عزلة الفئران

موقع الكتابة الثقافي art
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فاروق

أنت كفأر وديع ، أشعث، قبيح، ستظل مطارداً في هذا العالم. أنت كفأر كسول ستقنع تماما، بفضلات هذا “السيد”، رغم أنك مللت فطائر البيتزا وبقايا ساندوتشات الهامبورجر، و لا تنس  أنك كفأر نسي رائحة حقول الحنطة، ستتكيف تماماً مع بقايا الكاتشب والمايونيز.سوف تضطر كفأر مسالم أن تشرب قطرات الكولا الدايت لأن السيد قرر أن يتبع حمية رغم الضرر البالغ الذي  تحدثه المواد الصناعية.

أنت كفأر مكافح لك زوجة وأطفال  غاية ما تريده هو أن تعود لهم سالما في المساء. القوم يتحدثون عن مخاطر محدقة، بنا نحن الفئران، يقولون إن هناك في هذا العالم ما يسمى بمصائد حديدية لكنها غير مرئية، لا تراها، بل تشعر بها فقط عندما تأكل قطعة الجبن، فتصطك بوابة حديدية وتصبح مسجونا في زنزانة ضيقة بأبعاد جسدك تنتظر قدوم الصياد ليقرر الساعة والطريقة التي تموت بها. بعض أصدقائك الفئران يقولون إن هذه خرافات،

وأنه ما من شيء إسمه مصائد بل هذا هو كلام أصحاب نظرية المؤامرة من الفئران الذين لديهم رواسب من قيم الغابة وتقاليد  البرية البالية. سيقول  الفأر الذي يسكن في إحدى متاجر الجبن الكبيرة إن واجبنا كفئران أن نحاول أن نرتقي ونتعايش في هذا العالم وإلا واجهنا الانقراض.لذا فعلينا بقبول الآخر والتكيف مع هذا العالم المتغير ولا نفكر أبداً بصنع عالم بقوانين جديدة. ستقتنع بكلام الفأر الذي يسكن متجر الجبن  عندما تأكل زوجتك الجبنة الفرنسية التي أهداها إليك ستذهب الى المنزل وتلثم شفتي زوجتك وتتجاهل رائحة الجبنة الريكفور المنبعثة  من فمها.

في العادة أنت تتوجس شراً عندما ترفع زوجتك ذيلها وتكشف لك عن  بياض مؤخرتها، أنت تعلم أن هذه الحركات هي لاستدراجك لمناطق الشهوة التي تكون فيها مستسلماً لمطالبها المادية ، لهذا ستقول لك وأنت في أوج فورتك خذني إلي  متجر الجبن الكبير. ستقبل مضطراً، وتقطع مسافة شاسعة حتى تصل إلي هذا الكوكب،والذي يوجد بداخله عوالم من الجبن و اللحوم الاجهزة الكهربائية المليئة بالأسلاك اللذيذة. ستذهل زوجتك وستأكل من كل ما يقابلها من شيكولاتة وأرز وجبن و أسلاك التليفزيونات.ستعود إلي البيت محملاً بكل ما لذ وطاب، بعد أن أشبعت احتياجات زوجتك  ستحاول أن تداعبها لتشبع احتياجاتك، ستقول لها شفتاك رائعتان رغم ما يعلوهما من شوارب مقرفة، ستبتسم وتقول لك قبل أن تقترب منها أريد أن أذهب الى فرع  المتجر الكبير في المعادي ستحبط تماماً و تثبط فورتك. 

سيلح عليك اليوم أن تذهب إلي حي الفئران القديم وتجلس في المقهى القذر الذي افتقدته، ستجلس أمام “النصبة” بجوار راكية الجمر وتستمتع برائحة المعسل،ستتسمع الى فئران يثرثرون حول أزمة الجبن، وصعوبة المعيشة، وآخرون يتحدثون عن الأوبئة والفيروسات التي أصابت الفئران، سيقول فأر إن السبب في ذلك هو “السيد” الذي يتحكم في مصائرنا ويحتقرنا لدرجة أنه اخترع أداة لجهاز الحاسوب يتحكم بها كيف يشاء وأسماها فأرة، سيرد عليه فأر آخر ويقول بل هو بسبب ذنوبنا وهو غضب من الله. سيرد عليه فأر حكيم أن “السيد” بعيد عن الله رغم ذلك فهو ليس مبتلى مثلنا،سيقول الفأر الأول أن “السيد” يستخدمنا كحيوانات تجارب لأسلحته وأمصاله وتجاربه، وإنه يضع بعض منا في مختبرات ويحقنهم بسمومه ليرتقي هو ويجني مزيد من الربح، سيرد فأر آخر ويقول أن هناك “سادة” طيبون يدافعون عن حقوق الفئران، وأننا يجب أن نمد جسور التواصل معهم، ستصيبك حيرة وضجر  وتقرر العودة إلي المنزل ، ستشعر أنك سمعت هذا الكلام من قبل، ستتمتم في ثقة آه  !!dejaveou

 ستقول لك زوجتك الفأرة إن أولادك الفئران ينظرون بأسف لأصدقائهم الذين يعيشون في بيوت أكثر راحة وأوسع وأجمل، ستحكي لك زوجتك عن صديقتها التي تسكن في فيلا في قرية سياحية نظيفة وجميلة تسمى كومباوند. ستتأمل الكلمة جيدا “كومباوند” ، ستتابع زوجتك وتقول إن هذه الفيلا بها حمام سباحة وسلالم وجراج للسيارات وأماكن كثيرة مناسبة للسكنى والعيش الهادئ. بشعور غريزي بحت وبدافع الغيرة من الفئران، وربما لتكون فأراً حقيقياً أمام زوجتك،  ستعمل وتكد ليل نهار حتى تحقق لها حلمها وتعبر المسافة الكبيرة نسبياً بين جحرك الحالي كما تسميه زوجتك و الفيلا  في الكومباوند الهادئ. ستتذكر أن أمك وأباك تزوجا بالقرب من فرن خبز دافئ، وإن جحرهما  كان عبارة عن غرفة صغيرة للنوم وردهة للتبول وطست للاستحمام، ستتذكر أن ذلك المكان الضيق لم يمنعهما من الحب والضجر.

عندما تعبر المسافة الشاسعة الفاصلة بين مسكنك الحالي والفيلا في الكومباوند ستقتحمك أفكار عن  الرقي والتقدم، ستندهش أنك أضطررت أن تجلب الكثير من الجبن والسالمون وأن تكتري شقتك الوثيرة وتصنع سرير من ريش النعام النادر الذي سرقته من وسادة السيد.تطرد الأفكار بصعوبة وتذهب لتنام بين أسلاك غسالة الملابس الدافئة.

 

بينما أنت تسند ظهرك على خرطوم صرف الغسالة الكهربائية الدافئ، سيقتحمك سؤال عن جدوى حياتك، ستقول في نفسك إن حياتك لا جدوى منها أبدا، أنت تصحو من النوم، تسعى لسد كل ما تشتهيه أنت وزوجتك وأطفالك،وهكذا أنت في دورة لا نهائية من الاشتهاء والملل. ستتأمل الكلمة جيدا “الاشتهاء”، ستسأل نفسك هل الاشتهاء له علاقة بالضرورة بمفهوم الخطيئة؟، ستجيب نفسك  بالنفي فأنت وزوجتك لا تشتهيان إلا ما حلل الله من طعام وشراب وأسلاك وملابس وبلاستيك وأسمنت،وأنك لم تأكل يوم من التفاحة المحرمة، لكنك لن تعرف أبداً لماذا يسبب لك اشتهائك الحلال كل هذا السأم والموات. ستتذكر كلمة قرأتها في كتاب أنه لابد لكي يشعر الفأر بالسعادة لابد أن يحيا قليلاً في الميتافيزيقا، ستضحك كيف استطعت تذكر هذه الكلمة، ستكررها وتضحك ميتافيزيقا، هههه ميتاتفيزيقا هع هع هو.. ستصحو سيدة المنزل على  ضحكك فتضرب خلف الغسالة بعصا الممسحة وتنادي على زوجها: الحقني يا عادل يوجد فأر، ستستمر في الضحك حتى تدمع عيناك وأنت تقول: الحقها يا عادل يوجد فأر…فأر ميتافيزيقي.

أنت كفأر ترفض تماما الفكرة النمطية عن  الفئران وهي أنهم جبناء بالفطرة وأنهم طفيليون بالسليقة، وستهاجم بشدة أن الفئران ذاكرتهم ضعيفة ومثقوبة، ستحاول أن تتأكد من ذلك، فتحاول أن تتذكر آخر مرة ضحكت أنت وزوجتك فتفشل، ستحاول أن تجتهد وتتذكر متى قلت لها أحبك آخر مرة، فتفشل أيضا،لكنك ويا للغرابة ستتذكر ما قال له أبوك وهو يحتضر عندما تم دس له السم في قطعة طماطم، ستلتقط  خيط الذكرى، وتردد وصيته الأخيرة ” علينا نحن الفئران أن نفكر في مستقبلنا، أن نتمتع بالمزيد من النزق والمغامرة، وألا نستسلم لمن يتربص بنا من قطط وكلاب وبشر وغيرهم علينا أن نبني مدينة كبيرة محصنة بها كل أسباب الراحة والقوة، ها أنا أموت يا بني وعمري تسعة أشهر فقط رغم أن عمرنا البيولوجي يناهز الثلاث سنوات وهو عمر لم يستطع أحد أن يبلغه بسبب تربص الأقوياء بنا.

في الصباح، ستستيقظ وتخلع ملابسك، ستقف أمام المرآه عارياً، ستتأمل وجهك ستقتح فمك  تتفحص أسنانك في أسف وقد طالت ، ستسأل نفسك هل شبت، أم أسناني طالت بسبب كثرة الاشتهاء، ستقول لك زوجتك لك في ريبة عندما تجدك تتفحص جسدك العاري، ماذا تفعل؟ ستحرك ذيلك يمينا ويسارا  ثم ستحكي لها عن مدينة الفئران وعن حلمك أن تعيش ثلاث سنوات أو على الأقل سنتين، ستقول لها إن القدر اختارك لتكوني زوجة الفأر الذي سيغير عالمنا، وأن عليها أن تقف بجانبك فالتاريخ سيتوقف تماماً عند هذه اللحظة: ستقول لك أي لحظة؟: ” لحظة وقوفك بلبوصاً أمام المرآة”!،  ستتهمك بالجنون وتقول ، هل تريد أن تقتلنا، أن نترك هذا النعيم في هذه الفيلا أن نهاجر إلي الحقول والغابات مرة أخرى. ستقول لها إن أجدادنا  عاشوا في مدن الفئران، وكانوا آمنين على أرواحهم  وحافظوا على طباعهم وأسلاليب حياتهم، ستنجعص متلبساً روح الزعيم وتصرخ فيها: أجدادنا حافظوا على ثقافتهم. ستندهش زوجتك من وقع الكلمة التي لم تسمعها منذ أمد وتقول وما الثقافة؟. ستبدأ في إعطاءها محاضرة طويلة أنك فأر مثقف، وأنك لست كغيرك، وأن لك دور يجب أن تضطلع به، لكنها تنظر إليك في قلق واضح،  ستمسك يديها وتقبلها ثم تقول لها  بقليل من النزق والمغامرة يمكننا أن نحقق الهدف. ستسحب زوجتك يدها في عنف و ستتهمك بالجنون وأنك لا تفكر في مستقبل صغارك الفئران وأنك تريد هلاكهم أو على الأقل تشريدهم إذا تم قتلك من قبل الأقوياء من كائنات لا ترحم. ستنظر إلي ابنتك وهي تفرك عينيها وتقول لك بابا عايزة أشرب لبن، ستلتمع في عينيك دمعة عجز وستسري في جسدك قشعريرة مؤلمة.

ستفكر كثيرا في كلام زوجتك وستحاصرك نظرة إبنتك البريئة لكنك أيضاً لن تستطيع أن تنسى حلمك خاصةً عندما، ترى في خيالك وفي صحوك وفي مناماتك مدينة الفئران بأبنتيها  الملونة و أشجارها الوارفة، شوارعها مبللة ومنثور بها قمح ذهبي. ستندهش أنك تميز ألوان مدينة الفئران : هذا أحمر وهذا أزرق وذاك بنفسجي، ستندهش أنك ميزت أن السماء لونها أزرق وأن حقول الذرة لونها أخضر، ستندهش لأنك تعلم أن الله خلق الفئران لا ترى الألوان  بل فقط تميز الظلال و تدرج الألوان من الأبيض إلي الأسود، ستصل إلي نتيجة غريبة ومدهشة وهو أنك لست فأراً، نعم أنت لست فأراً، أنت تميز الألوان، ستقرر أن تعلن هذا الاكتشاف لجميع الفئران.

ستخرج من البيت غير عابئ بمواء القطط، وبنباح الكلاب أو صياح البشر ، ستنتقل مسرعا، بين أقدامهم التي تريد أن تدوسك،ومخالبهم التي تريد أن تنهشك، ستركض بأقصى ما تستطيع، ستتفادى ضربة مقشة من سيدة المنزل، وستقفز من فوق الحذاء الذي سدده صاحب المنزل ليهرس رأسك، ستسمع نحيب زوجتك وسرسعتها في جحرها ، وهي تقول: عد يا  مجنون عد يا مجنون. ستهرب من شباك الحمام منطلقا نحو الحديقة، ستقف على ربوة خضراء تنادي على الفئران، ستصيح بهم : أيها الفئران، نحن لسنا فئران، أيها الفئران نحن لسنا فئران. انظروا العشب أخضر وجذع الشجرة بني والسماء زرقاء، ستتعب من الصياح لن يلتفت إليك أحد، بعضهم يبلبط في حمام السباحة، آخرون يقرضون  الموبيلات، آخرون مساقون في طوابير طويلة نحو متجر الجبن الكبير، تستوقف كل واحد وتقول له نحن لسنا فئران نحن لسنا فئران، لكنهم لا يسمعون، ستذحل المتجر الكبير ، تسير بين العربات المليئة عن آخرها بالسلع، ستصرخ بأعلى صوتك نحن لسنا فئران، صدقوني، نحن نميز الألوان ،لكن لا أحد يلتفت إليك، ستحضر ورقة كبيرة وألوان وفرشاة سترسم لهم منظر لمدينة الفئران الملونة، بينما أنت منهمك في الرسم والتلوين لم يلتفت إليك أحدٌ من الفئران، بل حاصرك مجموعة من البشر وأخذوا يتأملونك في دهشة، وما أن انتهيت من رسم لوحتك حتى هَوت على رأسك قدمٌ آدمية فهشمتها على غير العادة لن يرموا بجثتك في القمامة. سيأخذوها وسوف يحنطوك وأنت مبتسم ابتسامتك البلهاء وممسكاً فرشاتك بوصفك أول فأر في التاريخ يرسم لوحة.سيضعونك في متحف.سيأتي آلاف الناس وسيدفعوا الكثير من المال ليشاهدوك محنطاً.ستغدو صورتك أيقونة تطبع على الملابس والأحذية،والمأكولات وسيجني “السيد” الكثير من المال بسبب  أحلامك.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون