إطلالة على تجاويف الرثاء والغضب فى ديوان عزة حسين “ما لم يذكره الرسام”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"وسأرقبهم بشغف/ وهم يدونون عنى/ أساطير مصكوكة/ وأُثمّن كل محاولاتهم/ - خصوصاً المنهجية-/ لتعرية خفائى/ كأن يُجرى أحدهم استقصاءً/ حول عدد نوبات حزنى/ ويقارنه بآخر عن أعضاءٍ لى/ التهمَها جذام الوحدة / أو ينجز ثالث / دراسة حالة / على خطوتى".

بهذه السخرية الطافحة فى قصيدة “إطار” ضمن ديوان الشاعرة عزة حسين الأول “على كرسى هزاز” ربما كانت تسعى دون اكتراث أو وعى منها لإبعاد المتفحصين وأهل التأويل عن نصوصها وهو ما لم تنجح فيه معى. ستكبر السخرية حتى أنى لا أراها مصادفة أن يكون هذا المقطع من قصيدة بعنوان “إطار” قبل سنوات من كتابة القصيدة الأخيرة بعنوان “استعارة” فى الديوان الثانى الذى نتناوله اليوم “ما لم يذكره الرسام” والصادر عن دار الأدهم والهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة.

من ناحية.. “الإطار” مادة مُثلى للمجاز ..الاستعارة والرمز، والاستعارة بدورها إطار سيقدم نفسه بنضجِ جمالى وخبراتى أكبر فى العمل الثانى. قد تنقلب الاستعارة إلى حاجز مُعيق للمعنى وللشعرية لو أصبحت هدفاً فى ذاته أو محاولة للهروب من التعبير والالتفاف على الروح. إن نظرة ولو سريعة إلى الديوانين توضح المسافة بينهما فى اللغة وصياغة المعانى ومجمل الأدوات الجمالية التى لم تعد ناتئة متراصة بل أكثر ليونة، أقل تشنجاً إن سمحت لنفسى بالوصف، وطبعا قد تكون الاستعارة نذير شر ما كما تصفها الذات الشاعرة فى الديوان الثانى: “وكاستعارة باهتة/ يدك على خصرى، وعيناى سائحتان/ تستنبت حياةً أخرى/ فيما أرتب ميتتى المقبلة”، بل حين تكون الحياة كلها “استعارة” بالمعنى الحرفى للكلمة أو حتى بالمعنى الذى قصده ديريدا – أنها تحدد وتُضعِف الاسم – فإن ما يتبقى قد لا يكون سوى مزيد من السخرية وإيراد مفردة “استعارة” على سبيل ذلك. تقول الشاعرة “ستحتمل القصيدة/ استعارة من نوع :/ ” أصابع بيانو”. بل يمكن لكل ما سنتفق – إجرائياً – على تسميته بالكتابة النسائية ( وهو مصطلح لا أحبذه لكن لا أصدق تماما استحالة توافر ملامحه فى الشعر الذى تقترفه المرأة خاصة فى مجتمعاتنا )بحسب مونيك ويتيج فى مقالها ” وجهة النظر : عالمية أم خاصة ” ..” أن تكون الاستعارة التطبيعية للحقيقة القاسية لسيطرة النساء ومن ثم تُكبِّر الجهاز الذى تقدم الأنوثة نفسها به : أى الاختلاف ، الخصوصية ،وجسد المرأة/ الطبيعة “. بموجب هذه الرؤية يصبح الجندر وسيلة قهر للمرأة وحدها .

وللحق ليست هذه هى الزاوية التى أود تناول سمات وملامح ديوان عزة حسين “ما لم يذكره الرسام” منها لكن قد يكون من التدليس الابتعاد تماماً عن تلك الروح الخفاقة والعذابات التى جاهدت الشاعرة لكبت تصنيفها، أو لتمويه منبعها إن نحن عزفنا عن رؤية ما تقدمه عبر ديوان رأيتهُ اعترافياً – بمقدار – لذا كان الحل أو المخرج أن أقدم بعض الإشارات لأهم ما فى ديوانها حتى عبر استعراض قد يبدو بانورامياً لمجمل القصائد مع التوقف قليلاً فى منحنيين أو تجويفين هما الرثاء والغضب داخل الديوان واستحالة فصمهما عن عبء ثقافة ذكورية تتمطى على الأنفاس المختنقة لمن يقاومن التحول إلى دُمىً ، تلك الدُمى التى يتم الإشارة إليها فى الديوان بأكثر من طريقة .

فى أى ديوان شعر أحسب أنه لا يمكن تجاهل أى شىء ، لا العنوان ولا ما يحيل إليه ، سواء تحقق أم أُحبِط ، لا الهوامش إن وُجِدت ولا أى إهداء لا شك سيرتبط بمعانٍ دلالية لمقصود الشاعر أو الكاتب فهكذا تصبح مثلاً التناصات والاستشهادات فى مقتبل فصول رواية ما جزءًا أساسياً من المتن السردى وهى فى مستهل الدواوين الشعرية قد تمثل الانعطافات التى يُسرِّب بها الشاعر ثيماته واستلهاماته أو حتى بعض حيّله الفنية ولو لم تكن العناوين للقصائد تقدم كشفاً استباقياً لها لما قلقنا منها وتهربنا من منحها أحياناً لبعض نصوصنا .

ثمة ما نندفع إلى تخيله و إلى تصديقه فور قراءة عنوان ” ما لم يذكره الرسام ” – الديوان الثانى للشاعرة المصرية عزة حسين – ثم مما يتلوه من إهداءات بعضها واضح مباشر بدلالاته والبعض الآخر مُشفَّر بتناصاته وبعضها صريح التقاطع والتناص .

لا يمكن إنكار الفارق بين ” ما لم ” وما لن ”  فى اللغة . الأولى إيحاء بانفتاح وديمومة وقابلية للحكى والبوح والتعريف ، إحالة على ماضٍ ووصل له بالحاضر كما تحتوى على شبه اعتذار أو استدراك كأن ما لم يتم ذكره قد سقط سهواً نتاج خطأ أو خطيئة تأجيل وإغفال أشياء لأسباب سيبقى بعضها ملتبساً والبعض الآخر ربما لا يغادر الكاتبة الأنثى فى مجتمع كمجتمعنا حيث كانت جداتنا يكتبن بالأمس القريب بأسماء مستعارة للنشر.  

ما زال العديد يفتشون بين ثنايا ديوان تصدره امرأة شاعرة يعرفونها بحثاً عما لم تبح به لهم فتتحول نصوص النساء إلى محاكمات لسيرة صاحباتها وتحليلات لأفعالهن الواقعية غير المعلَنة أو المُحتَمَلة المتخيَلة . لكن هذا – فى المجتمعات العربية ليس جديداً . ما الجديد ؟ أن ثمة أسماء عدة تبين تجاربها كيف انتصرت على الرقيب فى لحظة قرار ما أو مع تقدم السن كذلك حين تصل الشاعرة أكثر من الموسيقية أو الروائية أو الرسامة إلى الحافة : الوعى بأن الاستمرار فى الكتابة بلغة الخوف ، لغة تبريرية تجعل الكتابة – بتعبير نازك الأعرجى – دروعاً لا سهاماً ، مكتفية بحالة مزيفة من الإنكار والدفاع دون اكتساب لحقٍ ما ، لغة لا توفر المتعة الجمالية أو أى قدر من الشفاء النفسى لا لصاحبتها ولا للقارئ هى لغة لا داعٍ لها ولا حاجة لأحد بها . 

ربما تدرك عزة حسين بشكل متعاظم كم تحتاج إلى الشعر وكم يتطلب من إخلاص وتدريب على ترك كل أنواع الإرث خلفنا .

رأيت أن أركز على تجويفات العمل وكيفية تعامل الذات الشاعرة معها خاصة وأن العنوان شديد الإيحاء بسرٍ ما وشيك الإعلان عنه عبر عنوان موسوم بحالة التمرد على الصمت الذى تذمه الذات الشاعرة داخلياً. الفعل ” يذكر ” يأتى فى سياق نفيه ويتعالق مع نية الإفصاح المؤجل عن شرور وبؤس مخبوء فهل لم يكن ممكناً أن يكون صاحب العنوان رجل؟. ولماذا يكون من سيحكى / أو لا يحكى رجلاً ( الرسام ) بينما صاحبة الديوان امرأة ؟ هل الذات الشاعرة تتحين قول حكايتها الشعرية لأنها تعرف أن المسكوت عنه سيسكت عنه ” الرسام ” / الرجل أيضاً ؟..  وهل – حين نقرأ الديوان – يتكشف لنا فعلاً ما لم يذكره الرسام ؟ أم أن ما لم يذكره الرسام لم تذكره الشاعرة ؟.

ثمة اعتراف مسبق بالفجوات فى القراءة لكن سببها فجوات الكتابة سواء لأسباب جمالية أو لإكراهات ذات صلة مجتمعية. أما لو كان العنوان ” ما لن يذكره الرسام ” فيمكن التهيؤ لوضعية أكثر عنفاً تصاحب قرار وقف البوح وثمة إيحاء بالمستقبل فى هذا الاختيار – لو كان تم – لأن الفعل يعنى الزمان لولا أن الفعل هنا منفىّ ، مُصادَر وسنتأمل ذلك فى متن القصيدة التى حمل الديوان عنوانها .

الإهداءات تتراوح بين رموز للسلطة الذكورية ( الأب ) حيث تقول الشاعرة :” إلى أبى ثانية : علّه يعفو عن القصائد ” أو امتدادات لها ذات ضغوط لا يمكن تجاهلها :” إلى الأبناء : ديوان الفرح ” ثم نجد اقتباساً من شعر رامبو بما يعبر عنه من توق لمكافأة انعتاق بعد الصبر، بعدها فورا ينقذف القارئ إلى أول النصوص بعنوان ” جحيم ” كأنما لم تملك الذات الشاعرة صبراُ أكثر من هذا لتدخلنا معها إلى ملكوتها المسكوت عنه. هى قصيدة مُحملة بالدوال الثقافية ” سارتر ” ، و” سانشو ” من دون كيخوته ، و هيرا الإلهة الإغريقية العظمى زوجة زيوس كبير الآلهة التى ترعى النساء المتزوجات ، كل هذا يتقاطع مع الصدم المفاجئ بالزمن الذى تنحبس فيه الذات الشاعرة.. زمن الكيبورد والعروض الافتراضية ، والزمن الواقعى خارج القصيدة التى تتراوح لغتها بين الاعترافية والتشفير ربما ليس فقط لأسباب جمالية وذاتية بل بسبب من ” زَبَد السخرية ” المذكور فيها لكن حتى هذه نكتشف وثوق صلتها بحيل عدم الكشف : ” أيهما أكثر وخزاً يا ” سانشو” ؟/ الحقيقة أم زبد السخرية ؟ / أنا أعرف أن الطواحين أطيب من القتل / وأنك أطوع من المصارحة/ لكنه الدوار .. / الدوار يا ” سانشو ” / والرأس الـ “إبليس “/ يتستر على أنين القنبلة ” . أراها لغة تريد أن تقول إنها لا تستطيع – حقاً و كلية – أن تقول . ولنلاحظ دلالة كلمة ” المصارحة ” البديلة عن ” المصارعة ” التى كان يتوهمها بطل دون كيخوته فى مبارزته لطواحين الهواء . استلفتنى أيضاً كون المخاطَب هو ” سانشو ” ما يجعلنا فوراً نتخيل أن الذات الشاعرة المتحدثة تمثل وتتمثل المثالى المجنون دون كيخوته .

القصيدة التالية بعنوان ” ثالوث ” ( روح / نفَس / موت ) نفهم ارتباطهم الثيماتى بعنوان الأولى… ونتأكد أكثر من الوقوف البرزخى بين مناطق الضفتين المشتعلتين : الشعر والحياة وما بينهما وما يليهما . انظر إلى قصيدة ” نفَس ” : ” سأقول إنه هزيل / ومعرورق / وخائف / كلما يدفعه الملل / للخروج / تحدجه رجفة / فيموت بوداعة “. قصيدة ” محبة ” تبدأ بتعريف داخلى للصمت بأنه ” جيفة ” بينما القصيدة ” محبة / تختنق ” لأن الفن فعل حب . نجد قصيدتين فى اتهام الرب بالقسوة إحداهما عنوانها ” قسوة ” والأخرى بعنوان ” سبعٌ عجاف ” بعدها نتقبل تماماً أن نجد قصيدة ” الكراهية ” لأن هذه عكس كل العناوين الصفات / المصادر السابقة كعناوين استحقت لام التعريف كأنها تقصد كل الكراهية التى لا تخجل من التصريح بها كأنما تقف الذات الشاعرة لتنظر بملء عينيها فى عينىّ العالم المنحط الذى أضاعت وقتاً طويلاً فى التظاهر بالعيش مع قوانينه التى لا توصل إلا لما اختارته الشاعرة عنواناً لهذه القصيدة التى تُعرّفنا كم يمكن للكراهية أن تكون صادقة جليلة مُستَحَقة ، كم يمكنها أن تكون فعل اكتراث أخير وتألم حقيقى ما قبل موت كل المشاعر أو ما كان الشاعر الكبير الراحل حلمى سالم يراه أفضل من الأسوأ الأخير : الاحتقار .

فى تشخيص الكراهية توجد طبقات معتِمة مما فرضه الآخر عليك حتى يصل إلى استحقاقها حين يتمسك بتكرار ارتكاب مقصود لما يجعل عنفوانك وبَرَكتك وطزاجتك من أمور تأفل ، تموت ويتحول الإيجابى المتبقى فى روحك إلى أسياخٍ ضدك ، مثلاً إلى أسف على البراءة والحنق العميق لكون موضوع الكراهية فرض عليك هذا التغير المهول فى علاقتك بنفسك. هنا يتضمن رثاء النفس معنى التأمل الاسترجاعى ، وفى استدارة الذات الشاعرة إلى الوراء تعود صورة الأب الميت  فى البرواز حيث الكراهية هى كراهية الموت الذى يسرق الأغلى ” يسرق الأب / ليلصقه فى بروازٍ داكن ” .

فى نقاشه لنظريات فى الحِداد مع لوى مارين ونظريات هذا الأخير عن الصورة ، يقترح ديريدا صورة مُستَبطَنة للميت بوصفه الرائى ( المُحدِّق أو المُحملِق ) وللإنسان أو الإنسانة فى حالة الحِداد بوصفه المرئى ( المُحملَق فيه / فيها ) حيث – كما يقول – ” قوة الصورة ذات صلة أقل بكون المرء يرى شيئاً فيها على كونه هو من تتم رؤيته فيها . الصورة ترى أكثر مما هى مرئية. الصورة تنظر إلينا “، وبالنسبة لجاك ديريدا فإن نظرة الأب التى تصير أقوى بعد الموت لا تصف فحسب ” مفارقة الإخلاص الذى لا يمكن تحمله ” بل تتطلب تدعيم هذه المفارقة( paradox ) بالبنوّة. والضغط الأبوى بعد الموت ملموس فى الديوان الأول  بإهداء للأب والجَد ( قبل الأم والإخوة وغيرهما ) كذلك يؤكد هذه الهيمنة النفسية الذكورية على الشاعرة وعلى الذات الشاعرة كما يتم تصديرعبارة للروائى أورهان باموق فى بداية الديوان الأول تقول ” كل رجل يبدأ موته بموت أبيه “. فماذا عن الابنة؟ .

 إلى جانب انتشار حالة الحزن على فقد الأب والحبيب فى الديوان الأول يمكننا إحصاء عديد من قصائد “على كرسى هزاز” لم تفلت من التعبير عن لوعة الفقد الأبوى فالشاعرة تكتب ” نا دمية العشرين/ أرملة أبى” وفى قصيدة “روحك المبعثرة فىّ” الرثاء يمتد وثمة قصائد أخرى فى ذلك العمل الأول تتمرد على اختناقها بالحزن على الأب فتصف “حنين الآباء/ المُجنَّح كجرادة” وتتواصل الحالة فى ” بورتريه عريض لخيبة متكررة ” لكن قصيدة ” الكراهية ” فى ” ما لم يذكره الرسام ” تمثل الاقتراب الأكبر والنموذج الذى يمكن تطبيق رؤية ديريدا عن ” نظرة ” الأب عليه .

 تكتب عزة حسين فى الديوان الثانى: “كُلى مبللٌ بك /مجدولة بالمسافة / بين أول وآخر بصاتك/ وأنا ثكلاهم جميعاً / صلة الحزن بين الغرقى / وقرابين الحرب والحب / والمنتحرين / وأنت وجعى الذى لا يكمل سوى نصف القصيدة / ويركلنى إلى نصف الحياة”. أما “تفاصيل الحنين” فى ” على كرسى هزاز” ( الديوان الأول ) فتقول فى جزء منها :  ” أبى / الذى يشبه / بقع الحلم / كان بارعاً جداً / فى رتق المسافات / بين عيوننا والدفء / حتى عندما استبدلوه منا / بشبحٍ إكلينيكى / فعلها العنيد / وغافل الغيبوبة / ليلكزنى : ( أحبك ) / ثم يشهق / كحفرة / و ينام”.

إن الابنة/ الأنثى بوصفها حاملة للإرث الذى تمثله كحافظة للنوع والاستمرار عبر الأبناء ( ولو بأسماء ذكر آخر ) هى الأقدر فى نظر كل من نانسى هولاند وكيلى أوليفر على التأهل لدور من ستبنى مستقبلاً للأب الراحل ربما عبر التوتر ما بين تشابهها مع واختلافها عن الأب بحيث لا تنهرس بين الحب والعقل . نعم فى نظر أوليفر الابنة هى الأكثر تأهلاً لهذا الدور الذى لا يستطيع الابن القيام به ( رغم كونه يحمل اسم الأب والجد ) فالابن ليس ” آخر ” بل هو ” متطابق ” بمعنى ما مع الأب – بحسب هذا التحليل – والابنة أكثر تأهلاً لكونها مختلفة جنسياً عن الأب. ونظراً لما وصفته أوليفر بالتأثيرات الدائرية غير الآحادية للزمن الأنثوى ألا تكون الابنة هى ” الآخر ” بما يكفى لفتح مستقبل لا نهائى للأب الراحل( كما تتساءل).

لعل وجهة النظر الاجتماعية اللصيقة بالابن والابنة تؤكد على استنساخهما لإرث الأسلاف وعلى الابنة كاستعارة جيلية – وفق هذا التحليل – إذ يتم تقييم الابنة بحكم قدراتها على التناسل والإنجاب ، لكن نانسى هولاند تثير نقطة شائقة حين تتساءل بشأن ما وصفه ” ديريدا ” بــ ” التحديقة المُستَبطَنة ” أو ” interiorized gaze “ إذ تقول : ” لكن ماذا لو كانت الهيئة الشَبَحية تنظر إلينا ( و ) لا ترانا نحن ، نحن الابنات كما نحن ، بل ترى نفسها ، الصورة الطيفية لما تريد أن تراه ، تود أن تراه ويجب أن تراه حين تنظر إلى شكل أنثوى ؟” .

كيف يمكن أن تكون ثمة نجاة أو خلاص لمن يطاردها شبح الأب الميت ؟ .عبر استدعاء المثال الأبوى( وكما تخاطب الشاعرة صورة الأب فى إطارها ) يبدو الاحتماء برمز الأب الميت ربما بوصفه الوحيد القادر على مواجهة واقع العدوان من نموذج ذكورى مهيمن آخر ومستمر (الزوج) بل الاحتماء بالأب من العالم ما يطرح سؤالاً : ألا تعطل هذا الاستغاثة أو الاستحضار الصامت المستمر للأب الميت من فرص الانعتاق من السلطة الذكورية رغم تقديم صورة الأب فى الديوانين بوصفها رمزاً للإباحة والحب وليس للقمع ؟ أم أن الحزن يتعمق ويشتد استدعاء الأب أو الحبيب المفقودين حين يعجز الواقع عن تقديم التعويض ؟. إن سؤال الحياة هو سؤال الشعر والثيمة الشعرية.

تدرك الشاعرة أن الموتى لا يعودون لذا تخاطب عجزها عن تحريك عجلة الزمن إلى الوراء. ثمة قصيدة فى ” ما لم يذكره الرسام ” تتأمل فيها الذات الشاعرة المعرفة التى بدت تملكها قطة البيت ولم يمتكلها أصحابه فى إشارة نحدسُ أنها تعنى نُذُر قرب احتضار الأب ، لكن المعرفة ذات الثمن الفادح فى الحياة هى ما يرتبط إما بالحب العميق أو الكراهية العميقة . إن القيمة الحقيقية للخبرة لا تتحقق إلا بعد الوقوع فى التجربة ، أو معاناة فقد ما لذا تبدو المعرفة التى دوما تكون متأخرة – بمعنى تأمل ما كان بعد حدوثه – والتى نقيضها البراءة ، كما لو كانت بيتاً لا ينفتح إلا على باب واحد هو الحكمة المشوبة ببعض السخرية. معنى المعرفة هو معنى الزمن الذى لا نفهمه ، لا نفهم دورنا ودور الآخرين فيه إلا بعد مروره ( بكل ما كان يمكن تفاديه ؟ ) وهذا هو ثمنها الباهظ . نجد بول ريكور يتساءل فى كتابه ” الإنسان الخطّاء ” :” هل من الصدفة أن تكون كلمة اعتراف مشتقة من معرفة ؟ فقط كائنات المعرفة هى كائنات الاعتراف”.

الذات الشاعرة تُعبّر عبر ديوانين عن الفراغ والوحشة و قسوة الآخر. التوصيف الأمثل لهذا هو ما عبر عنه ديريدا بقوله ” اختفاء الحاضر كموت ” ولهذا تتردد مفردة الموت وتمنيه فى الديوانين وربما هنا فى الديوان الثانى بشكل أكثر كثافة.

إن عنوان قصيدة ” روحَك المبعثَرة فىّ ” يعنى حالة من التشبع بذكرى الأب لولا أن ديريدا مجددا يمكنه الرد على هذا فى تحليله لتأثير الحِداد فهو يرى أننا حين نقول ” فى داخلنا ” أو ” بداخلنا ” ونتكلم بألم وسهولة عن داخل وخارج فإننا نُسمى الفضاء .. … نتكلم عما أسماه ” هندسة التحديقات ” … نتكلم عن صور ، و ما هو بداخلنا فى الواقع يبدو كما لو كان من الممكن أن يُختَزَل وينحصر فى صور قد تكون ذكريات أو مبانٍ ……. تنحصر فى ذكرى تتشكل بدورها من مشاهد مرئية لم تعد أى شىء عدا صور. وهذه الاستحالة لاستحضار أى ذكرى إلا عبر ما هو مفتَت أى عبر مقتطفات وشذرات من المشاهد لا شك ضمانة كافية للحزن حتى لتصف الشاعرة زيارة الذكريات وصور الأب لها بتعبير ” بقع الحلم”. 

فى قصيدة ” الكراهية ” يحضر الآخرون عبر توصيفات تبرر عنوان النص” وصوتى لم يشبههم لهذا الحد / الذين خلعوا نعالهم بين عينى ” ، والذين عاملوا روحها ” ككرة مطاط “، الذين ” عيونهم مسنونة ” والذين شوّش” فحيحهم ” بصمات العزيز الراحل على شجرة السنط .هؤلاء إذن مسئولون – بالفحيح والعيون المسنونة والغثيان الذى سربته ذكراهم – عن تسلل حتى الغفران من البيت خاصة بعدما استأثر الأب بالطوق الوحيد .. بالموت والبقاء فى صورة لتظل ذكراه تصعق كالكهرباء ومن ناحية أخرى الإهداء المكتوب فيه ” إلى أبى علّه يعفو عن القصائد ” يحيل إلى رغبة صارت معلنة متجذرة فى التخلص من الرمز السلطوى ولو كانت الصلة حباً وليس قمعاً ، لكن الموت ( وإن كان موتاً للسلطة ) عمّق تلك الصلة بدلاً من أن يُضعفها. العفو عن الشعر يحمل معانىَ عدة من بين احتمالاتها عدم اعتراف الأب بقصيدة النثر التى تقترفها الابنة ، وقد يكون للأمر المعنى المباشر الذى تتمنى به الذات الشاعرة التحرر من وطأة الحب القوى كالموت والذى قدم الأب برهانه الأخير عليه فى لحظة إفاقته واحتضاره كى لا يطارد شبحه قصائدها و ما يصادفها فى الحياة ، أو الرغبة فى التحرر من حزن الإدراك أن حجم هذا الحب الذى يقاوم الموت الفيزيقى للأب( فالأب يستمد قوته فى مقاومة الموت من طاقة حبه للابنة وحبها له) لم يأتِ كمنحة من آخر هكذا .. تتعدد الاحتمالات لكنْ الاعتراض جلىّ .  وقد صار الاعتراض معلناً !

يلفتنا الديوان إلى قيمة أخرى (فى أعمال شعرية لأخريات منهن كاتبة هذه السطور وسارة عابدين ومروة أبو ضيف ومروة نبيل وغيرهن) وهى الغضب. بدأت أعمال البعض (مثل غادة خليفة مثلاً) فى استلهام حسية الافتراس بينما نجد لدى الأسماء المذكورة بجانب عزة حسين الغضب كطاقة شعرية مكبوتة طال تجاهل مناجمها وقمعها، الغضب النسائى الذى أراه شخصياً ضرورة اجتماعية سياسية ونصية حتى وإن كان لن يصلح أن يكون ثيمة وطاقة للشعر إلى ما لا نهاية .  

تدرك عزة حسين وغيرها أن الشعر لا يمكنه أن يظل غاضباً للأبد ، لكن الإرث الطويل فى عدم إفصاح المرأة خاصة المبدعة عن مشاعرها يستحق وقتاً أطول لتحقيق مواجهات تَقَادَم أمدها. فى الحالة البرزخية ما بين المواجهة (التى قد تكون تحققت بكتابة الديوان ) والاستسلام بالصمت تتفاوض كتابة عزة حسين ما بين الحزن والغضب على جماليات تحاول أن تكون وفية للاعترافية، لكن إن شئنا الصدق أكثر فإن الحسرة التى يعج بها الديوان هى غضب مكتوم أو لنقل هى الغضب المقلوب على صاحبته . إذن تهدف حسين هنا إلى ما تقترحه الناقدة جوليا كريستيفا: “إلى كتابة شعر لا يكون شكلاً من القتل ” بل إلى كتابة نابعة من غضب كالبعث يمثل صلب الكينونة الشعرية لحياة مُحبَطة، ورغم التحفظ على التقييمات الجندرية بشكلٍ فضفاض إلا أن مثل ذلك الغضب العارم فى مجتمعات كمجتمعاتنا العربية لا شك يخص المرأة أكثر وربما يخصها بسبب الهيراركية الذكورية وعلاقة الآخر/الرجل أو الزوج بها ومنظومة القوانين والأعراف التى تنصب عليها وتشكل حقوقها وحدودها. لغة الديوان قد تبدو هادئة النبر لكنها فى الحقيقة محتقِنة مجازاً ومفردة .

قصيدة ” قلادة ” بها ثمة مُخاَطَب  متعين الاسم تشرح له الذات الشاعرة السهولة التى ” يروح ” بها الحب فى لقطة عظيمة البساطة ، أما ” نورا ” فلا نكتشف إلا قرب نهايتها أن مقصود الشاعرة هو التقاطع مع نورا هيلمر بطلة مسرحية هنريك إبسن ” بيت الدمية ” التى تغادر بيت الزوجية ( يتم ذكر اسم إبسن واسم مسرحيته ) وهى قصيدة تعتمد تكنيكاً توليدياً حيث يتم ” لضم ” كلمات معينة تختارها الشاعرة – بحساب دقيق رهيف – مع نفس الكلمة التى سبقتها فى الانتقالات بين الأشطر كما أنها سريعة الإيقاع قبل بلوغها للذروة الدرامية.

قصيدة ” الأنانية ” تعود فيها الذات الشاعرة سيرتها الأولى فى تقفى حقيقتها عبر تعريفات للمصادر-الكلمات وتعود اللغة لتنغلق تلقائياً بما يتماشى مع الحالة البرزخية السابق ذكرها وحيث توزيع الإدانة على الذات والآخر يتخذ مسرباً ” يُصندِق ” المعنى ويُحي قيمة الاستتار والكتمان فعبر تلك الصياغات ستطمئن الذات الشاعرة إلى أن بوحها سيمنح نفسه لقلة مختارة ويمكن فى الوقت نفسه إيراد المزيد من التعريفات/الاعترافات الداخلية كأنما تستمتع بما تكشفه كأنه ارتكاب مبهِج أو فعل انتقام يظل محمياً باختيار لغوى مجازى يُمكّن للمزيد منه ، ومن الطبيعى بعد عنف المفردات والصور مضنية التلافيف هنا أن تنشد اللغة ما يُعافيها طالما الشعر كما يقول الشاعر الإسبانى الراحل فيثينت أليكساندرى ” هو التواصل “. تلجأ الشاعرة إلى بعض الإيضاح مع نهاية القصيدة ” فقط الكراهية / ما يحتاجه المشهد الآن / عتابٌ مدبب / لطمة / أو مزيد الجثث / لتفاجأ القسوة بصورتها فى المرآة / ويجف نزيف القصائد ” وهكذا عادت كلمتان كانتا عنواناً لقصيدتين فى الديوان :” الكراهية ” و ” قسوة ” كأنما تدرك حساسية اللغة أنه لا إفصاح بلا ثمن جمالى أو حياتى ، لذا تهرول اللغة إلى استنقاذ نفسها من التجاويف التى تشكل حالة ” ما لم يذكره الرسام ” ففى تلك التجاويف نستشعر الدلالات والمعانى الشعرية poetic significations حيث ينجح الديوان فى إشعارنا بها من قبل أن نفهم كل شفرات النصوص وهو ما قد لا يتوفر فى كتابات شعرية أخرى ربما تحرم القارئ من الميزتين معا : الفهم والإحساس .

وكأنه لا يمكن كتابة ديوان كهذا دون كلمة “لو ” وأن يتم تقديمها كعنوان قصيدة كمحاكاة للعمر كله !

” لو ..” لا يمكن أن ترد دون نقطتين بعدها أو قبلها . لو .. هى النوستالجيا لكل ما عشناه ولكل ما لم نعشه كذلك. وفيها مع مخلفات الأسى على الحلم وإدانة الجسد الذى يخون صاحبه عبر الألم ، فيها أيضاً كلمة ” الكراهية “. تنتصر الإبانة فى قصيدة ” غرام الخامسةِ عشر ” حيث الحسرة تدين الواقع مقارنة بالحلم أو الماضى .. تقول فى آخرها ” لمسة واحدة / علمونا تخزينها فى القطيفة / للشخص الخطأ “. ” سندريلا فى الثلاثين ” تعبر فيها الذات الشاعرة عن شابة ما زالت تقدر على الحب ، وهنا عودة للأسطورة عبر رمز سندريلا واسم النبى يوسف لكن اللغة أقل حزناً رغم مفردات الموت والترمل. أما فى ” يبين حزنها من تحت البلوزة ” فتقدم الشاعرة ما يشبه مرافعة جماعية عن ألم العديدات وهى ثيمة تستدعى لغة تتزيا بالحياد المُعفر بالسخرية وحيث تتبنى الحديث عن جماعة النساء أو البنات فى مقابل ” الأولاد ” تقول عن الأخيرين : ” أكثرهم شراً/  سيشترى / دُمىً كثيرة / يزرعها فى حديقة البيت / وسينتحر الحالمون / فى النهر / تاركين وراءهم ، دُمىً ، تتكئ على حديد / الكورنيش “. هكذا العالم مقفل على كمائن أذى وشحنات ألم حبيسة واستعارات للفرح لا تتحقق وهى المعانى التى تتواصل فى قصائد أخرى مثل” خفيفة ” و ” أوديب ” فى إشارة نفسية إلى الشخصية الملحمية والعقدة الشهيرة معا والعالم دائرة من الخذلان تنجلى فيها مفردة الموت بصفتها الحقيقة العظمى لذا هى أكثر مفردة تقريباً تتكرر فى الديوان سواء فى المتن أو فى العناوين الداخلية لبعض القصائد أو كعنوان لقصائد مثل ” مقاطع مقترحة للموت ” وما يصاحب هذا من تخيل الذات الشاعرة لميتات لها . والمجتمع حاضر عبر حراس أقانيمه – العائلة ثم إنبات الرقيب الذاتى الداخلى فى الذات الشاعرة– ففى إشارة لبعض تلك القيود بإحدى قصائد العمل نجد إدانة الجميع إذ تبدأ مقطعاً متحسراً يقول : ” أحبك ” / كانت تنزل من فمه إلى أسفل جوفى /……………… ” وتختم ذلك المقطع بتقييم ونقد لمفاهيم المجتمع والعائلة : ” لمسة واحدة / علمونا تخزينها فى القطيفة  للشخص الخطأ ” ( والقطيفة عادة تومئ إلى الغلاف الداخلى لعلب المجوهرات ) وبوضوح مماثل نرى الذات الشاعرة تقول : ” إذا ما صدقنا البنت / وهى راقص تنورة / ينهى دورانه / على صدر الموت / فيما الأسرة المحافظة / تلملم / مواء العبارات اللاسلكية من على الإسفلت الواصل بين قريتين”.

فى متن قصيدة ” ما لم يذكره الرسام ” لم أعثر شخصياً على ما أحسست أنه تم إعدادنا له .

عادة ما تتسبب عناوين القصائد التى يتم توظيفها كعناوين كاملة للمجموعة الشعرية أو الديوان فى هذا. تأهبتُ لقصيدة عارمة طوفانية تجرف كل شىء ولا يكون ما سبق تمهيداً لها بل وتتجاوزه .. فهل منحتنى ” ما لم يذكره الرسام ” هذا؟

بالنسبة لى تجئ الإجابة بالنفى لأن تخيّر عنوان الديوان – فى العادة – من قصيدة داخلية به يقدم إفصاحاً مبكراً ويرفع التوقعات خاصة حين ترد القصيدة التى يتم تشويقنا لها فى آخر الديوان . هذا الاصطفاء والتمييز الدال قد يُحمِّل القصيدة عبئاً أكبر من قدرتها الشعرية أو بالأحرى أكبر من وعدها الإستيطيقى ولذا حين تتسع المسافة بين توقع القارئ ومردود التأثير ( ولو أن هذا ليس دائماً معياراً ) قد نكون أمام مشكلة.

حين نتأمل تلك القصيدة ذات العنوان البديع الموحى قد نشعر أن بعض قصائد الديوان الذى حمل اسمها تفوقها إشعاعاً لكن أظن أن بداخلها إشكاليات تخصها. فمن ناحية هى قصيرة مقتصِدة ولكن القارئ – بوصوله إلى ما يقارب الاكتمال والتشبع المعنوى والجمالى قرب نهاية الديوان- يصبح فى احتياج لأمرين : أن يتم تقديمها كسابقة أكثر عمقاً فى شعريتها وربما أكثر قطعاً/ قطيعة مع كل نبر وثيمة فى عموم ما سبقها من قصائد. والأمر الثانى أنها بموحيات عنوانها تفترض حجماً أكبر مما سبقها فى المتن و كلا الأمرين لم يتحقق .

جاءت لغة القصيدة أقرب للبساطة الوصفية مشوبة بالتحسر الاسترجاعى على طفولة مدهوسة فائتة حيث التشوق لألوان الأم يأخذ نبراً فجائعياً وملحمياً نوعاً بما يُكرس لمعنى الزمن المفقود بدواله وعناصره . ومع إدراكنا أن كلاً من الحنين للماضى والفشل فى الحب يعد من أقوى ثيمات الشعر دائماً وليس فى القصيدة الاعترافية فقط إلا أن القصيدة فى تقديرى خانت مرماها ودليلى كان ما أحسسته أقرب لانبتارها أو ” بترها ” عند النهاية .

لكن أيضاً ولكى نكون منصفين يجب الاحتراز بافتراض مغاير يمثل احتمالاً تستحقه القصيدة والشاعرة معاً . ربما كان هدف عزة حسين خلق حالة معاكسة للذروة الشعرية أو الدرامية أى anticlimax . هنا يصبح توقعنا من مثل تلك الاستراتيجية مغلوطاً لا يرى قصد الشاعر فى تحقيق حالة من عدم التجاوز وذلك بقلب البناء الدرامى للقصيدة ففى بعض الأوقات يسيطر على الشاعر أو الروائى هدف يتصل بالرغبة فى التحرر من التوقعات الجمالية للقارئ، حينها قد يعمد الشاعر إلى دفع القصيدة من الصفحة إلى القارئ بهدف تحريك تفكيره. فى هذه الحالة يصبح القارئ مداناً لأن ” إضافة ” نهاية ما  قد تكون من نسج الرأس . ويمكن القول إن ما ” لن ” يتذكره الرسام هو ما تعبر عنه الذات الشاعرة كرموز لأشواقها المصادرة ، هو دوال وحدتها وحريتها المقموعة التى تجرب القصاص لها – شعراً ، هو فكرة المنع التى تهتدى حسين إلى السعى لتفكيكها عبر الكتابة ، بالإيماء إلى بعض صور ذلك الحظر ( الحجاب مثلا ) حيث تكتب : ” ما لن يتذكره الرسام : جسدى تحت أول جلباب طويل / وغطاء رأس مفكوك / وزبدة الكاكاو الشفافة / فوق ابتسامتى “. لكن تعقد مصائر الأبناء والتفافها تشبهاً وتأثراً بمهن الآباء وإراداتهم ليس كله من نصيب الإناث وحدهن ففى قصيدة ” أشرف ” تطل الشاعرة على هذا إذ ترصد الذات الشاعرة مستقبل زميل دراسة ” أشرف ” كما نحدس والذى صار نقاشاً كوالده . 

قصيدة ” أشرف ” كأنما هدفها الاتجاه إلى حالة غيرية توازن بها الذات الشاعرة انفراط الذاتية عبر الديوان . ” فيروز ” أشبه بمناجاة وصفية لصوت المطربة الشهيرة تسمح ببعض المحاكاة مع الأغنيات الفيروزية عادة – على مستوى خطاب المنادى – فى مقولات بالقصيدة مثل ” يا ذاتى الوحيدة ، نظيفة من الجَلد ” ، ” يا نيتى التى خبأتها للسعادة ” فأغنيات فيروز زاخرة بحرف النداء ” يا ” كما أن هذا يوفر حساً ملحمياً فى القصيدة هو نفسه يرقد فى عمق إيحاءات صوت المطربة الشهيرة ولعل الملحمية ليست معدومة تماماً فى بقية ديوان حسين لكن فيروز كمثال تقدم الهارمونية الملتحِمة لتلك الكينونة الملحمية والأثيرية فى صوتٍ مُعبأ بالموسيقى والشعر .

” شحاذة ” قصيدة تقدم لنا الاعتراف بهاجس اللغة المُفصِحة : ” يوما ما / بلغة لن يطأها أصدقائى اللصوصيون / سأجذب الماضى إلى غرفة المرايا / أطرحه على عريه / وأتنصت من بعيد / على قرقعة عظامه”.

إن فعل التنصت المقلوب هنا.. مقلوب لأن الآخر طالما مارسه وما زال على ذلك الماضى الشخصى ، يعنى الانتقام من الماضى ومن المدموغين بالتلصص عليه فى آن .. التصدى للماضى يكون عبر إباحة حَكْيه ، والانتقام منه – يا للمفارقة – يتحقق بجرِّه من غابة الخوف والتخفى إلى ساحة الشعر، بالتخلص من تشكيله للغة الواقع والشعر معاً، من تحديده لجرعات الشهيق والزفير التى نستنشقها، التخلص منه حين نبتكر لغة تعفى نفسها من الحالة البرزخية لأي دواعٍ غير دواعى الشعر. هذه اللغة الحرة هى التى ” لن يطأها ” الأصدقاء اللصوصيون لأنه وإن استمر التلصص فلن يعود هناك خوف. وحيث أن مفردة لغة مؤنثة يصبح معنى الوطء حمال أوجه . النفى قرار وسحل الماضى فى غرفة المواجهة( المرايا ) قرار والاعتراف بالحاجة إلى أية ذراع للمحبة – كما فى هذه القصيدة – استصراخ واللغة التى ” لن يطأها ” الأصدقاء ربما هى التى وطأت الماضى  وحسمت الإجابة .

الاستعداد العنيف لقتل الخوف ونسف المنظومات للتخلص من الغثيان لا بد أن يصل إلى السخرية التى عاش فى أسرها طويلاً ، التى فُرِضَت عليه وهنا لا يمكن فك الاشتباك بين السخرية من النفس ومن الآخر لذا لا غرو أن تُختَتَم تلك القصيدة هكذا : ” سأكون هنا / فيما أخبرهم أننى هناك / وأقعد بانتظارهم / لأنهم أوحشونى / فعلاً “.  فقط لا نستطيع أن نطمئن للزعم بأن من تنتظرهم الذات الشاعرة قد أوحشوها طالما تُصرِّح بكذبتها عليهم ” سأكون هنا / فيما أخبرهم أننى هناك ” . أما آخر القصائد ” استعارة.. ” فتذكر كلمة ” التلصص” مرة أخرى لكن الذات الشاعرة هى المُتلبسَة به ضمن قصيدة تقدم عهداً أن لا تقترف الاستعارات بعدها .

تقدم النهاية فى المقطع الأخير من هذه القصيدة الأخيرة ( التى يلاحظ أنها كتبت عنوانها على نحو يوحى بالاستئنافية والتردد أى متبوعاً بنقاط ) مشهداً يُنبئ بالتعطل أو قد يوحى بالعودة عن الوعد بعدم استخدام الاستعارة، عدم الخروج من الصورة (أليست الاستعارة صورة بمعنى ما ؟ ، أليس الأب – بعد موته– صورة؟، أليست الحياة التى تُعبّر الذات الشاعرة عن التوق إليها هى نقيض حياة تعيشها كاستعارة ، أليست مفردة ” استعارة ” بمعناها الحرفى لا الإبداعى قريبة مما هو غير حقيقى ولا أصيل ؟) التى انحبست بداخلها الذات الشاعرة مع كل المفردات الصانعة للصورة والتى وردت كعناوين للقصائد مثل ” قسوة “، ” جحيم ” ، ” الكراهية ” ، “الأنانية ” ، ” لو ” الخ.

إن جزءًا من التأثير الخطير لما يمكن وصفه بالاستعارة القوية يكمن فى تأثيرها على تفكيرنا خارج إرادتنا.الاستعارة تفرض علينا فهماً معيناً بشروط ورؤية واضع الاستعارة وهو ما يخلق بداخلنا حالة شعورية وفهما يتضمن أن نجد أنفسنا نصدقها ( أى الاستعارة الشعرية ) كصورة مما ينزع عنا أى تمييز بين فهمها وتصديقها .. ثمة ما نستشعره بوصفه لا نهائى إزاء ذلك وتلك اللانهائية ربما تعكس توقنا لكل ما تمنيناه أو نتمناه لأنفسنا : اللانهائية حيث ترتبط الاستعارة بالانفتاح على تفسيرات متجددة وتأويلات مختلفة قد لا يتم استنفادها.

بم نقيس نجاح الاستعارة ؟. ربما بتوفيقها فى خلق علاقات أو الإيحاء بعلاقات تشابه بين مكونات ليست كذلك خلقاً للإدهاش ولكن هذا ليس شرطاً شديد الجمود  فالشاعر قد يتمرد عليه بكامل وعيه ، ولنقل إن الأمر يرتبط بمستواها التأثيرى .. ولقد تساءل ديريدا نفسه كأنما هجس بما يحدس به كثير منا: ” أليست كل الاستعارات ………. مفاهيم ؟ “.

هل هذا هو ما ستقاطعه عزة حسين ؟. الإجابة متذبذبة ملتاعة .. ” سأقاطع الاستعارات بعد هذه القصيدة …./ لكن دعونى أقول إن كل هذه الكلمات المشدودة/ إلى روحى مشنقة / و دمٌ ملون وموتى متخثرون وسبابٌ صريح / وخيانة …/ و قسوة ” الخ ..

هكذا هى تريد حقها قبل أن تفى بوعدها. تريد ولا تريد . لذا تعترف أنها لم تخلص بعد للموت ولم تنس ألوان تنوراتها ولا كلمة ” أحبك ” أو الطريق للجريدة. هى تريد الحياة قبل أن تتقبل الخروج منها.. ستقاطع الاستعارة بمعانى التصوير والالتفاف .. لكنها تريد التحرر من الكلمات المشدودة إلى روحها كمشنقة … وهذه المفارقة أو الفعل ليس بغائب الدلالة عن الذات الشاعرة، أى كونها تعود إلى ما لا تريده : الاستعارة بمأساة رمزيتها حتى وهى تطلب الشفاء منها .  

 يقول بول ريكور :” كل قوة لها وجه آخر هو العجز ” .

مشهد الختام فى ديوان كهذا يحق – بل ينبغى له – أن يكون سوداوياً كفيلم Thriller  مفتوح النهاية والتأويل ، ينسف ربما كل ما سبقه. تبرع الشاعرة فى تكثيف مشهدية تقترب من الرعب بينما لم يوجد من قبل ( فى الديوان ) ما يبررها. عبر تصوير التحجر فى منطقة عازلة ترى نفسها انحشرت فيها تقوم الأنا الشعرية بالانتقام من نفسها عبر دميتها التى تلوح هنا كالقرين أو تتماهى معها. لا ننسى وصف الدمى السابق فى إحدى قصائدها هنا و لا ننسى قصيدة ” نورا ” حيث التماهى مع بطلة ” بيت الدمية “. 

فى نهاية القصيدة الأخيرة تقبض على بطن الدمية لتضغطها لصق الحائط فتبدو كأنما تصلبها .. ” ترقب من بعيد ” كما تقول الذات الشاعرة ( مع أننا نعلم أن المسافة ليست كذلك لكنها المسافة بين الطفولة والواقع الآن ) تراها وقد تدلت ضفيرتاها على وجهها وتسمرت ذراعاها، محتَجَزة فى ألمها وعجزها وقد سقط الزمن بينما ” هى ” نسيت أناملها بين شفتيها ، وعيناها مفتوحتان ببراءة وسلوك طفلة تم الغدر بها، كأنما ترى وتدين وتنتقم من نفسها.

_____________________________________________  

*أكثر الاقتباسات هنا خاصة ما يتصل بمقولات لديريدا وفيثنت أليكسندرى وكريستيفا وهولاند وأوليفر ومونيج ويتيج من كتاب: ” The Daughter’s Consolation ; Melancholia And Subjectivity In Canadian Women’s Paternal Elegies ”  من تأليف تانيس لويز ماكدونالد المقدم لنيل درجة الدكتوراه من جامعة فيكتوريا عام 2005 بينما الجمل المنسوبة لريكور من كتاب ” فلسفة الإرادة : الإنسان الخطّاء ” لبول ريكور وترجمة عدنان نجيب الدين . الناشر : المركز الثقافى العربى ، الطبعة الثانية 2008 المغرب ولبنان .

 

 

مقالات من نفس القسم