الكنيسة دون تصريح، ذلك أمر يعرفه الجميع. الجميع ما عدا المدخنة خواكين.  

دعاني بابلو إلى الإفطار في بار يحمل رائحة دوكادوس والبيرة القديمة، وحيث الراديو وماكينة السلوت يعملان من الساعة الأولى. جلسنا في الركن على مقاعد من الفورمايكا تصدر أرجلها أصواتًا مزعجة للغاية عند جرها. رغبتُ في لقاءه مرة أخرى، وكتبت رقم هاتف منزلي على منديل بجوار شعار دلتا كوفي. لا أعرف هل بسبب آثار الثمالة أم قلة النوم، إلا أنه تذكر فجأة أن لديه صديقة. كل شيء مختلف في وضح النهار. لم يكن عنيفًا ولا غير مريح، لكن العجلة بادية عليه. رافقني إلى المترو بخطواتٍ ليست متلكئة وليست متعجلة، وقبلنا بعضنا قلة أخيرة، خلسة وبسرعة، ونزلت محطة مترو مانويل بيثيرا قفزًا درجتين درجتين.

…………………………….

* نُشِرت ضمن مجموعة قصصية بعنوان (حكايات الطريق) في مايو 2022

[1]  طريق سانتياجو، كامينو دي سانتياجو، أو طريق القديس يعقوب: هي شبكة من الطرق يسلكها الحجاج إلى مقام القديس يعقوب الرسول في كاتدرائية سانتياجو دى كومبوستيلا في جاليثيا، شمال غرب إسبانيا. وهذا الطريق مُدرج في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي باسم طريق سانتياجو دى كومبوستيلا.

[2] الكلمة الأصلية ulterya وهي كلمة مشتقة من اللاتينية وتعني (إلى الأمام) ويحيي بها الحجاج بعضهم للتحفيز على الاستمرار.

مقالات من نفس القسم