قصتان

فن تشكيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد خليل العمراني

هواجس

كان يوم التحاقي بالمدرسة الابتدائية من أسعد أيام والدي؛ فبعد أن قضيت قرابة ثلاث سنوات بالكتاب، ها أنذا ألتحق بالمدرسة الابتدائية العمومية. كان والدي فخورا بي، ويلقبني بالدكتور أحمد. على باب غرفتي وضعت ملصقة كتب عليها بخط واضح: “غرفة الدكتور أحمد”.

تعودت على هذا اللقب، والكل يناديني به “الدكتور أحمد”.. حصلت على الشهادة الابتدائية، ثم على الشهادة الإعدادية بدرجة جيد جدا. وهي أعلى شهادة تقديرية لأعلى رتبة، لا يحصل عليها إلا المتفوقون في جميع المواد.. التفوق وحصد الجوائز الدراسية كانت شيمي طوال السنوات الدراسية الماضية، وتشجيع والدي وأهلي وأساتذتي زادني إصرارا وحرصا على ذلك..

والآن، قد أوشكت على اجتياز امتحانات البكالوريا، وهي آخر سنة في التعليم الثانوي لألتحق بعدها بالجامعة. بدأت بوادر الامتحانات تتجلى، واقترب ميعادها. القلوب مذعورة، والخوف أصبح يغزو الأذهان، والتوتر يمتلكني ويسيطر علي، ويزداد ذلك باقتراب يوم الامتحان..

وكأني بقسم واسع غريب عني، الكل جالس في مقعده المخصص له داخل القاعة، وحيدا لا يتحرك ولا يتكلم. منتظرين ورقة الأسئلة، والتي يقوم أحد الأساتذة المراقبين بتوزيعها على الممتحنين. صمت رهيب، والذعر سائد، والقلوب ترتجف يكاد خفقانها يُسمع، والعرق يتصبب من الجبين. منا من يرتجف، ومنا من يتلو بعض سور القرآن، ومنا من يردد بعض الأدعية..

أخذت ورقة الأسئلة من الأستاذ وشكرته. وضعتها أمامي، ثم جلت بعيني في أرجاء القاعة، الكل منحني على ورقة التحرير، والأساتذة المراقبون يطوفون ويجولون بين الصفوف..

اشتد خوفي وزاد توتري. بدأت بقراءة الأسئلة واحدا تلو الآخر، ركبتاي تنتفضان، تكاد الطاولة أن تُرفع من شدة الارتجاف، وقلبي يخفق بسرعة حتى ظننت أني سيُغمى علي، والعرق يتصبب من جبيني من شدة الخوف والتوتر..

قرأت وقرأت ولم أفهم شيئا، الأسئلة صعبة جدا، ولم أستطع الإجابة على أي سؤال. الوقت يمضي، التفت يمينا ويسارا، الكل مُنحن على ورقة التحرير، أما أنا فعاجز عن الإجابة، تبخرت الأفكار، لم يبق في جعبتي من الحفظ والمراجعة شيء. لم أستطع الإجابة على أي سؤال، والوقت يُشرف على نهايته.

صاح أحد الأساتذة المراقبين:

-لم يبق إلا نصف ساعة، فقط.

زاد توتري وخوفي. ماذا أفعل؟ لم أجب على أي سؤال بعد ! ماذا أفعل؟!  يا إلاهي ماذا أفعل؟!  التفت بحذر شديد إلى زميلتي وطلبت المساعدة. تريثت بضع دقائق، قم قدمت لي ورقة التحرير، وقلبي يكاد ينفجر من شدة الخفقان..

أحسست بيد وضعت على كتفي. رفعت رأسي، فإذا بالأستاذ المراقب يطلب مني الورقة وورقة التحرير. وبهدوء تام كي لا يُزعج الممتحنين طلب مني مرافقته إلى الإدارة.

وكأنني بصوت أمي يناديني من بعيد:

-أحمد… أحمد…

ويتكرر النداء ويقترب رويدا رويدا، وأنا أسير رفقة الأستاذ في اتجاه الإدارة. التفت نحو مصدر النداء، وصرخت:

-أمي… أمي… لا تتركيني أرجوك. تعالي إلي أنا في ورطة.. تعالي بسرعة أرجوك.. تعالي..

ونداءها يقترب أكثر فأكثر:

-أحمد باسم الله عليك يا حبيبي، باسم الله عليك يا ولدي.. استيقظ يا حبيبي.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. استيقظ يا حبيبي..

استيقظ فزعا، أتصبب عرقا، وقلبي يكاد ينفجر من سرعة الخفقان، وأمي تضمني في حضنها مرددة:

-باسم الله الرحمان الرحيم… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…

وهي تمسح جبيني من العرق، وعيني من الدمع قائلة:

-إنه حلم يا حبيبي.. حلم..

أجبتها بصوت متقطع باك:

-بل.. بل.. كا.. كابوس يا أمي.. كابوس..

 

مقهى دمسكوس

تعودت على تناول وجبة الفطور في مقهى دمسكوس، أقصدها ما بين السابعة والنصف حتى حدود الثامنة والنصف كل صباح لألتحق بعد ذلك بعملي على الساعة التاسعة. هكذا كنت أستهل يومي حتى أيام العطل والآحاد. أقصد دمسكوس وكأني مدمن على هذا المكان لأمر خفي.

كان النادل السيد عبد الواحد يعرف طلباتنا دون أن نطلب منه ذلك. كانت وجبتي عبارة عن قطعة من الخبز المقرمش، وقطعتين من الجبن وبعض الفطائر، وعصير برتقال، وإبريق شاي أخضر بالنعناع. ثم بعد ذلك أرتشف فنجانا من القهوة المركزة بدون سكر وأنا أتصفح الجريدة، وبين السبابة والوسطى من أصابعي سيجارة. وبعد ذلك أنصرف متجها نحو مقر عملي.

تقع دمسكوس في قلب المدينة، وسط جادة باستور، أو كما نسميها بولفار باستور، روادها أغلبهم من سكان المدينة، وقلة من الأجانب السواح او بعض الوافدين الجدد وقليلا ما هم.

ذات يوم وأنا ارتشف ما تبقى من القهوة من فنجاني، جلس بالقرب مني السيد الطيب، أو “بيسانو”PISSANO  كما كنا ننادي عليه بيننا، وهي كلمة إسبانية دالة على ابن البلد، وذلك راجع لحبه وتعلقه بمدينتنا. هو رجل طويل القامة، واسع ما بين المنكبين، مفتول العضلات، ذو شعر فضي وشارب اختلط فيه الشعر الأبيض بالأسود. هو في أواخر الخمسينات من العمر. ممارسته لرياضته المفضلة “كمال الأجسام” حافظت على لياقته رغم تقدمه في العمر. هو سائق سيارة أجرة، مدمن على مقهى دمسكوس، كثير الثرثرة، صوته مجلجل، إذا تحدث ظن الرواد أنه في شجار، وإذا قهقه ضاحكا أزعج الحاضرين بالقرب منه، والبعيدين عنه. إذا تكلم فكأنه يتكلم عبر مكبر للصوت. يتحاشى الجميع الجلوس قربه، أو مشاركته في وجبة الفطور الصباحية، إن تحدث في موضوع عرف القاصي والداني موضوع ومضمون ما يتحدث عنه. ولذا غالبا مان يعزف عنه رواد دمسكوس ويتحاشونه.

ونحن نتبادل أطراف الحديث فيما بيننا إذا بزائر جديد حل بدمسكوس. هو غريب عنها، لم يسبق لنا رؤيته بالمقهى. من خلال لكنته يتبين أنه ليس من أهل المدينة. هو رجل أنيق يرتدي بذلة رمادية، وقميصا أبيض ناصع اللون، تحيط عنقه رابطة عنق رمادية أيضا. وزادته أناقة نظارة شمسية سوداء. تفوح منه رائحة عطر من النوع الرفيع الثمين. توحي هيأته بعلو شأنه، أو مركزه المرموق.. طلب من النادل بلطف، وابتسامة ممزوجة بقمة الاحترام والامتنان فطوره، ثم بدأ يتصفح الجريدة التي كان يتأبطها. قصدته امرأة وهي ممسكة بطفلة في العاشرة من عمرها أو أقل من ذلك. تحدثت إليه في همس، ثم تراجعت ووقفت على حافة الرصيف المقابل للمقهى.

أخذ الرجل الصحن الذي كان يوضع فوقه الإبريق، بعدما أزاح الأخير، ثم وضع عليه ورقة نقدية وصاح بصوت يوحي بتأثره لحالة المرأة، وهو يقول في نبرة حزينة:

-أيها السادة الكرام تلك الواقفة هناك أرملة ولها أطفال يتامى ترجو عطفكم وكرمكم. أنا سأضع هذا الصحن على هذه الطاولة، فليتكرم كل واحد منا بما يستطيع وجزاؤه عند الذي لا يُضيع أجر المحسنين..

جلس على كرسيه، ثم أخرج سيجارة من علبة سجائره الرفيعة، وأشعلها بقداحة ذهبية، واستأنف تصفح جريدته.

بدأ المحسنون بالتصدق ووضع النقود في الصحن كل حسب استطاعته، وهو جالس لا يلتفت نحوهم. ولما توقف التصدق وقلت الحركة أمام طاولته، وضع الرجل الجريدة على الطاولة، ثم قام لتقديم الحصيلة للمرأة.

لمحه الطيب، وأمعن النظر فيه، وفجأة صاح بصوته المجلجل:

-أوقفوا هذا المحتال النصاب.. أوقفوه..

وقف الجميع في دهشة من هول صراخ الطيب وصياحه. ثم انقض الطيب على الرجل وأحكم قبضته عليه حتى كاد يُغمى على الرجل، والرجل يصيح بأعلى صوته:

-أبعدوا عني هذا الوحش.. أبعدوه عني.. أنا سأقاضيكم كلكم.. سوف ترون.. أبعدوا عني هذا المتوحش.. أبعدوه عني..

زاد الطيب في إحكام قبضته، وهو يردد بأعلى صوته:

-عليك اللعنة يا عرة الرجال.. عليك اللعنة أيها النصاب النذل.. أهكذا تفعل بأهلك؟ خسئت أيها الجبان..

أيها السادة هذا النصاب يقصد المقاهي والمطاعم بهذه الهيئة المزيفة، ويقوم بهذه التمثيلية القذرة، فيأخذ ما تصدق به الناس، ثم يقصد مقهى أخرى أو مطعم آخر، وكل يوم هو في مدينة.. وهكذا.. وتلك زوجته.. والصغيرة ابنته..

أخذ السامعون بسب الرجل ولعنه، ومنهم من بصق عليه، وآخرون يرددون: “لا حول ولا قوة إلا بالله”

دخل من بين الحشد ضابطان صفدا يدي الرجل، ثم تأبطا ذراعيه وهما يمضيان به نحو سيارة الشرطة. همس أحدهما في أذنه:

-وقعت أخيرا أيها النصاب في أيدينا…

 

مقالات من نفس القسم