الصراع الأبدي بين الكلب والقطة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فى سنوات طفولتى البعيدة كانت أمى توقظنى قبل سطوع الشمس, تلبسنى يونيفورم المدرسة وأنا شبه نائم مغمض العينين, تعطينى ال(سندوتشات), كنت أنطقها بحرفى شين بحينها, فآخذها وآخذ حقيبتى شبه فارغة وأقف أمام باب عمارتنا منتظرا الأتوبيس ليقلنى إلى مدرستنا, لم تكن المدرسة بعيدة عن البيت, كانت واسعة, واسعة جدا بالنسبة لحجمى وقتها, سماؤها مشرقة وريحها طيبة. نذهب إلى الفصول متلكأين, تدخل إلينا المدرسة, وفى ذاكرتى هى دائما مدرسة وليست مدرسا, تشرح لنا دروسنا الطفولية عن أشكال الحروف الأبجدية وكيفية نطقها,عن الأرقام وكيف أن الرقم واحد يسبق الرقم اثنين وأن الرقم اثنين هو الشوكة ذات السنتين, أما الثلاثة فهى تحمل ثلاث أسنان, وكانت الحصص الدراسية بأول الأمر ما هى إلا بعض الحكايا التى يظن المدرسون أن لها من الدلالة ما قد يعلم الأطفال أى شىء خاص بالحياة. لا أذكر من تلك الحكايات التى حكيت لنا داخل جدران ذلك الفصل العتيق سوى حكايتين هما حكاية الثعلب المكار وحكاية العداوة ما بين القطة والكلب, وكيف أن الكلب كلما رأى تلك القطة, تفتحت عيناه وانتفضت شرايينه مطلقا نباحه الشهير ب(الهوهوه), فتجرى القطة فى فزع شديد مطلقة ما يدعى (النونوه)... وبالرغم من أن كل الحيوانات تطارد كل الحيوانات, إلا أن صراع الكلب والقطة ظل ذو خصوصية حيث أن الكلب لا يطارد القطة كى يفترسها أكلا إياها, ولذلك فصقتهما مختلفة ومثيرة للانتباه.

ولسبب غير معلوم كان تعاطفى الدائم مع الكلب, رغم أنه يبدو للوهلة الأولى كمعتد أثيم لا يلبث أن يرى القطة, تلك المخلوقة الرقيقة الوديعة, حتى يجرى وراءها مطاردا إياها فى كل مكان… لم أكن أعلم هل هناك ثمة علاقة بين تلك القصة وبين ذلك الثعلب المكار, أم أن كلا منهم يعيش داخل قصته منفصلا عن الآخر.

قد يكون سبب كرهى للقطط تلك الحادثة التى وقعت لى وأنا طفل لم تتبدل أسنانى بعد, ذلك الغدر الذى تتصف به القطط والذى تحققت منه عن تجربة. فقد كنت فى بيت إحدى قريباتنا, وكانت فاتنة, استثنائية الجمال, ورغم أنها شابة يافعة وأنا طفل صغير كنت أتمنى الزواج منها, كنت أظنها لا تكبر, أذكرها وهى تقف أمامى معوجة الخصر حاملة قطتها بنية اللون ناعمة الملمس, مستندة بأرجلها الأمامية على كتفها والخلفية على صدرها النافر, وقريبتى تمرر يدها الرقيقة على جسدها ببطء وحنو. وبسبب ما كنت أعلمه من مدرستنا عن وداعة ورقة ذلك المخلوق, قررت أن ألعب معها, واستأذنت قريبتى الحسناء أن ألعب مع قطتها, فوافقت وأومأت لى برأسها, اقتربت من القطة حانيا حتى آخذها ما بين يدى لنلعب سويا, فما إن اقتربت منها حتى وجدتها قد تحفزت وقفزت من مكانها وأطلقت أرجلها الأمامية فى جسدى الهزيل – وقتها – , وخربشت إياى تلك الخربشات التى لا تصدر سوى من ذلك المخلوق السخيف. ومازالت تلك الخربشات تاركة أثرا فى جسدى إلى يومنا هذا, تذكرنى بقريبتى تلك كما تذكرنى أن أخشى غدر القطط ما حييت.

ولكننى قررت أن أنتقم, وكان انتقامى الطفولى شديدا جدا من كل بنى جنسها, أقصد القطط, فقد كنت أقف ليلا فى شرفة منزلى القابع فى الدور الأول, وأنتظر حتى أرى أو أسمع أو أشم رائحة أى قطة فى الشارع, عندها أبدأ فى إطلاق أصوات شبيهة بنباح الكلاب, وأضحك جدا وأستمتع بالنظر لتلك القطط الملعونة وهى تجرى خوفا ورهبة من مجرد بعض (الهوهوات) المصطنعة.

 

وتمر بعض سنين,

أصبحت دروسنا أكثر تعقيدا عن الفيزياء والكيمياء وما قاله نيوتن وما فعلته مدام كورى وتاريخ الفراعنة والفتوح الإسلامية وعن شىء يدعى فلسطين وحساب المثلثات والجبر, ولكنهم لم ينتبهوا أبدا إلى هاتين القصتين. لم يكمل لنا أحد تفسير قصة الثعلب المكار أو قصة الصراع بين الكلب والقطة… فهل كان هناك ثمة خلاف بينهما؟؟ هل قامت القطة بقتل أحد أجداد الكلب مثلا؟؟؟ ولكن كيف لتلك القطة الضعيفة أن تقتل ذلك المخلوق الضخم المخيف كثيف الشعر, هل مثلا قام أحد أفراد عائلتها بقتل كلب فى سالف الأزمان؟؟ هل اختلفا على سطح سفينة نوح كما فى بعض القصص؟؟

  وبدأت أسأل عن أصول عائلات الحيوانات حتى أبلغنى أحدهم أن النمر هو أحد أقارب القطة, وهنا بدأت اتبين الحكاية كما تخيلتها, يبدو أن ذلك النمر هو من صنع تلك الصنعة بأحد أجداد الكلب. لم أتوصل إلى أى تفاصيل تاريخية, ولكن خلاصة القول, أن القطة غدرت بالكلب كعادتها وأن الكلب لم ينس لها فعلتها. ولكن القطة, وكما كان ظنى بها دائما, كانت خبيثة جدا, أكثر مما أتصور, ولذلك فقد خرجت من بين كل ذلك بتعاطف واسع وشديد من جميع حيوانات الغابة وساداتها ومن قاطنى الصحارى ومن ساكنى المدن, فأصبحنا نحن المتمدنين نستخدم كلمة “القطة” وقلما ما نستخدم كلمة “القط”, فهى تلك الأنثى الضعيفة الرقيقة المغلوبة على أمرها التى تجرى كلما سمعت نباح الكلاب, وهو ذلك الشرس القبيح الذى يجرى وراء القطة كلما رآها.

وهو بصفته كلبا, فهو لا يجيد سوى (الهوهوه)… عندما تراه وهو يجرى و(يهوهو) وراء القطة وهى تصرخ و(تنونو) تظن أنه بالتأكيد سيرديها قتيلة, ولكنه نادرا ما يلحق بها أصلا, وإن حدث تكون النتيجة مجرد بعض (العضات) فى جنباتها التى لا تؤثر فيها إلا بزيادة تعاطفنا, أو تعاطفهم معها.

 

وتمر بعض سنين,

 مازلت أحمل بداخلى بعض من ذلك الطفل البرىء الذى يبتهج برؤية الطائرات محلقة فى الجو متتبعا إياها بعنق ممدودة إلى السماء ولامسة لأطراف السحب والغيوم, الطفل الذى لا يعبأ بأى شىء سوى صراع الكلب والقطة وغموضه وصعوبة فهمه. كان يوما مطيرا ذلك اليوم الذى قررت فيه ألا أذهب إلى كليتى وأن أجلس فى بيتنا, أتمتع بدفء السرير تحت حرارة البطانية, لماذا لا يكون للإنسان بياتا شتويا كما لبعض المخلوقات؟؟! أغلقت الشبابيك وغطست تحت الأغطية مشاهدا التليفزيون, كانت على شاشته حلقة من حلقات (توم وجيرى). شرعت فى تذكر أولى مشاهداتى لتلك الحلقات العتيقة. كانت الحلقة مسلية إلى حد نسيان البرد والتوقف عن (التكتكه). استعدت اغتياظى ذاته من ذلك المدعو (توم) ومن غروره وعجرفته, وسعادتى كلما أوقعه (جيرى) فى شر أعماله, ولكن ما لفت انتباهى بهذا العمر وأثار غيظى وحنقى لأول مرة, ما تم من تجاهل شديد وتهميش جم لدور الكلب فى تلك الحلقات, نخرت نظرية المؤامرة بعقلى حتى بدا لى وكأنما تهميش دور الكلب بات متعمدا, فاستشطت غضبا وحولت القناة.

بدأت عينى تسرح بعيدا عن التليفزيون وبدأ جسدى يسترخى أكثر على السرير, وتذكرت زيارتى منذ سنوات ليست ببعيدة لأحد أصدقائى المتيسرين بالمدرسة, حيث أنه أخبرنى أثناء تواجدى بمنزله أنه يربى كلبا فائق الجمال, فسألته بشغف من لم ير كلبا منزليا عبر سنين أن يرينى أياه, جاءنى بمخلوق أبيض صغير منفوش لامع ومشعر, لم أتعرف عليه فى البداية… سألته: “ما هذا؟؟؟”, أجابنى: “إنه كلبه اللولو”. قلت له أن هذا المخلوق المخنث لا يمكن أن يكون كلب بحق, إنه مدعى. أهكذا أصبحت الكلاب الآن؟؟ أين الشراسة والقوة المعهودة؟؟ أين الفتوة والعنفوان؟؟ اللافت للنظر والمثير للتعجب أن حتى هذا الكلب المخنث لا يزال (يهوهو). فحتى بعد سحب جميع صفاته الكلابية فهو لايزال ينبح ولكن, بتلك الحالة يبدو نباحه مثير للشفقة وللسخرية, حيث أن أحد لا يفهم (هو بيهوهو على إيه؟؟!!).

 

وتمر بعض سنين,

وجاء ذلك اليوم الذى كنت ذاهبا فيه إلى حيث كليتى الكئيبة حيث رأيت المشهد الذى اعتبرته مشهد النهاية؛ كلب يقف بجوار قطة, جنبا إلى جنب, كتفا إلى كتف, لا يحمل فى عينيه أى شرارة غضب, لا يطلق أى نباح يعلمنا أنه قادم, لا يتحرك من مكانه كأنه ميت, لا تنبض شرايينه ولا تتحرك شعيراته, لا يحاول الاقتراب منها أو المساس بها… جاء اليوم الذى أرى فيه الكلب والقطة يقفان متجاورين فى سلام وأمان, بعدما تخلى الكلب عن كل صفاته الذكورية وتخلت القطة عن أنوثتها المدعاة. نظرت إلى القطة فوجدت أن مخالبها أصبحت أكثر طولا ويبدو أنها اصبحت أكثر (خربشة) من ذى قبل. لقد تغيرت القطط كما تغيرت الكلاب, أصبحت كلما أحاول أن أبعد أية قطة عن طريقى, أو (أهشها) بعيدا عن طعامى, تهجم علىّ بدلا من أن تهرب من أمامى؟؟ أما عن الثعلب, فمازلت لا أعرف علاقته بالقصة تلك.

أنا الآن فى شرفة منزلى. الجو أصابته برودة طارئة ولكنى لا أشعر بها, الليل قد خيم والظلام حالك, الصمت المهيب مسيطر على الأجواء… أنا الآن فى شرفة منزلى, لا أرى القطة ولكنى أشم رائحتها, أشعر بوجودها, لا أرى الكلب ولكنى أسمع نباحه يدوى من بعيد… لا أرى أين هو, لا أعلم أين هو ولكنه بالتأكيد, بكل تأكيد, موجود هنا فى مكان ما.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون