يقف كل “مغربية” أمام دكانه مزهوا، وكأنه صاحب الشارع وسيده، صوته الأجش يكمل الصورة، فيخرج مجلجلا يهز الشارع، وكأن تاريخه ليس مملوءا بالثغرات، وكأن الناس لا تخوض في سيرته بين الحين والآخر متسائلين عن أصله وفصله وحقيقة نسبه.
كان وجوده فقط، وفي حد ذاته، حدثا مثيرا للجدل..أينما ذكر اسمه كثر الحكي والتكهنات.وتوقع كل أهل شارعنا أن ينتهي أمره، بعد ذلك اليوم الذي وقفت فيه أخته الكبري (الست بهجة) تحت شرفة بيته، تصرخ وتولول كاشفة وسط هذيانها عن فصول المأساة كاملة،فاضحة تاريخا لم يكن ليعرف عنه شيئا، لا هو ولا كثير من أهل شارعنا.
عاش (سيد) الطفل الصغير في كنف الحاج رضـوان، الذي استخرج له شهادة ميلاد تحمل اسمه، وضمه لبناته كأخ لهن، وتولت السيدة (صديقة) تربيته ورعايته، فكبر (سيد) لا يعرف لنفسه أبا ولا أما غيرهما، ولا يعرف لنفسه نسبا إلا لهما، ولم يطلعه أحدهما أبدا على الحقيقة.حتى صار شابا قويا ذكيا، تحمل مسؤولية تجارة والده، وقام بتوسيعها.. يبر والديه وأخوته البنات، لا يقصر في حق قريب ولا بعيد..لذا، وقبل وفاة الحاج رضوان، أخطأ الرجل ذلك الخطأ الفادح، وقام بكتابة أملاكه كاملة لسيد، لا لشيء الا ليقوم برعاية الأملاك دون تدخل من أزواج البنات، وعاهد سيد على أن يكرم كل بنت وأن يعطيها حقها من إيراد التجارة كاملا في نهاية كل عام، وكذلك فعل سيد ولم ينقطع.إلا أن (بهجة) الأخت الكبرى كان لها رأي كانت تريد أملاكها كاملة..لا تحب سيد، وتغار منه ومن مكانته في الأسرة، وكانت قبل وفاة والدها هي الوحيدة بين أخواتها التي تحب سرد حقيقة نسب سيد بين الحين والآخر، ومنعها أبوها من التمادي في ذلك، وحذرها من الإشارة للأمر من قريب أو بعيد، فكانت تغير من كونه الابن المفضل على حسابها، وهي الابنة بالدم بينما هو متبنى. وكان ما فعله الحاج رضوان بكتابة الأملاك لسيد هو القشة الأخيرة التي أثارتها، فظلت تكظم غيظها عاما بعد عام، حتى فقدت أعصابها في ذلك اليوم، ووقفت تحت الشرفة وقت سكون القيلولة، تصيح وتهلل وتنثر حكايات عن الابن المتبني وصديقة التي جاءت به من الشارع، وصديقة التي جاء بها الحاج رضوان من الشارع، وعن الأملاك والميراث، والملاليم التي ترمى لها لتلتزم الصمت عن حقها.
وقف أهل الشارع مبهوتين، وذابت الحاجة صديقة في نفسها،وجلس سيد على الكنبة الأقرب للشرفة، يستمع لفصول الحكاية وهي تسرد على آذانه للمرة الأولى، ويبكي ولا يتكلم، وفهم للمرة الأولى لم رفضه الحاج بركات والد سعاد، حب عمره ورفيقة طفولته، دون إبداء أسباب، وهو الصديق الصدوق للحاج رضوان. ظل لعدة أيام حبيس بيته، وظن الناس أنه لن يعود كما كان.
ولكنه، بقوة وثبات ورثهما عن الحاج رضوان وكأنه ابن له بالدم، خرج على الناس بثقة، فأولم وليمة كبيرة، دعا لها أخوته البنات وأزواجهن وأطفالهن، ونصب سرادقا مد فيه الفرش، وجاء بالجزار والطباخ فأطعم أهل الشارع وأهل السبيل والمساكين اللحم المسلوق والسريد أياما ثلاث، رحمة على روح الحاج رضوان.
وقام بتوزيع تركة أبيه على إخوته البنات كاملة، واكتفي هو بإدارة نصيب الحاجة صديقة، والإقامه معها هو وزوجته واطفاله في نصيبها من البيت.
أسندت البنات إليه إدارة أعمالهن، عدا (بهجة)، وكان ما حدث هو نهاية علاقتها به حتى مات.
ظل الحاج سيد رضوان كعمود من أعمدة شارعنا القوية، وكبير للشارع رغم أنف الجميع..يشكل بهيئته وطبعه وسخائه صورة تاريخية لابن البلد ميسور الحال الكريم المحب للجميع، يغار منه البعض ويلوك سيرته البعض، ويحبه البعض الآخر، ولا أحد ينكر عليه كرم الأصل و(المجدعة).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاصة مصرية، صدر لها “آيس كريم بالكراميل” ـ 2013