صورة القبطي في الرواية المصرية.. “المواطن ويصا عبد النور” نموذجًا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 40
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.خالد عاشور

تنتمي رواية حسين عبد العليم “المواطن ويصا عبد النور” (نشرت في 2009) إلى قائمة طويلة من الروايات المصرية التي وُجدت فيها الشخصية القبطية، ووُظفت كشخصية روائية، منذ أن تسللت تلك الشخصية إلى نسيج الرواية في فترة مبكرة من عمر الرواية في مصر، ربما تزامن مع نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر.

كما تنتمي رواية “المواطن ويصا عبد النور” إلى قائمة قصيرة من الروايات التي حملت عناوينها أسماء شخصيات قبطية، مثل رواية بدر الديب “أوراق زمردة أيوب”1979 ، ورواية نعيم تكلا “بقطر” 1985، ورواية نعيم صبري “أوبرا الأستاذ تحتمس” 1999، ورواية سعيد سالم “كف مريم” 2001 ورواية خيري شلبي “إسطاسية” 2008 ورواية عادل عصمت “حكايات يوسف تادرس” 2014،  وغيرها.

وهو ملمح فني تتعدد أهدافه بتعدد السياق الروائي، وهو في رواية حسين عبد العليم يهدف إلى إثبات الذات للشخصية القبطية ويصا عبد النور الانطوائي المحب للعزلة والانكفاء على الذات، فهو يعيش داخل حياته الخاصة التي هي حبه للسينما وكتابة مذكرات تفصيلية عن حياته وتعليقاته على الشئون العامة والخاصة.

لذا يصر القاص على ذكر اسم بطل الرواية كاملًا “ويصا عبد النور” مسبوقا بلقب “المواطن” بدءًا من عنوان الرواية حتى نهايتها.

ولقد حاول ويصا عبد النور أن يأتي أشياء أخرى تخرجه من حالة العزلة وتقضي على عقدة الخوف والجبن بداخله إلا أنه لم يفلح:

“إذ كان يذهب في أحلام يقظته ويرى نفسه وغد أمريكي وسيم مثل كلارك جيبيل أو مثل استيف ريفرز في أفلام هرقل (تلك الأفلام التي كان يراها في سينما الفيوم أ وسينما رمسيس) ويروح يعصف بغريمه ويفرّج عليه خلقه – وهنا يهدأ المواطن ويصا عبد النور وينام في رضا.

بل – وإن المواطن ويصا عبد النور قد أعقب تلك الانتقامات الخيالية بسلوك عملي – إذ التحق بفريق الحديد وكمال الأجسام بنادي شباب ناصر بالحادقة بالفيوم، وأخذ يتدرب وينهك نفسه كي يقضي على حكاية جُبن النصارى هذه : إزاي يعني؟! دا كل أبطال الرياضات العنيفة في العالم  أقباط”  الرواية صفحة 14

تنتمي رواية حسين عبد العليم إلى دائرة “الريف والصعيد” من دوائر التجسيد الروائي للشخصية القبطية (تدور أحداث الرواية في إحدى قرى الفيوم)، وهي دائرة تذوب فيها ملامح الشخصية القبطية داخل إطار اجتماعي وقيمي أعم وأشمل، فلا تكاد تعرف داخله القبطي من غير القبطي، دون أن تمحى الملامح القبطية للشخصية تمامًا.

فعندما تمرض زوجة ويصا، أم متى، ويذهب بها إلى معهد الأورام في القاهرة:

“لم يدر المواطن ويصا عبد النور كيف تسرب الخبر ولا كيف عرف الجيران أن الست أم متى في معهد الأورام في مصر، يحكي لأصحابه: كداب لو قلت لكم الباب مبطلش خبط طول النهار..لكن على الأقل تلات أربع مرات كل يوم ..ييجوا الجيران .. وسلامو عليكم يا خواجه … وسلام ورحمة الله يا ستي .. والست أم متى عاملة إيه دلوقتي… ونشكر ربنا أهي موجودة في المعهد .. وعملت التحاليل والأشعات .. وبتعمل …والعملية إمتى.. ولسه مااتحددتش.. طب ابو فلان بيقول لك ابقى سيب العنوان والعنبر علشان يروح يطل عليها.

  • ربنا يحبب فيك خلقه يا ويصا
  • ولا هناك … هناك بقى شئ تاني خالص الوليه المنقبة قاعدة تاكل ع الأرض في العنبر.. وفجأة قالت لي : إلا ابنك اسمه إيه؟ قلت لها متّى … قالت لي : طب تعالا اقعد يا بو متّى .. جابر الزاد “

الرواية صفحة 46، 47

لقد ازدحمت شقة ويصا بالزوار وعواد زوجته لدرجة الانفجار، حتى أزعجته وعطلت حياته الخاصة التي تمنى العودة إليها مرة أخرى. وهو ما يشكل السمة الأساسية من سمات تلك الدائرة من دوائر التجسيد والانتماء في روايات الشخصية القبطية.  

وعندما تحكي له زوجته فايزة عن خناقة حصل بين جارهم أبو آلاء وزوجته أم آلاء يكون رده متسقًا مع قيم هذه الدائرة السائدة من حيث العيب والواجب والأصول بخلفياته الدينية وغير الدينية:

 “الراجل يا خويا كان كأنه كاتم وانفجر .. وصوته كان جايب لحد عندنا.. قعد يقول لها: نقاب واتنقبتي .. لكن بقى الشيخ اللي بتحضري له في الجامع مش هيتحكم فيكي أكتر مني .. أنا اللي جوزك يا ست هانم مش هو ..أول حاجة هتتحاسب عليها المرأة يوم القيامة عدم طاعة جوزها …. وخرب الدنيا.

  • والله عنده حق يا فوز .. ما هي دي برضك عندينا: الرجل راس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة .” الرواية صفحة 18

  وفي هذه الدائرة يكون الاحترام مكفولًا من الجميع مسلمين ومسيحيين للشخصيات الكبيرة سنًا ومقامًا بغض النظر عن دينهم، فقيم الاحترام والتبجيل عنوان يندرج تحته الدين والهوية الدينية، فمما دوَّنه ويصا في مذكراته تحت عنوان : شذرات من حياتي ..رأيت وشاهدت وعرفت، تلك القصة :

“خرجت أم صباح تجري وراء زوجها المعلم عبده الخير لأنه ذاهب لمضاجعة أم وليد.. جرت وراءه كالمجنونة في الشارع وهي تقول : أنا عارفاك يا عبده.. ارجع يا عبده، فقال لها: بقى كدة يا فوزية؟ .. وعاد معها وكتفها بحبل غليظ وظل يضربها بعصا حتى قالت جاااي ..العرض للنبي.. روح مطرح ما تروح.. ولم يفلح الناس في إنقاذها ..وعندما وصل المقدس جورجي تركها المعلم عبده إكرامًا له… لكنه أنذرها ………” الرواية صفحة 25

على أن دائرة “الريف والصعيد” من دوائر التجسيد الروائي للشخصية القبطية لا تمّحي فيها الملامح القبطية تمامًا، وإنما تظل لتلك الشخصية خصوصيتها التي تميزها عن غيرها من شخصيات الرواية والمجتمع من حوله. وهي خصوصية تتكون من مكونات عدة أبرزها الدين والتدين :

“بعد أكتوبر 1981ومقتل السادات زادت عند المواطن ويصا عبد النور الرغبة في تدوين الآيات، كان يبحث بشدة وجهد عن إنصاف للأقباط في ذات دستور المسلمين، وقتها اكتشف آية. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى……. الخ الآية، كما اكتشف آية: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم.

ثم غرق المواطن ويصا عبد النور في كتاب المسلمين، وقع أسير آيات وجمال عبارات ودلالة كلمات لم يملك سوى أن يعجب بها ويسجلها مثل …………….. قرر أن يتوقف لبعض الوقت ويقرأ في الكتاب المقدس لكي يتعادل، إذ شعر بمغناطيسية كتاب المسلمين وقال في سريرته: بالراحة يا واد يا ويصا… يا واش يا واش.. دي أمك الله يرحمها كانت عاوزاك تبقى قسيس .

وعندما شعر المواطن ويصا عبد النور باستقراره الوجداني كمسيحي صالح عاود القراءة في كتاب المسلمين والتدوين…” الرواية صفحة 38

يلجأ حسين عبد العليم في روايته إلى تقنية كتابة المذكرات في داخل الرواية لنطّلع من خلالها على هواجس شخصية ويصا كنموذج لهواجس الشخصية القبطية وما طرأ على حياتها من تحولات صاحبت تحولات المجتمع المصري في حقبة نهاية السبعينيات:

“كان المواطن ويصا عبد النور يقسم الحكاية إلى تواريخ محزنة، وتواريخ مخيفة بجوارها كلمة ربنا يستر وتواريخ مفرحة……..من ضمن التواريخ المخيفة المدون تحتها استر يارب: 1/2/1979 عودة آية الله الخميني إلى إيرن بعد غياب 15 عامًا قضاها في منفاه في باريس.

ومن التواريخ المحزنة 9/5/1950 وفاة مقرئ القرآن الشيخ العظيم محمد رفعت” الرواية  صفحة 19

وكما تُبرز تدوينة ويصا هذه المفارقة الناشئة من حبه للشيخ محمد رفعت قارئ القرآن، وتوجسه من عودة الخميني، تلقي الضوء على الهاجس الذي وُلد في نفس الشخصية القبطية منذ فترة نهاية السبعينيات وظهور المد المتطرف الذي اقترن بنجاح الثورة الإسلامية في إيران وبمقتل السادات، ففي رواية حسين عبد العليم نلمس تجسيدًا لهذا الهاجس من خلال أسرة ويصا عبد النور :

“عاود المواطن ويصا عبد النور التنهيد وهز الرأس قائلًا: فعلًا ..فعلًا .. ويذيق بعضكم بأس بعض .. فعلًا هيدوّقونا المرّ.. قتلوا السادات واتوحشوا في البلد…………… ربنا يجيب العواقب سليمة .. ربنا يجيب العواقب سليمة” . الرواية صفحة 40

على أن الرواية تبرز وجهين من وجوه التعامل مع تداعيات تلك التحولات التي تحولت في بعض الأحيان إلى مضايقات حلا للبعض أن يطلق عليها اضطهادًا:

الوجه الأول يمثله الجيل الأكبر سنًا جيل الآباء ومنهم ويصا، والوجه الثاني يمثله الجيل الأصغر سنًا ومنهم أبناء ويصا.

فعندما تشكو فايزة حنا زوجة ويصا إلى أبيها مضايقات الأولاد لها في الفصل: “الواد من دول مايحلالوش غير إنه يمسك الطباشيرة ويرسم الصليب ع الصبورة ويُشطب عليه.. وغيره يرسمه ع الأرض وهات يا دوس. ولا البنات ..عقارب والله.. البت من غير مناسبة تبص لي وتعمل بصوابع إيديها صليب وهات ياتف عليه.. وبعدين تعمل صليب دوبل (قال يعني شباك النبي) وهات يا بوس فيه. أي مصيبة تحصل في الفصل الكل في نفس واحد يقولوا فايزة حنا ..فايزة حنا.. كأني جربه يعني.. هي فايزة حنا دي بقى شخ عليها الكلب؟” الرواية صفحة 27

حينها كان رد أبيها حنا بنيامين عليها : “دي حاجات صغار.. الناس الكبار زين معانا وزي الفل”. الرواية صفحة 28

أما الجيل الأصغر سنًا فرد فعله على هذه المضايقات أخذ منحىً آخر تمثل في التفكير في الهجرة، مثل متّى ابن ويصا :

“شوّح المواطن ويصا عبد النور يعرب عن سأمه من هذا النقاش المعتاد، تمامًا مثلما شوّح يائسًا في آخر مناقشات هجرة متّى إلى كندا.

في البداية هاج المواطن ويصا عبد النور وماج لدرجة إنه ضرب متّى بالقلم، قال كلامًا كثيرًا عن الوطن لا يذكر منه حاليًا سوى رائحة الهواء التي لا توجد سوى هنا تطهر الرئتين، طجرم الولد متى: عاجبكم عيشة الزفت والفقر دي .. عاجبكم وجع الدماغ …كل يوم والتاني في الجوامع : النصارى .. النصارى .. بنسمع شتميتنا بودننا ومش قادرين نتكلم .. هو احنا إيه؟ جربه..عاوزين تقعدوا هنا مع ذكرياتكم خليكم.. هيجي يوم وياكلوكم”. الرواية صفحة 60

   أما رد الأب ويصا على كلام متى فكان مختلفًا ويشبه إلى حد كبير الرد السابق لحنا بنيامين والد فايزة: “شوّح بيده : غور .. غور يابن الكلب .. مش عاوزك .. انت حمار .. حمار ومش فاهم حاجة أبدًا وعمرك ما هتفهم.. يا خسارة تربيتي فيك كل اللي بتقول عليه ده هيتكنس بمرور الوقت”. الرواية صفحة 60

على أن الرواية في نهايتها تبدو وكأنها تتنبأ بسيطرة هذه التحولات المجتمعية وغلبتها فيقر لابنه بالسفر ويرسل خطابًا إلى خاله مكرم بنيامين في كندا يوصيه خيرًا بمتّى.

لكن هذا اليأس نابع عند ويصا وعند زوجته من شعوره بأن ذلك جزء من حالة عامة  من التغير والتحول المجتمعي يصعب على هذا الجيل  أن يقف في وجهها:

 “تمدد المواطن ويصا عبد النور إلى جوارها: يعني هي جت على دي يا ختي.. ما الأستاذ مجدي راح السعودية ..والدي جي واجع دماغنا ليل نهار مبنعرفش ننام .. البانجو في الشوارع عيني عينك .. ميت جرنان واللي هنا زي اللي هنا.. حتى الدير ..دير العزب نفسه بقى كله بنات على صبيان سارحين مع بعض” . الرواية صفحة 54

“تثاءبت فايزة حنا: وبعدين الزمن اتغير ..اتغير قوي..لا عاد فيه جيران بتبعت صحون أكل لبعض.. ولا عاد حد عارف حد..ولا” الرواية صفحة 62

“وطبيعي جدًا أن يكف المواطن ويصا عبد النور عن القراءة والتدوين ومشاهدة السينما وأن يسرف في شرب الخمر …………………………

أوقن المواطن ويصا عبد النورأنه سوف يموت بسرطان في مكان ما أو بتليف في الكبد، وطبيعي أن تموت الأشجار في حي الفوال وتصبح مبيضة وكالحة الأوراق، وأن تمتلئ الطرقات بالزبالة، وتصغر الشوارع وتتضاءل وتعلو أرضيات الأرصفة حتى تكاد تبلغ شبابيك الأدوار الأولى للبيوت”. الرواية صفحة 63

يتسم أسلوب حسين عبد العليم الروائي بسمتين رئيستين :

الأولى: قدرة مذهلة على التكثيف والإيجاز الشديدين، فالرواية لا تتجاوز عدد صفحاتها 63 صفحة، وفي سطور قليلة يستطيع أن يجمل لنا فصلًا كاملًا من حياة ويصا عبد النور وأسرته.

الثانية: روح الفكاهة التي تطبع هذا الأسلوب بطابع ظاهر، يقترب أحيانًا من حد الكتابة الفكاهية الساخرة.

ولننظر في هذا النموذج من الرواية التي يلخص فيها الروائي – ساخرًا – تَبدُّد أحلامه في أن يظفر بإستير وليامز في صورة زوجته فايزة حنا، ثم تبدد أحلامه مرة أخرى  في أن تكون ماجدة ابنته هي استير وليامز:

“داخله يقين نهائي بأنه لن يكون أبدًا جين كيلي، فصرف النظر نهائيًا عن موضوع إستير وليامز قائلًا لنفسه أن كل فولة ولها كيال.

عاد المواطن ويصا عبد النور إلى سنهور – أمضى هناك أسبوعًا ورجع ، رجعت معه فايزة حنا – ابنة خاله حنا بنيامين صاحب مصنع العرقي في البلد – وقد أصبحت زوجته : بيضاء ، سمينة، وليست لها رقبة، وتخنفّ في كلامها .

ظل المواطن ويصا عبد النور مبتئسًا لبعض الوقت ثم أخذ قرارًا جديدًا سوف يحب فايزة حنا كما هي متجاوزًا عن تُخنها وقصرها ووركيها المليئتين بالكلاكيع اللحمية والعروق الزرقاء وخنفها في الكلام ورأسها المزروعة بين كتفيها” الرواية صفحة 8

ثم يقول عن ماجدة:

“حبلت فايزة حنا وأنجبت ماجدة، غريب أمر هذه البنت، كلما شبت عن الطوق اقتربت في الشبه والرشاقة والحركات من إستير وليامز.

كبرت ماجدة وأصبحت شابه، ذات يوم كانت عائدة من الخارج في لهوجة ولم تُعر أبيها ولا أمها الجالسين التفاتًا، جرت إلى دورة المياه، بالكاد رفعت الجلابية وأنزلت الكيلوت وجلست القرفصاء، وتدفقت بطنها بأصوات مفزعة وقرقعة.

سمع المواطن ويصا عبد النور ذلك، أخذ قرارًا لم ينس أن يدوّنه: ماجدة ليست هي إستير وليامز” الرواية صفحة 10

 

عودة إلى الملف

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم