حكايات من الحياة .. حكايات من السينما

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أيمن مصطفى الأسمر

1- "لارا"

(1)

من خلال مشاهد طويلة ثرية تتدفق بنعومة وغزارة كنهر الفولجا العظيم، وكحياة حقيقية لكاتب وشاعر وطبيب يقتفي أثر أجداده وآبائه العظام جوجول .. تولستوي .. دوستويفسكي وتورجنيف، وكرؤية شاملة لتطور دولة ومجتمع وأفراد، أتتبع حكاية "يوري" وحبيبتاه "تونيا" و"لارا"، أتتبعها منذ زمن طفولته ويتمه المبكر.. عندما فقد أباه وأمه، حيث تتساقط أوراق الشجر معبرة عن اليتم والفقد، حتى وفاته التراجيدية .. حيث يسقط هو نفسه وقد أوجعت قلبه الحياة بتقلباتها .. والبشر بأطماعهم، حكاية تعرض التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، تحكي عن أي شيء .. وكل شيء، عن الحياة ومن الحياة، عن الحب والكراهية.. الثروة والثورة .. الخير والشر .. الحرب والسلام .. الواقع والخيال، عن التاريخ والجغرافيا، عن كل ما تعنيه كلمات دنيا .. وحياة .. وبشر .. ومشاعر، عن المسيرة الطويلة للإنسان عبر عصور شتى، وبرغم كل ما تحتويه الحكاية من مشاهد ثرية عميقة، وما تذخر به من شخصيات متعددة تنمو مع الزمن ومع الأحداث، إلا أنك أنت "لارا" تظلين الوجه الذي يداعب الأبصار ويخطف القلوب، وتظل حكايتك أنت وحبيبك "يوري" هي الحكاية التي تصنع عالما خاصا لا مثيل له وسط حكايات كثيرة متداخلة ومعقدة، حكاية قدرية خارج سياق الأحداث .. لكنها أيضا داخله، هكذا تتوازى حياتكما طويلا قبل أن تلتقيا وتصبحان رمزا لحياة واحدة، وحتى عند الفراق والموت وما بعدهما، تظلين أنت "لارا" .. ويظل هو "يوري" .. تظلان معا رمزا سرمديا لملحمة أكبر وأعمق منكما، هي ملحمة الحياة بكل تفاصيلها ودقائقها، بكل زخرفها وزينتها، بكل ظلمها وإثمها، الحياة والحب .. أو الحب والحياة، هكذا كنتما .. وهكذا تظلان.

(2)

في الترام تلتقيان دون أن تلتقيا .. هكذا لعبة الحياة .. وهكذا القدر، ويأتي اللقاء تلو اللقاء، فيمر كل منكما بحياة الآخر كطيف يشاغله من بعيد، أو كظل يصاحبه لكنه لا يعيره انتباها، فالقدر لم يقرر بعد أن تتوحدا، وها أنت “لارا” .. الزهرة البرية شديدة الجمال .. شديدة التفرد، تصبحين مطمعا لرجلين يحومان من حولك، أحدهما يبدو مثاليا صارما أكثر مما يجب، والآخر يبدو انتهازيا مراوغا أكثر مما يجب، فها أنت بينهما حائرة، المثالي الذي لا يملك أن يقدم لك إلا حبه المخلص، غير أنه ليس الحب الذي يرقى لجمالك وتفردك، وعرضا صادقا بالزواج منك .. تقبلينه في نهاية المطاف لظروف كثيرة أقوى منك ومنه، أما الانتهازي فهو يستغلك كما يستغل كل شيء تطوله يداه، فيغريك ويداعب خيالك وطموحاتك .. ثم يخدعك ويأخذ منك ما يرغب فيه ويتلاعب بك وبحياتك، وعندما تقررين الانتقام منه تفشلين .. وينقذك الآخر المثالي الصارم من مأزقك، كل هذا وبطلك مشغول في مساره الخاصة، عمله وأشعاره وحبه الهادئ لرفيقة طفولته ثم زواجه المخطط منها، وفي كل مرة تدخلين حياته كالطيف ثم تخرجين سريعا، لكنه في كل مرة يعرف عنك شيئا جديدا، وتتركين بداخله أثرا غامضا، فيما يحوم الآخران حوله من بعيد، فمازال القدر ينسج خيوطه على مهل، ويصوغ حكايتكما على مهل، والحياة من حولكما تشتعل، والناس يتذمرون، يروعون، يقاتلون، يثورون، تتداخل الخيوط ويتحول البشر، فتكون الحرب .. وتكون الثورة .. ويكون الانقسام، فيقتل الناس بعضهم بعضا، فيما أنتما كورقتي شجر تتلاعب بهما الريح إلى أن تجمعهما سويا ذات يوم.

(3)

والآن تلتقيان على موعد مع القدر .. على موعد مع الثورة، تلتقيان كطبيب وممرضة، تحملان خلفكما سلسلة من اللقاءات العابرة، لقاءات جعلت منك أنت “لارا” طيفا يداعب قلب “يوري” وخياله رغما عنه، ورغما عن حياته المستقرة الهادئة مع زوجته الرقيقة “تونيا”، وعلى أرض الميدان .. ميدان المعركة وميدان الثورة، تلتقيان فتبدأ بينكما حكاية الحب الأسطورية المؤجلة، تبدأ منذ اللحظات الأولى عندما يجري “يوري” عملية جراحية فوق أرض الميدان فيما تساعدينه أنت “لارا”، ترمقينه في ذلك المشهد القصير المعبر بإعجاب بالغ، ثم يطلعك على أمر اللقاء العابر الذي جمعكما قبل سنوات دون أن تدرين به، وهكذا تنمو المشاعر بينكما ببطء لكن الفراق يفرض نفسه عليكما من جديد من قبل حتى أن تكتمل فرحتكما باللقاء، تفكران في الآخرين وبصورة خاصة “تونيا” وتحسبان حسابا لمشاعرها، فتجهضان بوادر الضعف الإنساني بداخلكما، وتقرران أن يكون الفراق بلا كذب أو خداع.

(4)

ها أنت “يوري” تعود إلى موسكو .. إلى زوجتك “تونيا” وابنكما “ساشا”، لكن الثورة قد غيرت كل شيء في عالمك القديم .. نفوس البشر وأوضاعهم الاجتماعية، حتى قصائد الشعر التي تكتبها .. لم يعد لها مكانا في ظل هذه الأوضاع الجديدة، وعندما تدركان أنتما أيضا أنه ليس لكما مكان في عالم ما بعد الثورة تقرران الرحيل إلى الريف، فتكون رحلة القطار الطويلة بكل ما فيها من غرائب، ويكون اللقاء بينك “يوري” وبين زوج “لارا” ، ذلك المثالي الصارم الذي حولته الحرب والثورة إلى قائد عسكري صارم، فتتجادلان وتختلفان ثم تفترقان، وعندما تستقر مع أسرتك أخيرا في تلك المزرعة الريفية الصغيرة، تراودك الأحلام في أن ترى “لارا” مرة أخرى، فتحدث المعجزة ويكون اللقاء المؤجل لمرات عديدة.

(5)

عرفت فيك “لارا”، بكل ما تحمله شخصيتها من مشاعر جامحة، وشوق إلى الحياة، ورغبة جارفة في الحب، تلك التي ارتبط اسمها ـ ربما ـ بأعذب وأشهر مقطوعة موسيقية في تاريخ السينما، فعشت لحظة أن التقت “لارا” برجلها بعد سنوات من الغياب، ذلك المشهد الشهير في المكتبة، فرِأيتني أنا الواقف على الدرج مأخوذا بوجودك، وذلك التعبير المشع الفاتن في عيني “لارا” وهي ترمق حبيبها بعد غياب، تلك النظرة رأيتها في عينيك، أو أوهمت نفسي بأنني أراها، العمر كله يمكن اختصاره في تلك اللحظة .. وفي تلك النظرة، العمر كله يكفيني منه تلك النظرة المشعة الفاتنة، تقول أي شيء .. وكل شيء، بلا صوت أو كلمات، تجمع السعادة كلها .. والرضا كله .. والحنان كله، أرضى لحظتها أن ينتهي بي العمر وتفنى الحياة بعد تلك النظرة التي تسعدني وترضيني، فأموت راضيا هانئا أشهد أنني عشت حياتي كلها سعيدا لم أخبر تعاسة أبدا أو شقاء أبدا.

(6)

تشتعل الحرب الأهلية بين “البيض” و”الحمر” وتأبى إلا أن تفرق الأحبة، فتقصيك عن “لارا”، وتقصيك عن “تونيا”، وتعاين بنفسك ويلات الحرب .. وفظاعة البشر، لكنك مرغم على أن تكون جزء منها، إلى أن تأتي اللحظة التي تنفلت فيها وتعود وحيدا بين أكوام من الجليد، تعود محطما أقرب إلى الموت منك إلى الحياة، فتعيدك “لارا” إلى الحياة، وتعرف منها أخبار “تونيا”، ثم يقتحم وحدتكما ذلك الانتهازي المراوغ الذي خدعكما من قبل، يعرض عليكما المساعدة، لكنكما ترفضانه وترفضان عرضه، وتصطدم به “يوري” وتطرده، لكنكما تعرفان أن أيامكما في هذا المكان قد صارت معدودة، فتفران إلى المزرعة الصغيرة مرة أخرى، تخطفان من الزمن ومن البشر ومن ذلك العالم القاسي لحظات تعيشانها من أجل الحب .. ومن أجل الشعر، لحظات كالحلم الجميل الذي يسبق الكابوس المروع، لكن الفراق يلاحقكما في صورة ذلك الانتهازي المراوغ، فيفرض عليكما نفسه رغما عنكما.

(7)

الآن نفترق، ليس اليوم ولا غدا .. لكنه الآن، نفترق وأنا أعلم أن مشهد الفراق الحزين الذي نعيشه الآن مقدر سابقا، عشته من قبل على الشاشة .. وكنت أعلم أنني سأعيشه ذات يوم في الحقيقة، وها هي قد حانت تلك اللحظة، لحظة رحيلك، رحيل “لارا” .. أو رحيلك أنت، لم أعد أستطيع معرفة الفارق بين الواقع الذي أعيشه معك الآن وتلك المشاهد التي عشتها أيضا عشرات المرات على الشاشة، ها هي “لارا” ترحل .. وها أنت ترحلين كما ترحل، ترحلين وتخلفينني وراءك وحيدا، أنا “يوري” البائس الذي يحاول التماسك ويبتسم في وجه حبيبته لحظة الفراق، يمنحها آلته الموسيقية التي ورثها عن أمه، تلك الآلة التي ترمز إلى روحه وتمثل أغلى ما يملك، يمنحها إياها كأنه يمنح إليها روحه في لحظة الوداع، فيما “لارا” تركب العربة التي تجرها الجياد وهي شاردة، تدرك في أعماقها أنه الفراق، وأنها لن ترى حبيبها “يوري” أبدا بعد ذلك الوداع، وداع ينهي لحظات السعادة القصيرة التي عرفتها بعد حياة مضطربة لم تذق فيها أبدا طعم الدفء أو الأمان، فتسكتها الصدمة سكوتا يقارب الموت، ترحل العربة سريعا ويهرع “يوري” داخل بيت يسكنه كقلبه الجليد إلى أعلى نقطة يمكنه منها إلقاء نظرة يعلم أنها قد تكون الأخيرة على “لارا”، يكسر زجاج النافذة فلا يرى إلا نقطتين بعيدتين تختفيان سريعا إلى الأبد، تفيض عيناه بدموع لا يدعها تسقط على وجهه، لكنها تحفر طريقها داخل أعماق قلبه، هو إذن الفراق ولا لقاء بعده ولا سعادة، فقط جليد يملأ قلبه ويملأ الكون كله من حوله، وهكذا أنا أيضا أدعك ترحلين، لا حيلة لي ولا قدرة، لكنني أعلم أن الأمر محتوم سلفا، فكيف لي أن أوقف الزمن أو أتحكم في إيقاعه، وداعا إذن .. وداع ليس بعده لقاء، وكأنني لم أكن أعرف .. وكأنني تفاجأت بالأمر.

(8)

ولأن الموت يسبق الحياة، والحزن يغلب السعادة، تأتي النهاية الحزينة المتوقعة في مشاهد سريعة قصيرة ومؤثرة، فها هو حبيبك “يوري” يصعد إلى الترام الذي شهد لقاءكما الأول، يركبه في رحلته الأخيرة وقد أنهكته الأحزان .. وأوجع قلبه الفراق، حينها يظن أنه رآك، وأنك تسيرين بالجوار، يحركه الأمل فيحاول جاهدا الانفلات من البشر والهبوط إليك، وعندما ينجح أخيرا يتمكن القدر من قلبه، فتصيبه الأزمة وهو على بعد أمتار قليلة منك، ويفشل في اللحاق بك أو لفت انتباهك إليه، فيما المشاهد تتابع بسرعة لا تفصح بوضوح هل كنت أنت “لارا” بالفعل أم أنه فقط يتمنى ذلك، وعندما يسقط يتجمع من حوله الناس فيما أنت تمضين مبتعدة إلى غير رجعة، وهكذا تنتهي الحكاية، تنتهي بالحزن وتنتهي بالموت، لكنك تظلان معا رمزا خالدا للحب والسعادة.. رمزا للشعر في ذروة عنفوانه وتألقه.. ورمزا للحياة بكل تناقضاتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“دكتور زيفاجو” 1965   Doctor Zhivago 1965

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون