عندما يحكي السيد نوم

محمد مصطفى الخياط
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد مصطفى الخياط

كَبُرت أمي وكَبُرت ابتسامتها العريضة فدان براح.. أزورها كل مساء، وأحيانًا في سويعات العصاري، بعد ما تكون قد تناولت غدائها وتمددت على الكنبة الخشبية في الصالة فاتحة شباك المطبخ المطل على غيط أبي ليعبر النسيم المخلوط بروائح زراعاته ويتمسح في حيطان البيت قبل أن يستأذن منصرفًا.

لحكايات أمي رائحة الخبز البلدي الطازج المتجمر على صاجة الفرن في ليالي الشتاء، كبرنا في حجرها.. وظل صدرها دائمًا الملاذ، إن فرحنا ارتمينا فيه، وإن تألمنا اختبأنا فيه أيضًا، نتحلق حولها فيغمرنا جميعًا دفء الطمأنينة، (اتفضل يا أبو خير)، تقول مادة ذراعها بكوب الشاي لأبي الجالس غير بعيد منها، غارقًا في تسبيحاته.. يهز رأسه شاكرًا ويعاود الإبحار.

قَسَمَ أبي عمل اليوم بيني وبين إخوتي، وجاء الليل من نصيبي، ارتميت في حضن أمي وسألتها بصوت متهدج (ماذا عساي أفعل في الليل؟).. نظرت نحوي بعطف وقالت (حِملك ثقيل وقدومك عزيز.. يتمناك كل الناس.. ولن تدخل بيتًا مرة إلا وترقبوا مرورك ليلة بعد ليلة..)، نظرت نحوها بعينين حزينتين ودفنت رأسي في صدرها فقَبَلَتني ثم مسحت على صدري، وهمست في أذني مودعة (صدق أُمك ..)، طأطأت رأسي موافقًا وخرجت اتمشى بين الدور.

كان الليل قد شارف على الانتصاف، الشوارع مظلمة إلا من شعاع قمر فضي يطل حائرًا من بعيد، كان أول ما قابلني بيت من طوب لَبِن اقتربت من نافذته بعد ما رق قلبي لبكاء طفل رضيع.. نفذت من بين شقوق الشيش.. تأملت وجهه المضجر بحمرة البكاء، ووجه أمه المتعب المكدود.. مسحت بكفي على رأسه فهدأ رويدًا رويدا حتى أغمض عينيه وراح في سبات عميق، نظرت أمه نحوي بامتنان ولرضيعها بحنان، ثم قَبَلتْ فمه المزموم على أحلامه، ثم لم تلبث أن غطست في النوم. كم كان منظرهما مؤثرًا وجميلاً.

ومن بيت إلى بيت رحت أمر على السهرانين؛ أُشاغل بال المشغول، وأربت صدر المحزون، أراقب الموجوعين والمتعبين حتى إذا ما وضعوا رؤوسهم على وسائدهم المبقعة بالدموع سحبتهم بخيط الحرير في جنان الذكريات والمستقبل.. أحملهم على بساط الكرى السحري وأطير بهم في جنات عدن، وحدائق فارس، وواحات مصر، وأنهار الشام، أرسم على شفاههم البسمات، وأقطف لهم الحلوى من حدائق الأمنيات، قبل أن يغوصوا مع الحوريات في محيطات الأحلام.

ومضت حياتي هادئة حتى جاء يوم، عايرت فيه الست راحة السيد أرق بأنه عاطل وبلا عمل، فهاج وماج وأقسم على الانتقام.. وصاح غاضبًا (سوف تعلمون من هو أرق..)، عدوت خلفه وكلي قلق بعد أن ولى وجهه شطر كهف أفكار المهجور، لكنه كان أسرع مني واندفع عابرًا باب الكهف.

وما هو إلا وقت قصير حتى سمعت صخبًا وضجيجًا يقتربان شيئًا فشيئا من الشارع العريض فإذا أرق وقد ارتدى حُلةً سمراء تحتها قميص أبيض، يمشي مبتهجًا متأبطًا ذراع أفكار وحولهما حشد هائل من ابناء إزعاج، تابعتهم من خلف عامود رخامي حتى مروا، وعندما انتهى بهم السير إلى ساحة الست راحة دقوا أوتاد خيامهم أمام بيتها، ثم راحوا يصخبون ويلعبون على إيقاعات السيد أرق وفرقته، ومن يومها نسيت الست طعم الراحة.

حتى أنا.. صار يتعقبني وما أن يلمحني أدخل غرفة نوم حتى يسارع يقذف نوافذ الطمأنينة وأبواب السكينة في رؤوس النائمين بحجارة القلق والتوتر، فأظل أعدو طوال الليل منهكًا أسد ثقوب الحيرة وأُصلح نوافذ الطمأنينة المحطمة، بينما يردد الفضاء صدى قهقهات السيد أرق مُعلنًا خسارتي وخيبتي !!.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون