وعلى كل حال، كان الرجل قبل إيداعه في المستشفى قد أصيب بشيء يسمونه في الطب النفسي ( عدم التوازن بكيمياء الجهاز العصبي) قال الطبيب: إنه نوع من الاضطراب الذهني تتأثر فيه قدرة المريض على الاتصال بالواقع، فيتعرض لنوبات من الهلاوس، مثل سماع أصوات غير موجودة تعطيه أوامر يجب تنفيذها بدقة. والحقيقة أن هذه الحالة قد ظهرت عليه بشكل مفاجئ تقريبا، قبل هذا، كان شخصا سويّا، لكنه في الفترة القصيرة التي سبقت تدهور حالته، غمرته رغبة قسرية في العزلة، منشغل بالعبادة في غرفته كل النهار تقريبا وجزء من الليل، وفي النهاية هجر زوجته، لم يعد يهتم بشؤون منزله، ولا يخرج حتى للضرورات، وفي الواقع أن مثل هذه الأعراض هي علامات مرضية،لكنها ربما تعلقت بحالة بسيطة، حالة من ذلك النوع الذي يزول بعد فترة قصيرة، أو ربما نوع من الكآبة يطول فيحتاج إلى العلاج، أو أي وسيلة أخرى تستهدف إزالة المسببات، لكن الرجل قال في أحد الأيام أن الله كلّمه، كلّمه كما حصل لموسى، وأن الكلام الذي سمعه هو كلام حقيقي، الفرق هو أنه لم يصدر من نقطة في جبل كما حدث عندما كلّم الله موسى من طور سينين، لقد كانت الكلمات هذه المرة، كما لو أنها شقت السموات السبع حتى وصلت لأذنيه وهو في غرفته، وكانت الكلمات واضحة لا لبس فيها تقول: أنا الله يا إبراهيم، الله رب العالمين. وكان إبراهيم يردد قبل أن يودعه أهله المستشفى في ذلك اليوم: إنّا جعلناك يا إبراهيم إماما، جعلناك إماما، إنّا جعلناك إماما. وكان للرجل ابن عم اسمه نوح، شاب ماجن يعمل سائق شاحنة، ولم يكن يحترم أحدا، يسخر من كل شيء ولا مقدّس عنده سوى متعته الشخصية، قال: لا تنقصك يا إبراهيم سوى المعجزة. ويبدو أن لسان الشيطان هو من نطق هذا الكلام وليس لسان نوح، فكان هذا التدخل العاجل هو من أوصل الأمور إلى المنطقة الحرجة، فقد سمع إبراهيم في تلك الليلة صوتا في الحلم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. وكان يردد هذه الآية ويرتجف طوال فترة الصباح، ثم بكي، يرددها ويبكي، لكنه وقف أمام ابنه عند الساعة العاشرة صباحا، نظر طويلًا إليه، وكان يشعر بثقل الأمر الإلهي، فظهر مترددا بين التخاذل الذي سوف يغضب رب العالمين، فيخسر بسبب ذلك الدنيا والآخرة، وبين الطاعة التي هي الفوز الكبير برضا الله، وعلى كل حال، أقنع نفسه بعد ساعتين من التردد، قال: إن الله هو أرحم بعباده من أنفسهم. ثم التقط من المطبخ سكينا وكان يردد:وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.مشى بخطوات واثقة لغرفة حسن أو إسماعيل كما سماّه لأول مرة في ذلك اليوم، وكان الصبي قد أرتاب عندما رأى السكين في يد أبيه، وشاهد إبراهيم الذعر في عيني ولده الوحيد، قال: إن ألله يأمرني أن أذبحك. ثم سكت لفترة وجيزة وهو غير واثق من طاعة الصبيّ، ثم أضاف: لكن الله في النهاية سوف يفديك بكبش عظيم، ولن تسيل منك حتى ولا قطرة دم واحدة، وهذا كل شيء يا إسماعيل. وكانت زوجته (هاجر) قد سمعت هذا الحديث،ركضت كالمجنونة، سحبت ابنها خارج الدار واستغاثت بأهل الأرض وأهل السماء، تجمع سكان القرية وكان إبراهيم يحمل سكينه، ويردد بصوت عال: وفديناه بذبح عظيم، لا تخف يا إسماعيل، وفديناه بذبح عظيم. وفي الحقيقة، ظهر صوته بعدما تجمع الناس يائسًا، كما لو أنه يخرج من أسفل بئر، ثم اقتادوه إلى المستشفى، وكان إبراهيم خلال عام كامل من وجوده في مستشفى الرشاد الذي على أطراف مدينة الثورة، لا يطلب سوى سكين. وكان يقول انه نبيّ لكن نبوته ناقصة بسبب حبسه في هذا المكان، المكان الذي لم يستطيع به الحصول على سكين لينفذ به أمر ربه، وأنه لا داعي للخوف على إسماعيل الذي يحبه، وانه سوف يضع السكين على رقبته فقط، وأن الله سوف يفديه بذبح عظيم ،وان صوتا سوف ينبعث أثناء ذلك، وسوف يخاطبني مباشرة :وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.