فصل من رواية “حانة الست” لـ محمد بركة

حانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد بركة 

أعيد اكتشاف جسدي.  

لم أعد أرتدى المعطف و العقال أو أوارى نهديّ بعيدا عن الناس. لن أتنكر بعد الآن في زي فتى بدوي أمرد يثير بكحل عينيه  ونعومة صوته رغبة متوارية في الظلال البعيدة.

 لولا “روحية”  لكان يومي الأول بالزي النسائي مزيجا من الفضيحة والكوميديا . بدأت أتعرف على كبار الموسيقيين لأصنع منهم جنرالات في حملتي العسكرية لاقتحام المجد .زراني أثناء اصطيافي بالإسكندرية  الشيخ أمين بك  المهدي ، أعظم من عزف على العود .  لم أكذّب خبرا حين دعاني لزيارته ببيته الذي يطل على ترعة  المحمودية . هناك التقيت  ابنته ، تلميذة ” الميردي دي دييه ” ، الوحيدة كشجر الخريف  و الخجول كسحابة لا تمطر . منذ اللحظة  الأولى اشتبكت أرواحنا و كأننا نعرف بعض قبل نزول آدم و حواء إلى الأرض.

       أحلم بيوم الأحد  كما يحلم  جوعى قريتنا برغيف ساخن محشو بقرص فلافل . عطلة روحية الأسبوعية   . أذهب إليها لأقضي معها أطول فترة ممكنة .  قلبي معلق بميدان باب الخلق . هناك ببيتها تتشابك أصابعنا لتضع لونا ساخنا وسط لوحة من الألوان الباردة . نتبادل أسرارنا الصغيرة مثل أسماك تلهو في حوض زجاجي  .

        روحية شباك أطل منه على الحياة لأتنفس قليلا . طوال سنواتي الأربع الأولى  بالقاهرة  لم  أخرج إلا لحفلاتي بالأزبكية  مساء أو فرح أحييه ليلا . أربع سنوات لم أدخل فيها سينما أو أطرق باب محل تجاري مشهور . كنت مجرد  آلة  تعمل  بكفاءة لجمع المال.

     صداقتي بروحية تجسد ضعفي التاريخي أمام بنات الطبقة الراقية المولودات بملعقة ذهب في أفواههن أو  مؤخراتهن . بدأ الأمر حين صادقت بنت العمدة في” طماى” فلم أعد أتصور نفسي بدون واحدة من هؤلاء.

 أحببت بنات الذوات وعشقت حياة الدعة في بيوت واسعة محاطة بالأشجار.

الوسائد الناعمة.

المراتب التي تغوص بجسدي عميقا.

الملاعق المذهبة و الورود المنقوشة برهافة على الأطباق.

والأهم  ” الفونوجراف” ثم  البيانو حين يتمدد مثل حوت صغير يتغذى على سمكات موسيقية.

في مثل هذه الأجواء أستعيد بعضًا من إنسانيتي التي تسربت وسط الخيش والطبلية والنوم على فراش مشيد من الطين . لطالما تباهيت بأصلي الريفي وعرّفت نفسي في جميع المحافل  بأنني “فلاحة مصرية” لكنه كان تعريفا ناقصا . أدخل الكازينوهات والملاهي فأعرف أن  الأغنياء لا تأخذهم “الشوطة” و أوقن أن الموت المجاني لا يليق إلا بالحفاة المعدمين الذين جاهدت منذ اللحظة الأولى حتى لا أنتمى إليهم .  قد أجعل من ذكرياتي معهم درعا يقيني شر الحساد حين يستلقون في الصالون الأوبيسون بفيلتي ، لكني عرفت منذ البداية أن مكاني ليس وسط روث البهائم و العيون الملتهبة والنظرات التي تعاتب السماء في صمت. 

 

– بمرور الوقت ستعتادين عليها، بعد كل هذه السنين في ملابس الرجال لابد أن يكون الأمر غريبا بعض الشيء حين ترتدين ملابس نسائية لكن لا تقلقي. مجرد وقت ليس أكثر.   

  تحاول “روحية “بهدوئها التاريخي و عنقها النحيل الطويل التهوين علىّ وامتصاص انفعالاتي الأولى وقد عدت أنثى ترتدى ملابس الإناث.

–  يقلقني هو شعوري أن القاهرة كلها تحدق فيّ وكأني أسير عارية!

  تحتضنني روحية وهى غارقة في الضحك.

– الله يجازي شيطانك يا أم كلثوم.

– أو يبارك لي فيه ، ألا تعرفين أنه مثلما يوجد شيطان للشعر  يوجد شيطان للغناء؟

– يا سلام، ولماذا لا يكون ملاكا؟

– يا حبيبتي تأمليني جيدا ، بذمتك هذه ملامح تتبناها الملائكة؟

– طبعا ، قمر 14 .

–  أمر بالستر!

ليكن الأخضر .

سألني أبي : لماذا ؟ 

وزعم أخي أنه يعرف فعرفت أنه كالعادة جحش صغير يظن نفسه طاووسا.

كانا يعتقدان أن للأمر علاقة بلون الحقول في ” طماى”.

– بل هو لون الإسلام وبشارة المصطفى والزي الرسمي لأهل الجنة، أم تراك نسيت يا أبي؟

      هتف الشيخ المعمم مكبرا بينما  كنت أمتثل لنصيحة روحية :

– الأخضر يليق بك يا ثومة. يبرز استدارة وجهك ويفتّح بشرتك ويدارى عيوب جسمك. خمسة و خميسة في عين العدو!

لم تكن روحية صديقة المرحلة الوحيدة . كانت هناك أيضا فاطمة : 

– اخلعيه يا ثومة. تخلصي منه مثلما فعلت هدى هانم شعراوي ورفيقاتها. رمين به في النيل وقلن لا لحبس المصريين خلف دبابات الإنجليز …لا لحبس حواء خلف الحجاب.

–  وما العلاقة بين الاحتلال والحجاب؟

– الاثنان يسلبانك أعز ما تملكين: كرامتك.

– أنت التي تقولين ذلك ، أنت ابنة عالم الأزهر الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق؟

– شوفي..والدي رباني على الحرية في التفكير وأن لا شيء فوق النقد.

ضحكت وأضافت:

– لكن طبعا ليس كل ما يخطر في بالي أصارحه به.

    إذا كان حبيبي هو أول من قادنا إلى الفنادق، فإن الشيخ مصطفى هو أول من قادنا إلى الشقق السكنية. تعرفنا عليه للمرة الأولى أثناء حضوره لواحدة من حفلاتي بحديقة الأزبكية. كان إسمي بدأ ينتشر وصوتي يسحر الخلق فينتشى من ينتشى ويستبد الفضول بمن سمع عني ومن لم يسمع مني بعد. أدركت مبكرا أنني مهما أوتيت من موهبة خارقة للناموس فلن أصبح  خاتمة النساء وآخر المطربين إلا بالاعتماد على شبكة واسعة من أصحاب النفوذ والمعجبين و العشاق. لي نظرة في الرجل حتى لو كان بعمر أبي. الشيخ مصطفى رقم صعب في تلك المرحلة. ينحدر من أسرة ثرية. نظراته قوية فاحصة وهيبته طاغية دون غرور أو تجبر. لم أندهش حين تولى وزارة الأوقاف 8 مرات وحين أصبح شيخا للأزهر كدت أن أطلق الزغاريد. حضرت حفل ميلاد نجيب محفوظ الخمسين بدعوة من محمد حسنين هيكل، فتذكرنا سويا الرجل الذي أهدى أسرتي شقة رائعة في عابدين بينما شرب محفوظ منه أسرار الفلسفة الإسلامية وأهمية أن يتخذ الفصحى بديلا للعامية في كتاباته. 

      تعاملت مع الشيخ مصطفى حسب وصفتي التقليدية المخصصة لذوي النفوذ : ترحيب دون نفاق. سعادة دون تكلف. ندية دون إساءة أدب .والأهم العزف على هذا الوتر الذي يطرب له الرجال: احتياج امرأة لهم دون ترخص . وشأن كل وصفة لابد من ضبط المقادير جيدا وصنع هذا التوازن الدقيق بين الحلو والمالح ، بين الصلابة و الطراوة.  

       حضر الشيخ مصطفى الحفل للمرة الأولى، فلم يغادر إلا بعد أن قدّم  التهنئة وتعرف على تلك البطانة العائلية. كانت المدائح النبوية و قصائد قدماء العرب لا تزال بضاعتنا التي أعرف أنها ستصبح كاسدة عما قريب . بدت حفاوة أبي زائدة عن الحد ليس لأن الشيخ واحد من كبار علماء الدين بل لأنه يحمل لقب ” البكوية “. كان الشيخ صادقا في ثناءه على صوتي ويتعامل ببساطة معجب يتذوق الفن:

– صوتك هدية من السماء ولو حافظت عليه لكان لك شأن عظيم.

   لكن أبي لم ينس أبدا أن الرجل ينتمي لعلية القوم. انسحق تماما كما هى عادته حين يخاطب السادة. قالت ستنا مريم البتول يا ليتني مت قبل هذا ويقول أبي يا ليتني مت قبل أن أجهل مقامك. ينظر في الأرض ويبالغ في الانحناء ويلهج لسانه بالشكر و هو يردد عباراته المحفوظة:

– الله يحفظك يا باشا،ربنا  يعز مقدارك ويبارك لنا في  معاليك.

وحين يحاول الطرف الآخر التباسط ، يسارع أبي كمن يطرد فكرة شريرة:

–  العفو معاليك ، العين لا تعلو عن الحاجب!

   يرفض الندية ، كلما كان السيد بسيطا ومتواضعا كلما ارتبك أبي. يريد أن تمضى الأمور في مسارها الطبيعي، أي أن يكون السيد متعجرفا أو على الأقل متحفظا. هنا يكون الموقف مفهوما . يردد دائما:

– وفضَلنا بعضكم فوق بعض .

مثل كثيرين من أبناء جيله ، لم ير في  ثورة عرابي إلا ” هوجة” مرددا بيت  شوقي:

صغار في الذهاب والإيابِ

أهذا كل شأنك يا عرابي

حين بدأت أتذوق الشعر، قدمت احتجاجي قائلة:

– لا يليق بأمير الشعراء هذه الشماتة في رمز وطني.

قهقه أبي وقال:

– وطني بأية مناسبة؟ الرجل تطاول على أسياده وأسيادنا يا بنتي، ثم إن أحمد شوقي تربية قصور ويعرف ماذا يقول . إنه باشا ، يعني العيب لا يخرج منه .

  قرر الشيخ مصطفى أنه لا يليق بنا أن نستمر فى سكنى الفنادق ، فسارع أبي لإخراج عدة المذلة والمسكنة القابعة في قعر سيالة جلبابه الواسع المشدود بحزام فضى مقلم :

– جنابك معك حق طبعا، لكن نحن غلابة وغرباء و الغريب أعمى ولو كان بصيرا.

       تنطلق عاصفة المديح والشكر من فلاح مهما منحته الأقدار  فسيظل مؤمنا بالله ورسوله والعين التي لا تعلو عن الحاجب. لم يكن أبي منافقا ، كان صادقا في ثناءه الحار على كل ثري وجيه ابن ذوات. تنتمى أمي إلى الأشراف لكن ظهرها انحنى في العمل بالحقول ويعمل والدي نفسه  إماما لكن ذاق مرارة سؤال غير المولى ، فبات يؤمن أن الجنيه هو السيد الحقيقي.

    أسهل طريقة لتوطيد علاقتي بذوي النفوذ هو مصاحبة بناتهم. أن تصبح قرة عين الباشا صديقتي المقربة. فعلت ذلك مع ” روحية”  أمين المهدي كما فعلته مع ” فاطمة”  مصطفى باشا عبد الرازق التي كانت شاهد على لحظة تحولي من ذكر إلى أنثى:  

– نريده  تغييرا شاملا، سنصفف لك شعرك وستخرجين على الناس دون غطاء للرأس.

 رفضت بحسم.

– يا واش يا واش يا بطة!

– لابد من أسلوب الصدمة مع ناس تخاف و لا تستحي، لكن لا أملك سوى أن أحترم رغبتك.

   جاءوني بغطاء شعر من “اللباد”، الصوف  الأسود .

   سأودع ذكورتي المصطنعة  و أنهي علاقتي بالتخت الشرقي وأدخل عصر الحداثة. حتى عام 1926 لم تكن هناك موسيقى تصاحبني في الغناء ، يقف ورائي على المسرح أربعة أفراد فقط ، منهم أبي و أخي خالد . فريق غنائي خارج من ألف ليلة وليلة . أنا بالعقال و هم بزي المشايخ : عمة و جبة وقفطان ونظرات زائغة  مرتعشة تدق بوجل على البوابة الخشبية العملاقة لمدينة الخلود  .

          أصبح التخت الموسيقي الذي يجلس ورائي يضم  محمد العقاد أمهر عازفي القانون و سامي الشوا أمير الكمان و  محمد القصبجي ملك العود . الثلاثة الذي أطلقت عليهم الصحافة ” أساطين الموسيقى الشرقية ” و أطلق عليهم قلبي “حراسي الشخصيين” في مملكة مسحورة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائي مصري ، والرواية تصدر قريبًا عن دار المثقف ـ معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون