عوالم المدينة
في مجموعته الأخيرة “مدينة الحوائظ اللانهائية” يفتتح طارق إمام مدينته بوضع اللبنة الأولى التي بنى عليها الكتاب كاملا، معنونها ب “بلغني” وهو منذ أول صفحة يحيلك إلى عالم ألف ليلة وليلة الذي يتماهى معها من البداية كي يجعلك تكمل بعده “بلغني… أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد”، وهي توطئة كان لابد منها لتنبني عليها حوائط ودروب مدينة الحوائط اللانهاية، كي يمكنك بعد ذلك من الدخول إلى حكاياته المقسمة إلى ثلاث مجموعات: “نساء مدينة الحوائط” بحكاياها العشر و”رجال مدينة الحوائط” بحكاياها الأربعة عشر و “غرباء مدينة الحوائط” بالحكايا الاثني عشر التي أقفل بها المدينة، كما تقوم الرسوم والكولاج الذي قام به الفنان المبدع صلاح المر بمقام النصٌ الموازِ لحكايات المجموعة، حيث تطالعك بداية كل قصة لوحة تقدم بالتوزاي عنوان الحكاية، ثم تظهر ثانية على الجانب الأعلى من الصفحة الأولى من كل قصة داخل شكل بيضاوي تخرج منه نقاط ثلاث، وكأنك ترى أو تسمع الجملة التقليدية لبداية كل حكاية شعبية “كان ياما كان“.
إذن وعلى الرغم من غرائبية الحكايات وفانتازيتها إلا أنه وضع لها مخططا منطقيا كي يسهل عليك الدخول إلى متاهاتها دون الضياع فيها، فالضياع الذي يريده صاحب “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” (2012) هو ضياع في القصة، لا في الطريق إليها، ولذا تجده يضع لك في كل حكاية تقريبا إشارة أو علامة تدلك على الطريق حين تحيلك إلى حكاية سابقة، وقد ارتأى صاحب “هدوء القتلة” (2007) أن يضع تعريفا كتابيًا لهذا العمل حين صنفه تحت باب القصص في لوحة الغلاف، غير أن القارئ بمجرد أن يقرأ المدينة بحكاياتها يدرك أنه أمام عالم روائي مُكوّن من لوحات قد تبدو غير متصلة، إلا انه ينسج خيوطا واضحة المعالم تربط بين كل حكاية وأخرى لتخرج بتصور كامل لعالم روائي محكم لا تخطئه العين، وهي الإشارات التي تحدثت عنها وتتمثل في “حكاية المرأة ذات العين الواحدة” مثلا و”حكاية كتاب الحياة المفقودة و”حكاية القرصانة” وغيرهم من الحكايات التي ترتبط مع بعضها البعض بخيوط شديدة الرهافة والذكاء.
وعلى الرغم من كون مدينة طارق إمام مدينة بلا لغة تنتمي إلى ثقافة محددة أو جنسية أو دين، إلا أن زلة قلم جاءت في جملة واحدة حددت الهوية العقائدية لسكان المدينة حين يقول في “حكاية بائع الساعات الغامض”: “لم يكن أحد في المدينة قد استخدم هذا الاختراع العجيب الذي يسمى “الساعة” أو حتى سمع به من قبل وكانت المواقيت تتحدد بشروق الشمس وغروبها ومواعيد الصلوات الخمس”. ص244، اذن السكان هنا ينتمون إلى عالمنا العربي والإسلامي تحديدًا، وهي الجملة التي لم يرد في الكتاب ما يشير إلى هوية هؤلاء السكان غيرها، إضافة إلى زلات خفيفة ربما كانت شاذة عن مسار اللغة الواضح في الكتاب وملامح شخوصه وأمكنته بتفاصيلها حين يقول “بينما لم يكن هو يعرف سوى أقمر الفلورسنت في الواجهات” حكاية “زوجة الصائغ التي تكره الذهب”ص91 وهو تعبير يبدو شاذا عن باقي مفردات العصر الذي يكتبه وإن كان عصرا لا ملامح واضحة له كما نرى ذات الشيء في قوله: ” لكن هبطت طائرة ضخمة صعد سلالمها بثقة” ص206 “حكاية هبوط الملاك“.
إرث معرفي
“الكذب زوادة الأدب” هذا ما يقوله بورخيس وهو الأمر الذي يرتكز ويقيم عليه طارق إمام حيوات المدينة وأبطالها، ليتجسّد هذا الكذب حقيقة أمامك بلحم ودم وشخوص وروائح وأمكنة.
نحن إذن أمام حيوات وعوالم خاصة لم يقل الكاتب انه ابتدعها من فراغ، بل هي تراكم إرث معرفي يتضح في مجمل كتاباته –على الأقل التي قرأتها- وتتجلى بشكلها المكتمل في مدينته المتاهة، والتي هي امتداد يحمل التجديد لإرث ضخم من الحكايا الشعبية والخرافية وكتب التراث مثل “منطق الطير” و”كليلة ودمنة” و”حكايات ألف ليلة وليلة” ومنجز بورخيس الذي تأثر أيضا بالكتاب الأخير تأثرًا لم ينكره يوما، وبالتالي لم ينكر كاتبنا تأثره أيضا بأحد كتابه المقربين إلى روحه وهو بورخيس، التقارب الذي يبدو واضحا في كتاب “الألف” الذي صدر عام 1949 بثلاثة عشر حكاية ومن ثم صدر عام 1952 بعد إضافة 4 قصص إليه، ويبدو أن طارق إمام وجد ضالته في قصة “الملكان والمتاهتان” وقصة “الأطلال الدائرية” من كتاب “الألف” التي يقول بورخيس فيها: “لم يكن أحد يجهل أن الرجل الصامت أتى من الجنوب وأن وطنه إحدى الضياع اللانهائية بأعالي البحر” ص41، وكأن هذه الجملة كانت مفتاح الكاتب لهذا العمل الذي استغرق كتابته 10 سنوات، ابتدأه الكاتب -كما أعلن في أكثر من مكان- بقصة لجريدة الدستور ما لبثت أن تلتها سلسلة حكايات كان ينتظرها قرّاء الجريدة باهتمام وتشوّق لهذه العوالم التي كان لهم رفيقًا يشبهها حينما كانوا أطفالا ينامون على إيقاع أحداث المتخيل الغرائبي الذي تويه الوالدة أو الجدة على الأغلب.
ومثلما تنقلنا عوالم “مدينة الحوائط اللانهائية” إلى عوالم ألف ليلة وليلة وبورخيس، تأخذنا “حكاية ظل الشيطان” فيها إلى عالم توفيق الحكيم وتحديدًا مسرحية “ساحرة” للعظيم توفيق الحكيم والتي قام بنقلها إلى التلفزيون سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وصلاح ذو الفقار، حيث المرأة التي تستخدم أسلوب الإيحاء للتأثير على الرجل الذي تريد، تمرر من خلاله كل ما يجب عليه فعله، موهمة إياه بأن قراراته هي قرارات نابعة منه هو ومن إراردته الحرة ولا سلطان لها في ذلك، وهنا يحدد الكاتب النظام أو البنية التي ستقوم عليها الحكايات، فأنت لو طلبت المعرفة لُعنت.
ومما لا سبيل لإغفاله هو تأثر وافتتان طارق إمام بالعوالم الميتافيزيقية والغرائبية، وهو أمر ليس بالجديد على الكاتب بل أكاد أجزم أنه المشروع الخاص الذي كان يشتغل عليه منذ كان غلاما، حينما بدأ باكتشاف خيالاته المتقافزة أمام عينيه وتصويرها على حوائط الجدران قبل أن يعرف لغة الكتابة، وهي العوالم التي انتقلت إليه منذ كتاباته الأولى، وكان لها أحجار أساسٍ تتمثل ربما بشكل واضح في مجموعته القصصية “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها” 2010 والتي تشتمل على 17 عشر قصة أو حكاية حسب العنوان الذي وضعه على كل قصة مثل “حكاية صانع الصور” التي نجد لها امتدادا في “حكاية “المصور الذي عاش مستقبل جارته” رغم اختلاف الحكايتين إلا أن الشخصية المركزية فيهما تتكاد تتشابه، كما أنك تتلمس عالم البحارة والقراصنة في كل من العملين على حد سواء، وتدرك من خلال هذا التناول أي افتتان يشعر به الكاتب نحو هذا العالم المثير والبعيد عن الأرض بكل ما ومن فيها، عالم البحر هذا الذي مثلما انتقل كله إلى المدينة تاركًا أعماقه ترابية قاحلة كما جاء في قصة “كوليرا” من مجموعته “حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها” لنجد بحر مدينة الحوائط الذي “ذهب.. بأكمله إلى سريرها نائمة وعاد بها قاتلة”، حيث يروى أنهم “قالوا إن البحر بأكمله انتقل إلى غرفتها، تاركًا مكانه يابسة مخيفة تكتظّ ببقايا القاع المميت، قبل أن يعود إلى مكانه حاملًا معه الفتاة التي كانت تطفو في أحلام تلك الليلة بين الأعشاب البحرية وأسراب الأسماك والصخور” في حكايته البديعة “حكاية القرصانة”ص33.
التجول في المدينة
المدينة التي اخترعها طارق إمام هي المدينة الفاضلة التي تبدأ فيها الحكايات من حيث تنتهي وحيث كل البيوت بلا أبواب أو نوافذ أو أسقف، فقد قرر أهل هذه المدينة أن يخلقوا منها بيتهم الخاص ولذلك قاموا بتحطيم الحوائط وخلع النوافذ والأبواب فيها، لتصير المدينة بشساعتها وامتدادها بيتهم الكبير، الذي يمكن لهم العيش فيه، كما أنها بيوت مشرعة للغرباء وعابري السبيل، الأمر ربما الذي ساهم في أن كل الموبقات تحدث في هذه المدينة التي عوض أن تكون بيتًا يتسع لجميع أهلها صارت مقابر أو مكانًا ترتكب فيه جرائم القتل وكأن “البيوت تخلق لتقتل الناس فيها” ص8، وعوضًا عن السير سوية في طرقاتها نجد أنه “لا جود لشارع في مدينة الحوائط مشى فيه شخص مرتين، ولا وجود لشارع يتسع لسير شخصين متجاورين” ص8، حيث “صارت المدينة متاهة لسكانها ولم يعودوا يجتمعون سوى بظهور الغرباء الذين لم يكونوا سوى أشباح ضحايا الماضي المدفونين بدمائهم” ص8، ومثلما فرق الدم أهالي المدينة ف”الدم جمعهم من جديد وهكذا عرفوا مرة بعد أخرى اللحظات التي يصبح فيها الجميع قتلة” ص9، وكما ذكرت سابقًا فإنك بدون قراءة هذه التوطئة المعنونة ب “بلغني” فإنك ستضيع لامحالة في طرقات هذه المدينة اللانهائية، الكاتب هناك يمنحك بيده مفاتيح الطرقات وخرائط الأمكنة، مع انه يستقيم قراءة كل حكاية على حدة كعمل مستقل بذاته، لأن شروط الإبداع الأساسية متوافرة بقوة وكثافة في هذه الحكايات، غير انك لو أردت قراءة العمل مكتملًا فلابد من مصباح الهداية الأول الذي سيقودك في عتمة وقسوة هذه الحوائط، وكم تذكرني هذه المدينة بدكان “الميني فاتورة” الذي نراه في الأرياف وفي الضيع حيث تدخل إليه فتجد ما قد يخطر على بالك ومالا لن تصل إليه مخيلتك مهما كان اتساعها وتنوعها.
أشخاص هذا الرواية ينقسمون ظاهرا كما أسلفنا وجاء في الكتاب بين نساء المدينة ورجالها والغرباء عليها، إلا أن هناك تقسيم آخر يظهر حين تتبع الخط الدرامي الشفاف الذي يحيك كل الحكايات بخيط من حرير متين، وهو يتوزع بين مجموعتين رئيسيتين هما: مجموعة الأشخاص الرئيسية في الحكايات وصاحبة الفعل المحرك للأحداث وتتمثل في شخصية المرأة صاحبة العين الواحدة وجبل الكحل التي تطل بتفصيلة من حكايتها في حكايات أخرى لتكون عمودا فقريا في الحكاية الجديدة لا يمكن الاستغناء عنه مثل “حكاية الرأس المقطوع وبائع المعجزات” و”حكاية الاسكافي العجوز” والتي يرد ذكرها مرة أخرى في “حكاية بائع الوجوه الذي بلا وجه” في إحالة تكاد تقول بأن امرأة جبل الكحل هي المؤسس الأول لهذه المدينة كما نجد ذلك في “حكاية المرأة ذات الشعر الفاحم” و”حكاية امرأة ديسمبر” حيث يتجسد هذا الربط بما يرويه الحكّاء طارق إمام على لسان الأهالي “يقولون انها نفس العاهرة القديمة التي اختفت مع تحوّل شعرها القطني إلى سواد فاحم” ص99، كما تقترب تفاصيل عالمي “حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته” مع “حكاية كتاب الحياة المفقودة” والهيكل العظمي هنا هو الشخصية المحورية، اذن نحن أمام شخصيات، بشرية كانت أم مكانية تعتبر الركائز الرئيسية التي ينتصب فوقها بنيان هذا العمل، وفي المقابل مجموعة الشخصيات التي ترد لمرة واحدة فقط وهي الأغلب في حكايات المدينة مثل بائع الوجوه أو الفتاة التي لا تنظر لأعلى أو حكاية المرأة التي تغني.
تأثير سكان مدينة الحوائط يمتد إلى العالم حيث الزمن ممتد هنا ولا نهائي مثلما هي المدينة بحوائطها اللانهائية، تأثير يتضح في مقطع شعري بديع من “حكاية الساحرة المعمرة وصانع الفخار والفتاة التي لا تنظر لأعلى” حين يقول: “هكذا استيقظت المدينة على الخبر الذي لا يصدق.. فكيف يمكن أن يتخيل شخص واحد (ولو بينه وبين نفسه) أن الساحرة التي تحلق في السماء منذ تسعمائة سنة، والتي لا يوجد من هو أقوى منها، قد ترنّحت على الحائط الطائر المفرود تحت جسدها كبساط ريح والذي كانت تجوب به السماوات، وسقطت من بين السحابات لترقد جثة هامدة في منتضف الميدان الكبير الذي يتوسط مدينة الحوائط” ص39
فأنت إذا أردت تتبع الزمن في مدينة الحوائط اللانهائية فنحن أمام زمن سائل يمكن أن يمتد لتسعمائة سنة، ويمكن فيه أن يفكر الرجل الذي تجاوز المائة بالزواج من شابة صغيرة ولا غرابة تظهر في ذلك، وحيث الملامح سائلة يمكن أن تتحول أي شيء دون أن تثير الدهشة مثل الشاب سليل السحرة فارع الطول، أو بائع الوجوه الذي بلا وجه وغيرهم، وكأن الأصل هو هذا التحول وكأن الزمن والمدينة والساكنين والغرباء وعابري السبيل كلهم مصنعون من الطين الذي تشكله كما تريد، تمدده أو تقلّصه وفق مزاجك الراهن.
متلبسًا بالشعر
“يمكنك الحصول على الشعر الخام في الرواية” لا أذكر من قائل هذا المعنى لكن لغة صاحب “مدينة الحوائط اللانهائية” الصادر بداية هذا العام 2018 هو المثال الأكثر دقة على صدق هذه العبارة، إذ أن اللغة التي كتب بها طارق إمام هذا العمل تستمد قوتها من موروث ضخم من المعرفة والحكايا والشعر، الشعر الخالص والنقي الذي يطغى بشكل كبير على لغة هذا الكتاب حتى يصل الأمر إلى أنه يمكنك حذف مقطع صغير من حكاية ما لتصبح نصاً شعريًا بلغة خاصة لا يمتلكها إلا من عرف الشعر حقًا وأوفاه قدره مثل “حكاية المرأة ذات العين الواحدة” أو “حكاية شيخ الأمواج” أو “حكاية العاهرة التي باعت شعر رأسها ليلًا”. ينسج هنا الكاتب لغة خاصة يمكنها أن تكون بصمته الأوضح والتي تهيئ لها أجواءُ الخرافة والفاتنازيا المناخَ المثالي كي تذهب في الشعر إلى أقصاه حتى إن كانت الحكاية دموية أو مخيفة “وهكذا عرفنا أن الجمال لا يكتمل دون قدر من الرعب” ص16، الشعر الذي قد يأتيك مكتملا في هيئة حكاية على شاكلة الأمثلة التي ذكرتها، أو متفرقًا في جمل تستوقفك أثناء القراءة لتتصلّب أمامها مدهوشًا أو لاعنًا، يحدثك عن الموت في “حكاية العجوز الذي أغضب الموت” فتتمنى لو كان الموت صديقًا أو حليفًا: “لا يهمك كل ذلك، المهم أنك أهنت الموت وقلّلت من هيبته وحططت من سأنه في أرجاء المدينة….. لقد صار أهالي مدينتنا من يومها لا يصدقون الموت وذلك هو أشوأ شيء يمكن أن يحدث لذلك الرجل المهيب الذي لا يقول كلمة مرتين” ص173، أو تعريفه للموت في “حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته” حيث يقدم تعريفًا فلسفيًا بلغة شعرية عنه: “الموت عناق نهائيّ لا تعرفه مصافحات الحياة التي تترك بالكاد ذكرى ذابلة في راحة يد” ص136.
ولأن الكاتب يحتفي بالجمال أيضًا ويفرد قلوعه بالحكاية حينما يكون الحديث عنه كانت حكايات نساء مدينة الحوائط الحكايات الأكثر متعة وشعرية واشتغالًا على اللغة والفكرة والشعر وكأنه كان يكتب وهو مفلتًا ذراعيه بلا أدنى مشقة: “يومها سقطت السحابات من السماء وملأت الشوارع، وبدأت تتحرك بين البشر والحيوانات متقافزة كأنها بالونات هشّة، بالمقابل تطاير أطفال كثيرون في خفة غريبة وراحوا يحلّقون في سماء المدينة الخالية مستغربين بينما أخذت النساء تصرخ على عتبات الدور” ص40.
الشعر والفلسفة في لغة طارق إمام صنوان لا يفترقان ولن تصادف حكاية تخلو من أحدهما على الأقل أو كليهما، فاللغة هنا فضاء مفتوح يمكن من خلاله اللعب على كل الأنواع الفكرية والأدبية، هذا اللعب الذي يجعل لغة الرواية عالقة في ذهنك حتى تستحيل إلى نغمة تتردد إلى الحد الذي تريد فيه إطفاء ذلك المسجل الذي يشغلها في عقلك: “وكأن الحكاية كلها حدثت من أجل حكاية أخرى، كالحياة نفسها” ص34، على الرغم من وقوعه أحيانا في فخ البنية التقليدية للحكايات الشعبية والتي تتفق فيما بينها على الخروج برسالة أخلاقية أو حكمة فلسفية أو اجتماعية يختتم فيها الحكاية على غرار القصص والحكايا الشعبية التقليدية حيث المعرفة هي التي تقود أغلب سكان هذه المدينة لتعرية وجه الحقيقة البشع وحيث أن العذاب يبدأ لحظة السؤال:
“لأنها كأي امرأة حكيمة كانت مقتنعة أن عذاب الإنسان يبدأ حينما يسأل عما لا يجب أن يعرفه” ص17، وربما بسبب التوليفة الدقيقة يصلح لهذا الكتاب أن يكون كتاب فتية بالقدر نفسه الذي يقرأه الكتاب والمبدعون باختلاف ثقافاتهم وتباين أجيالهم.
ما أخلص إلى قوله هنا وأنا لا أعتبر نفسي غير قارئة ليس إلا أن هذا الكتاب هو ثمرة جهد ومشروع طويل لم يحد عنه طارق إمام ولا قيد انملة، هو شغفه الواضح الذي كان يَعيه منذ البداية، وكأنه كان يكتب الحكايات التي تمنى لو أنها كانت تُروى عليه طفلًا، “مدينة الحوائط اللانهائية” هي مدينة طارق إمام وهو نفسه ذلك الرجل العجوز الذي كتبها في “الحكاية التي لم أكتبها بعد” والتي اختتم بها مدينته، هي عالمه الذي يمسك جيدا بمفاتيحه وهي كتابه الشخصي ان شئت الذي تبدو فيه حتى الحوارات، حوارات ذاتية بينه وبينه مثل “حكاية الرجل الذي قرر ألا يصير وحيدًا” التي خلق فيها نوعًا من الحوار بين الرجل وصورته في المرآة، وكأن الكاتب يحاور نفسه، بلغة تبتعد عن العاطفية وتنحو إلى العقلانية أكثر، منتصرًا للحكمة والفلسفة فيها، لكن شغف الشاعر وفلتاته الخفية، الصريح منها والغامض والتي قد تكون الحكايا الثلاث الأخيرة هي الزلّة الكبرى الدالّة على الميل إلى تأريخ لحظة شعرية فارقة وخلق حياة متخيلة منها، في لعبة فنية شعرية وفلسفية يخرج لنا لسانه، غامزًا بعينه، قائلا لقطاع طرق الشعر والكتابة: هاكمُ ما صنعت فانهبوه.