«أيام الشمس المشرقة» رواية المصرية ميرال الطحاوي: المتخيل النموذجي وحتمية التراتب الطبقي

عادل ضرغام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د عادل ضرغام

في روايتها “أيام الشمس المشرقة” تقسم ميرال الطحاوي الرواية إلى: (الشمس المشرقة) و(حديقة الأرواح) و(سرة الأرض) و(تلة سنام الجبل) و(الربع الخالي)، ويتفرع عن هذه الجزئيات عناوين جانبية حسب النماذج والشخصيات التي تقدم تاريخا طوليا لها انطلاقا من وجودها في هذا المكان الذي يشكل منفى اختياريا أو إجباريا، يتمثل في مستعمرة الشمس المشرقة الحدودية. ففي هذه الجزئيات تتشكل السمات السردية في كل جزء لاستكمال الدوائر السردية المتداخلة لكل نموذج يتمّ اختياره للتمدد والكشف عن أطره المكوّنة، ففي (حديقة الأرواح) – على سبيل المثال – نجد هذا الجزء موزعا إلى (حديقة الأرواح- ومثل كلب أليف- وشعر الجنيّة- وزينب- والنبي الكاذب).
لو أن هناك سمة ذات فاعلية تشكل مغايرة لإبداع الكاتبة في رواياتها السابقة فسنجد أنها تتمثل في عنايتها بالتمثيل الموضوعي للآخر، وتخلصها من حضور الذات الذي كان ملموسا وواضحا في أعمالها السابقة، وربما شكّل عائقا في رصدها، وأعتقد أن ميرال الطحاوي حاولت التخلص من حضور الذات في روايتها “بروكلين هايتس” في الجزء الأول على نحو خاص، ولكن ثقل حضور الذات جعل التمثيل الموضوعي في النصف الأول من الرواية مستلبا ومشدودا لفاعلية الحضور الذاتي في نصفها الأخير، فظل هذا التمثيل الموضوعي واقفا عند حدود معينة.
إن قراءة متأنية للرواية سوف تثبت أن الأفق الذاتي في رصد الآخر دائم الحضور، ولكنه تحوّل إلى معرفة تتسامى داخل حيز الرصد، فيمارس دوره في التوجيه والتمهيد للحركة أو للنقلة السردية في تحولاتها الجزئية والمفصلية، فيصبح كاشفا عن معرفة محيطة. فتوجيه الحركة السردية يتجلى في النص الروائي وكأنه بناء معرفي ذاتي متعال يمارس دوره في الوعي بالحركة القادمة، ويمارس تأثيره في استنبات مشروعية لطبيعة تلك البنيات، وغالبا ما يكون توجيه الحركة حديثا عاما خارجا عن محددات الزمان والمكان، ولكنها تظل شرايين لامعة ومفسرة للحركة، فهي لا ترتبط بزمان أو بمكان أو شخص، وإن كانت تتلبس بواحد منها بعد التمهيد لهذا التوجيه.
ففي حديث الرواية عن رحيل (نعم الخباز) من بيت أبيها بوصفه الحدث الأول في بداية الهجرة والاغتراب، تسبق هذا الرحيل بموجه معرفي قائلة: “ترحل البنات عن بيوت آبائهن …”، وفي الفقرة التالية تقول: “يوم رحلت نعم”، فهذا الجزء الذي يسبق رحيلها يأتي مبررا النقلة، منمطا الحركة السردية، بالرغم من كونه نمطا معرفيا قائما على تجربة ممتدة يتنازعها الراوي والكاتبة، ليصيرا كيانا واحدا. وقد تكون هذه المعرفة وثيقة الصلة بالمكان الذي يحتوي الشخصيات، ويمارس دوره الكبير في تحديد ملامحها وتوجهاتها، وفي تنميط آمالها، تقول الرواية قبل اختفاء جمال ابنها: “يختفي الناس في الشمس المشرقة بسبب الضجر، يرحلون في الجبال القريبة، وقد يعودون أو لا يعودون”، ثم تقول في الفقرة التالية: “غاب جمال بدوره لعدة أسابيع”.
الآني والماضي المتخيل
اختيار المنفى أو الطريق إلى المنفى وطنا معناه بشيء من التجوّز نهاية الارتباط بالماضي، فماضي هؤلاء المنفيين سواء أكانوا رجالا أم كنّ نساء يظل غائما أو مشدودا لخطاب لحظي تحتمه سيولة هوية المنفى، فالماضي مثل مرآة مغطاة بالتراب، وجميعهم- ربما للرغبة في تفكيك الارتباط بالسابق أو لطبيعة الألم- لا يريدون إزالة ذلك الغبار بفعل التذكر، بل على العكس لديهم نزوع لنسيانه أو للتحرّر منه.
الرواية من خلال الالتفات إلى هذا الماضي في شكل قطاع طولي كاشف توجّهنا نحو استحالة الاستمرار، وفتح باب للتواجد وفق سياق وهوية جديدين دون فاعلية وحضور هذا الماضي، لأنه يمارس في حضوره تنميطا للآني، وتغليبا لصورة ينحني أمامها فعل التشابه والاختلاف، يتجلى ذلك من خلال شخصيات كثيرة تحوّلت إلى تمثيلات مثل نعم الخباز، وسوزانا، وميمي دونج، ونجوى، وكريستال.
تستند الرواية إلى ضمير الغياب الموضوعي في تشكيل صورة إجمالية كاشفة لكل شخصية، مشدودة للحظة الآنية في مواجهة المنفى والمهجر من جهة، ومن جهة أخرى مشدودة – ربما لتفسير حتمية المنفى أو المهجر ومشروعية الشتات القادم – للماضي بترهلاته السابقة، وخروحه عن المقبول والمألوف، فمع كل شخصية- خاصة الشخصيات النسوية- يلحّ الماضي بوصفه سببا للخروج. فخطابات النساء المنفيات المهاجرات تصنعها – بالإضافة إلى الفارق بين الحدث والخطاب المعبر عن الحدث – جزئيات محددة، فهي متحركة أشبه بالخطابات العديدة التي تتعدد وتتشكل وفق أيديولوجيا المخاطبين وجنسياتهم وثقافاتهم، فهن يقدمن – كما يثبت النص الروائي – ماضيا رجراجا غير موثوق، إما بسبب نزوعهن للنسيان ورغبتهن فيه، أو بسبب محاولتهن التبرم والانسلاخ من هذا الماضي، للدخول في شبكة علاقات آنية داخل أرض المنفى والشتات.
ويمكن التوقف في ذلك السياق عند نموذجين كاشفين عن خطابية الماضي وارتباطه بالتحوير والتخييل، الأول نموذج نعم الخباز، وهي أكثر الشخصيات حضورا واستمرارا من البداية إلى النهاية، ومن خلالها يتم تنميط وتشكيل الدلالات المعرفية والفكرية للنص الروائي، والأخير نموذج سليم النجار الذي يستند إلى الماضي المتخيل محوّرا ومغيّرا في حدوده لصناعة أسطورته الخاصة.
ولكن تعدد الخطابات الكاشفة عن الماضي وتوزعها، يصبح أكثر دلالة على هذا التوجه حين يكون هناك وعي من الشخصية بطبيعة ما تصنعه أو تقوم به في انفتاح ذلك على الثقافي والأدبي، مثل شخصية سليم النجار، حيث قدّم عامدا- لكي يخلق أسطورة اللاجئ التاريخي- روايات عديدة وخطابات متباينة عن ماضيه، وهذا التعدد يفتح شخصيته على التشكيل الأسطوري، ويشحن العادي بدلالات غير مألوفة، فهو في رواية لبناني شهد الحرب الأهلية التي أدت إلى وفاة أمه، وقد أغضبه زواج أبيه سريعا بعد مقتلها، وفي رواية أخرى نراه ابنا لمدرس اللغة العربية في دول الخليج، حيث يقيم أبوه مع إخوته، ولكنه يرفض منحازا للمبدأ، وفي رواية أخرى نجده ابنا لأستاذ بجامعة الموصل، وفي أحيان أخرى يتذكر أيام طفولته في بيت أخواله بالأردن.
ومن هنا تتأسس وظيفة جديدة للإلماح إلى الماضي من خلال تأسيسه مع كل الشخصيات المهاجرة والمنفية، فحضوره لا يرتبط بفعل التغييب أو المحو فقط، ولكن في بعض الأحيان تتآزر له قراءة بفعل الحاضر، وتتأسس للحاضر معاينة وخيارات بفضل حضور الماضي دافقا، فيغدو المكان وما يتيحه من وظائف نمطا جاهزا لاستعادة الماضي والسير في رحابه، وتصبح الذات جاهزة أو موجهة لاختيار هذا النمط استنادا إلى تكوين جاهز. فأزمة نجوى ترتبط في إطارها القديم بالثبات وعدم الحركة والتجدد، وعدم الوعي بالتغيير الذي يصيب الشخصيات والحياة، في مقابل زهرة التي غيرت في طبيعة الأشخاص وزلزلت مكانتهم المؤسسة. وبعد السفر ظل لكل شخص ولكل عمل كانت تقوم به وجود أو مقابل في المكان الجديد بالشمس المشرقة، فظلت حالها مشدودة إلى ماضيها، من خلال شخص يحرّك ويؤثر ويوجه، فرئيس القسم في المكانين يقوم بالدور المسيطر ذاته، وفي مقابل زهرةوجدت ياسمين العامري. ومع ميمي دونج تشير كلمة مليك الموجودة في اسمها إلى تراتب قديم لكونها أميرة في قبيلتها الأفريقية، فهذا الماضي المختزن والمتخيل يتناسب مع شموخها وتعاليها، وينمط سلوكها، وإن كانت لا تختلف عن النساء الأخريات في التصنيف العام، ويحل بها ما يحل بالنسوة المهمشات، فهي عاملة نظافة تقتات من بيع البويضات للتلقيح على فترات متباعدة.
المتخيل النموذجي وحتمية التراتب الطبقي
يمثل المنفى أو المهجر نافذة جديدة، يلهث إليها المهاجر لانسداد الأفق في مكانه ووطنه، فيغدو المنفى في المتخيل النموذجي لدى الجميع سبيلا لمعاينة ومقاربة حياة مختلفة عن الحياة السابقة، ولكن في الرواية هناك إلحاح على فاعلية المكان في تنميط وتشكيل طبيعة سكانه وطبقاته الاجتماعية. يبدأ السرد في كل جزئية- انطلاقا من الراوي العليم- في تقديم مقدمة إجمالية تضع الجميع في إطار عام، بحيث تبدو الذوات مستلبة، فله قدرة – أي المكان – على تشكيلها وتذويبها، ثم ينتقل السرد في انتقاء نماذج لتقديم صورة من قريب عنها، لا تمحو الصورة الإجمالية، ولكنها تبدو أكثر قربا ووضوحا، بما تكشفه من ارتدادات وثيقة الصلة بانضوائها داخل إطار عام.
تتجلى الجزئية الثانية في تشكيل الثبات المستمر في الوطن الجديد أو أرض المنفى والمهجر، في رسوخ بنية الطبقات واضحة وجاهزة في مستعمرة (الشمس المشرقة)، فهناك الجنة الأبدية في أعالي الجبال التي تقترب بارتفاعها من السماء مشيرة إلى الطبقة العليا، وهناك (تلة سنام الجبل) التي تتوسط الوجود وتتمركز بين قصور الجنة الأبدية، وبيوت الشمس المشرقة، مشيرة في ذلك السياق إلى طبيعة البشر والسكان بتنميط جاهز، وإلى الأعمال التي تناسب كل طبقة، وتتساوق مع حدود المكان الجغرافي، بتقسيماته الحادة، وليس هناك مساحة لتجاوز ذلك التحديد إلا فيما ندر. تقول الرواية عن (تلة سنام الجبل): “إذا وقف العابرون على هذا السياج الصخري فيرون تحتهم من مسافة بعيدة بيوت الشمس المشرقة المتلاصقة، وجزءا جانبيا من الخليج والكوارتر، وإذا نظروا نحو السماء سيرون أضواء المنتجعات السامقة فوق الجبال”.
وفي سياق حدة وهيمنة التراتب الطبقي نستطيع أن نفسّر حالات الفحش اللغوي وانتشاره عند بعض الشخصيات من النساء، فهن الأكثر تأثرا بهذا الثبات وتلك الهيمنة، فهذا الفحش اللغوي الذي يتكرر كثيرا في الخطاب المحكي – فوق إشارته إلى الفوارق الطبقية – يشير إلى حالة من حالات التعاظم على انسداد الأفق والثبات، فليس هناك ما يدعو للتلطف أو التهذيب أو المداراة، فالشتائم التي تستخدمها نعم الخباز مع ميمي دونج، أو مع زوجها أحمد الوكيل قبل رحيله، أو مع ابنيها قبل انتحار الكبير جمال، ورحيل الصغير عمر وهروبه، أو مع الحياة بشكل عام تبدو وسيلة من وسائل التنفيس الجزئي ضد جهامة الواقع وثباته.
القارئ لرواية “أيام الشمس المشرقة” يدرك انفتاح الرواية في نهايتها، وهذا بسبب التوجه نحو القطاع الطولي لحيوات ممتدة تتكرر دائما، فهذا النمط الكتابي المرتبط بالقطاع الطولي للشخصيات دون انتظار أو ارتباط بنهاية قادمة يؤسس ارتباطا بالحياة بالرغم من صعوبتها، فتصبح الشخصيات عبارة عن عينات تحت مجهر كشفي، يكتفي بالمعاينة دون أحكام، ودون إغلاق نهائي لتلك الشخصيات، من خلال التوجه نحو الاكتمال، باستثناء شخصية ميمي دونج التي حملت الأمواج جثتها، بعد رحيل السفينة (عين الحياة)، وعودتها إلى موطنها، بعد رفض السلطات السماح لركابها بالهبوط، وكأن هذه الرواية لا تقدم حدثا مكتملا، أو شخصيات باحثة عن نهاية أو إغلاق، وإنما تقدمها بوصفها نماذج ذات حضور دائم الوجود والتكرار.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم