بنية النفي ودورها في إنتاج الدلالة.. قراءة في الشعر العربي المعاصر

موقع الكتابة الثقافي art 52
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. جمال فودة

   يعكس أسلوب النفي حالة القلق الوجودي الذى يعتمل في وجدان الشاعر المعاصر، فهو ينفي أحياناً ليدافع عن نفسه، وينفي أحياناً  ليسخر من واقعه، وينفي في أحيان أخرى ليعبر عن الثورة والتمرد، كما ينفي كل مظاهر القبح والعناء رغبة منه في خلق عالم أفضل، ولا شك أن أسلوب النفي يوحى بحيوية التجربة، وقدرتها على التوازي مع تفاعلات الواقع.

   ” إن النفي يحدد أسلوب الشاعر في قول ما يريد، على أساس انعدام التشابه الإرادي والتماثل المقصود  بين عالمه والعوالم  الأخرى، لأنه عندما يتلاعب بالنفي  يبغي  الإثبات بطريق المخالفة “. (1)

ومن المناطق الأثيرة التي تجلت فيها بنية النفي دائرة ” الاغتراب ” التي جاء تفجرها بفاعلية داخلية وخارجية، وبخاصة الإحساس بالوحدة بعد فراق البلدة والأهل والصحبة ؛ إذ أصبح كالمنبت لا أرضاً  قطع ولا ظهراً أبقى، فارق أحبابه فما انتفع بالعيش من بعدهم ولا انتفعوا، يقول (حسن فتح الباب)  :

أما أنا

فقد وجدت قريتى على الطريق

لافتة مصلوبة سوداء

بلا أب ولا أخ ولا معين

وعدت منفياً بلا جذور

يقتات بى الحنين

تشب في شرنقتى وفي محارتى

ألسنة الحريق

ولا مجير    (2)

   الشيء اللافت هنا أن تفجر بنية النفي لم يبدأ من ” لا ”  في السطر الرابع، وإنما بدأ من ضمير المتكلم ” أنا ”  الذى نشر دلالته على مجموعة التراكيب، وجاءت أداة النفي لتؤكد هذا الناتج، وجاءت كثافة الأداة مؤشراً على كثافة الدلالة حيث ”  تأخذ الصياغة بعداً حكائياً يتلازم مع زمن المضي، معنى هذا أن هناك تصادماً بين زمن النص وزمن الدلالة في لحظة فريدة تتوحد فيها الذات بالواقع فيكون جدبها جدباً له، ولا يأتي ذلك إلا بالاتكاء على ” السلب ” الذى يوازى  بين الخواء الداخلي والخارجي، وقد استدعى هذا السلب مؤشره الدلالي ” لا ” التي أدت مهمتها في تتابع  متموج يعلو ويهبط وصولاً إلى لحظة  الانطفاء في السطر الأخير “.  (3)

   ويشرع الشاعر النفي أسلوباً لكشف حالة الاضطراب التي يعيشها، ويرصد عجزه حيال واقعه، كما يقول (محمد إبراهيم أبو سنة) :

قال لي:

إن روحك ضائعة.. أنتَ

لا تستطيع الدخول إلى النارِ

في لحظة الحلمِ

لا تستطيع الحوارَ مع الرعدِ

لا تستطيع السكوت ولا النطق

تبقى هنالك في جنة الوهم

تسقى الأساطيرَ ماءَ الغمام الذي لا يجئ (4)

   إن الشاعر يحاور نفسه يذكرها بقدرته على أن يأخذ موقفاً، فيعبر عن حالته تلك برصد أبعادها، لا من خلال الاعتماد على كثرة الألفاظ ولا على معانيها المتناسقة والمتلائمة من أجل صياغة إحساس ما يهدف إليه، بل إنه بكلمات  قليلة يرسخ مفهوماً عميقاً وإحساساً  كاملاً بحقيقة ما مؤداها أن ” الهروب ليس حلاً “، وهكذا  يتضح أن “الإثبات والنفي قيمتان خلافيتان تظهران المفارقة بين حالتين متقابلتين “. (5) فمن خلال تجاورهما يستطيع الشاعر أن ينفي شعارات الوجود والحرية والأمل، في مقابل إثبات القيمة الحضورية للضياع والقهر واليأس.

   وفي واحدة من أجمل مراثي الشعر العربي المعاصر يصف (نزار قباني) حزنه على اغتيال زوجته (بلقيس)، التي فقد بفقدها كل مظاهر الحياة، فالشمس تشرق لكنها لا تضيء، ومن ثم غابت الفصول، واختفت الحدائق، لقد أخذت معها أيامه وأحلامه، ومن شدة الصدمة يقف مذهولاً لا يصدق رحيلها، ولا يدري ماذا يقول ؟

ووجد (نزار قباني) في بنية النفي وسيلة فاعلة لرسم ملامح هذه اللوحة الحزينة، يقول :

بلقيس
لا تتغيبي عني

فإن الشمس بعدك

لا تضيء على السواحل..

بلقيس..

مشتاقون.. مشتاقون.. مشتاقون..

والبيت الصغير..

يسائل عن أميرته المعطرة الذيول

نصغي إلى الأخبار.. والأخبار غامضةٌ

ولا تروي فضول..

بلقيس..

مذبوحون حتى العظم..

والأولاد لا يدرون ما يجري..

ولا أدري أنا.. ماذا أقول ؟
بلقيس..

كيف أخذت أيامي.. وأحلامي..وألغيت الحدائق والفصول..

بلقيس..

إن الحزن يثقبني..

وبيروت التي قتلتك.. لا تدري جريمتها

وبيروت التي عشقتك..تجهل أنها قتلت عشيقتها.. (6)   في المقطع السابق لا تعنى سيطرة بنية النفي الفاعلية المطلقة في إنتاج الدلالة، إذ إن ذلك  محكوم بهدف الشاعر من الصياغة على هذا النحو ؛ حيث يعمل على خلق نوع من التوازي بين البنية اللغوية والتجربة النفسية، إذ يتم إنتاج  الدلالة في وسط زمني ينتمى إلى  المستقبل من خلال مجموعة الأفعال ” تتغيب، تضيء، يسائل، نصغي، تروي، أدري، يدرون، أقول، يثقب، تدري، أجهل ” التي تفجر بعداً زمنياً خاصاً إذ  ”  تتحرك الصياغة حركة مزدوجة، حيث تتعلق بالماضي وتشده إلى الحاضر، كما  تتعلق بالحاضر، وتشده إلى الماضي، فتخلق بهذه الازدواجية معادلاً يوازى تجربتها خارج إطار الزمن، وهى تجربة تجمع بين الذات  وموضوعها في  لحظة مطلقة تختل فيها العلائق التي تربط  بينهما، أما المعادل فهو الارتداد إلى  واقع زمني لاستعادة علاقة  مفرغة من هموم الواقع، علاقة تشكل عالماً من النقاء والصفاء والطهر “. (7)

   والشاعـر قد يشرع أسـلوب النفي سيف تحــدٍ وثورة وتمرد  ؛ يعلن عبره عن رأيه بشكل قاطع لا تراجـع فيه، فلا يسكت على الظلم ولا يقف مكتوف الأيدي، يظهر ذلك في لوحـة فنية رائعة  بؤرتـها زوجتـه (بلقيس)  وخلفيتـها طبيعة المكـان (الوطـن العربي)، ووقتـها الماضي والآتي من الزمان، حيث يصور المأساة في وطـن أقصى أماني ذويه الرحيل عنه ؛ فلا مجال للموت ولا للحياة فيه !

حتى النجوم تخاف من وطني..
ولا أدري السبب..
حتى الطيور تفر من وطني..
و لا أدري السبب..
حتى الكواكب.. والمراكب.. والسحب
حتى الدفاتر.. والكتب..
وجميع أشياء الجمال..
جميعها.. ضد العرب..

يا بلقيس..
يا أحلى وطن..
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن..
لا يعرف الإنسان كيف يموت في هذا الوطن.. (8)

   نلاحـظ أن خيـوط الدلالة تتحـرك على مـنوال الواقع المباشر، ومن ثم يأخـذ النفي  طبيعة التجــدد والاستمـرارية من خــلال مجمــوعة المضارعات التي جـاءت للتعبير عن القضـية المعيشة لتكون أكثــر حيـاة في الحاضـر والمستقبل إذ ” إن التحـولات  الزمنية داخل النص ليسـت  عمــلاً عشوائياً خارجــاً عن إرادة الشاعـر، بل هو من صمـيم العمــل الإبداعـي، فالشــاعر حين يمـر من الماضي إلى الحاضــر يخلـــق نقيضاً يهــدف منه إلى إبـراز البنية  الأساسية لزمن النص “. (9)

لا قمحةٌ في الأرض..
تنبت دون رأي أبي لهب
لا طفل يولد عندنا
إلا وزارت أمه يوماً..
فراش أبي لهب !!…
لا سجن يفتح..
دون رأي أبي لهب..
لا رأس يقطع
دون أمر أبي لهب. (10)

   لقد اتجه (نزار قباني) إلى رصد ملامح  الواقع، فلم يهتم بمظاهر المثالية الخيالية، وإنما اهتم بالتصوير الحى و العميق بما ينسجم مع طبيعة تجربته التي لا تضع في الحسبان القبح والجمال المجردين، فهو يصور حال الأمة وألوان القهر التي تعانيها في كل زاوية من زوايا الوطن رغبة منه في تسليط الضوء عليها، ومن ثم  العمل على النهوض بها والتغلب عليها، فلا حياة في وجود (أبي لهب)، وما أدراك ما أبو لهب ؟! الذي أصبح متحكماً في كل شيء في حياتنا، ولك أن تتخيل حياة تبدأ من (أبي لهب) وتنتهي عنده!

“إن التعامل مع أداة النفي في هذه الدفقة الشعرية  يتم عن وعى بدورها الدلالي في تخليص الزمن للآتي من ناحية، ومده إلى أبعد مدى من ناحية أخرى، وهو مد قد يصل إلى مرحلة التأبيد “.  (11)

………………………

(1) صلاح فضل :  نبرات الخطاب الشعري / الطبعة الأولى / دار قباء للطباعة  والنشر /  القاهرة / 1998 م / ص/ 193

(2) حسن فتح الباب :الخروج إلى الجنوب ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1998  م / ص 14، 15

(3) محمد عبد المطلب : قراءات أسلوبية فى الشعر العربي الحديث/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ القاهرة /1995 م ص/ 184- 185

(4) محمد إبراهيم أبو سنة : البحر موعدنا  قصيدة “أصوات”  / ص 27

(5) مصطفي السعدني : البنيات الأسلوبية  فى لغة الشعر العربي الحديث / منشأة المعارف / إسكندرية  / 1987 م / ص225

(6) نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة  الكتاب الثامن / منشورات نزار قباني / الطبعة الأولى / 1997 / بيروت / لبنان/ ص/36

(7) محمد عبد المطلب : قراءات أسلوبية / 193

(8) نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة  الكتاب الثامن / منشورات نزار قباني / الطبعة الأولى / 1997 / بيروت / لبنان/ ص 40

(9) محمد بنيس : الشعر المغربي المعاصر / 1

(10) نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة  الكتاب الثامن / منشورات نزار قباني / الطبعة الأولى / 1997 / بيروت / لبنان/ ص 42

(11) محمد عبد المطلب : قراءات أسلوبية / 186

مقالات من نفس القسم