زمن شهيرة

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

ما إن وقعت عيني عليها إلا وأصابني الذهول، توارد سيل الأسئلة يطرق رأسي، كيف لم تنل منها الأيام، كيف حافظت على رونقها طوال تلك الغيبة؟!، على بعد خطوات من دكان ” الحاج لطيف “، تسمّرت قدمايّ، لمحتها تقبض على يد فتاة صغيرة، تتعثر في مشيتها في ضجر، ما إن رأتني، حتى شهقت في اندهاش، تراخت يدها غير مصدقة، توقفت تماما عن سيرها وقد زمت شفتيها، وكلما تقدمت منها، حتى تتمدد حمرة غطت قسمات وجهها المستدير، اقتربت أكثر فأكثر لأشعر بفحيح أنفاسها، لم تترك لي فرصة للتفكير، أفلتت يد الصبية، جعلت تمرر راحتها فوق رأسها، قائلة في حنو :” خديجة، ابنتي الوحيدة “، على الفور عبثت يدي في خصلات شعرها الأشهب المسترسل، لم تعتبر الفتاة كثيرا لوجودي، ظلت عيني معلقة بالوجه المضرج في لهيب المفاجأة، بعد قليل، حاولت النطق، تصلب لسانها، تحشرجت الكلمات في حلقها، غامت الدنيا في عينيها، جعلت أُسرّي عنها مستفسرا عن أحوالها، لكن الصورة القديمة تجسدت من أمامي، أطلت فتاة الأمس، فتاتي القديمة التي تزوجت من موسر عجوز، لتتلاشى أخبارها عن الحارة.

تكبرني “شهيرة” بأعوام، كانت والدتها جارة مقربة لأمي، تتردد علينا عند كل أصيل، الابنة الوحيدة لأرملة مات عنها زوجها، تركها وابنتها ومعاش ضئيل، جنيهات يسيرة تكفيهما بالكاد، اتصلت بيننا الأسباب، وكأن يأسها من حياة اليتم، أغراها لأن تلقي بنفسها في طريقي، تترنح كلماتها طربا حين تحدثني، تخرج أصوات ضحكاتها تشبه نواح السواقي، مبكرا وعلى غير موعد، أعطت لنفسها الحق لأن تقود الزمام، اذهلتني نبرتها الحازمة، مراسها الشديد، افعل ولا تفعل، اربكتني تلك القيود الصارمة، كبلت إرادتي الصغيرة ، اتشهى اللعب، الانطلاق مع الرفاق، اجيبها منكسرا، وابتسامة جامدة تدغدغ فمها المطبق معلنة :” حان وقت الدرس”، اشعر وكأنما عيناها تعبث بداخلي، تفتش في جرأة عن أشياء مجهول، تتمشى حارة فوق قلبي، تقترب مني في شفقة محتوية جسدي النحيل، تأخذني بين ذراعيها تلفني لفا، تغيب في نهنهة طويلة، تترعرع الدموع بين أهدابها، في تلك الأثناء تهب رائحة جسدها تملأ أنفي، تشبه رائحة الأرض المروية، يتقلص وجهها المحتقن، يغالب جموحا يضرب روحها، تتقافز سريعا دقات قلبها في وثبات محيرة، تشغلني عما حولي، اشعر لحظتها بخدر شديد يتدفق في جسدها، ينبثق من عينيها وميض أخاذ، تلك النظرات النهمة تأمرني أن استلقي فوق صدرها الرجراج، تحتبس أنفاسها فجأة ريثما ينطلق مجرورها الحار في زفرة طويلة، لتنشط من بعدها في فرح.

وقتئذ لم أكن لأعرف ما يدور بخاطرها، قبيل رحليها بأيام طفقت تتفقد اركان غرفتي الضيقة، تتلمس محتوياتها في شغف مبالغ، وكأنها تودعها لآخر مرة، اقتربت على غير عادتها وطبعت قبلة هادئة فوق خدي، وموجة من السعادة تتحرك في صدرها، طالعت ذلك الوجه الخمري المشرق المرتسمة معالمه بعناية، الأنف والشفاه، العينان والأهداب، حتى الذقن ظهرت كمثلث مقلوب غاية في الرقة، ابتعدت قليلا وقد اسبلت جفنيها مرتجفة، لتقول دفعة واحدة :” سأشتاق إليك “، جاهدت طويلا لتبدو في سكينتها، تحركت ناحيتها مأخوذا، لكنها ادارت وجهها عني خجلة، مددت يدي لاحتوي وجهها المغضن، رمت إلي ببصرها في إغماء، ليتوقف الزمن ويسيل لغابه، يتأتى هتاف ضعيف من مكان سحيق بلا استجابة، كي يتوفق هذا الدبيب، على أمل أن يعود السكون، امتلأ الجو من حولنا بالشياطين، تشهر سيوف الغواية، ليفرغ من بعدها في جوفي رحيقا عذبا.

انتبهت لصوت المارة من حولنا، عادت فتاتها الصغيرة لتململها، تضرب الأرض بقدمها الصغيرة في تأفف، أما هي فبقيت صامتة، قابضة على بدي، وشهقة تتأتى من أعماقها مترجية ألا أذهب.

مقالات من نفس القسم

ali reda zada
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قصة صورة