مُخ الطّير

فضيلة ملهاق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. فضيلة ملهاق*

      تبادل لَزْرَقْ وزَرْقو نظرات حانقة وانطلقا في سباقهما بحماس، وليس في رأس كل واحد منهما إلا فكرة الفوز في السباق.

    بدأ الحديث بينهما عاديا في المقهى ثم بالغا في التباهي بوسيلتي نقلهما، فأحاط بهما الزبائن وتنوّعت التحريضات والمشاحنات وانتهى بهما الأمر إلى أن تراهنا على ما لم يخطر ببال.

ـ إن خسرت الأسطورة (أدولفا) أمام العجوز (بُراقة) سأقوم بتفكيكها على الملأ قطعة قطعة، قال زَرْقو بحماس بالغ.

ـ إن خسرتْ (بُراقة) المباركة السّباق سأهبها لأوّل عابر سبيل، أعلن زَرْقو عن قبول الرّهان وقدَّم بالمقابل عرضا.

-اتفقنا! أعلنا بعد أن أشهدا الحضور.

أعلنت صيحة أول ديك وقت الانطلاق نحو المدينة، تحت تصفيقات الحضور، قطعا مسافة وهما يراقبان بعضهما بعض بحرص، وبعد مدة أدرك التعب (بُراقة) فأرخت قوائمها جانب الطريق وحرنت، وعلى عكسها ازدادت سرعة (أدولفا) عند منحدر حاد، وجمدت فراملها، واضطرّ لَزْرق إلى أن يغيّر مسارها نحو طريق فرعي.

اعتلت الشمس كبد السماء، ولفظت شُواظاً لاسعا، وغالى الهواء في اعتصار العرق من جسد لَزرق، ولم يفلح في زعزعة (بُراقة) من مكانها، وضع رأسه على بطنها واسترخى بيأس، فتلقّفه النعاس، لم ينتبه إلا على أزيز شاحنة توقفت على مقربة منه، ونزل منها شخص يغطي وجهه بوشاح.

– حرنت الدابة لفرط التعب والعطش والجوع، ينوبك ثواب أوصلنا إلى مكان يفي بحاجتنا. بدره بالكلام.

    نظر السائق إليها وهي تمد قوائمها على الأرض بتراخ، وتُضمر في نظراتها، مع التعب، شيئا من العند وسأله مستهجنا:

–   هل مضى وقت طويل على وجودها معك؟

–  إنها رفقة عمر، ساقتها الاقدار إليّ منذ سنوات على يدي شخص مبروك تخلى عن قصره، وجواريه، وكل متاع الدنيا، ونذر نفسه لحب الله، ونشر كلمته، كان يقف موقفي هذا في فلاة يكثر فيها اللصوص وقُطّاع الطرق، فأنقذته من هلاك محتوم، فكافأني بها، أصولها تعود إلى قطيع شهد تحليق البُراق فوقه، فسرت في مشاجه بركته، حيثما تطأ قوائمها تحل البركة، ولم يبقى من هذه السلالة غير أربع دواب مُوزّعات على القارات الخمس، لذلك أرفض التنازل عنها رغم سخاء العروض.

أطال لَزْرق في مدح دابته ولم يلمس في نظرات ذلك الرجل الاهتمام، وإنما باغته بنبرة مستهجنة:

ـ هلا نظرت إلى عينيها؟ ألم تلاحظ أنها مصابة بعدوى أنفلونزا الاستبغال؟ إنه خطير ويخلّف عاهات.

تراجع زرقو قليلا إلى الوراء بقلق، وزّع نظرات التشكيك بينها وبين محدثه، كيف يمكن أن تكون مصابة بأي عدوى وهو لا يدعها تخالط أي حيوان، ويحرص على رعيها وشربها بنفسه؟ تساءل في نفسه ثم اقترب منها بحذر، نظر في عينيها فلمس فيهما خيوط احمرار، وأرهف سمعه لأنفاسها فوجدها وهنة مضطربة، ابتعد عنها بخطوات وقال له بنبرة مرتبكة:

–  هذه علامات التعب.

رد عليه محدثه بنبرة مستهزئة،

– أين تعيش يا رجل؟! داء (الاستبغال) مستفحل في المنطقة، بعض الدواب لا تظهر عليه الأعراض لكنه ينقله لغيره. إلى أقرب بيطري أو إلى المحرقة، بقاؤها هنا خطر على العباد والحيوان.

تغلغل الخوف في نفس لزرق ومال إلى تصديق كلامه، اقترب مجددا من (بُراقة) فبدت له ذابلة الاذنين، مترجرجة الشفتين، مشقوقة القواطع، سحج بنظره أجزاء جسده وكبرت في رأسه احتمالات العاهات التي يمكن أن تصيبه، وقال له باستسلام:

–  دبّرني، جزاك الله خيرا!

ربت كتفه وقال بعد تفكير:

– سأعطيك ثمنها وأسلمها لمخبر التجارب، لا شيء يغلى على الإنسانية.

استلم ثمنها وركب جانبه، واصل طريقه إلى المدينة مطأطأ الرأس، مقبوض الأنفاس، وفي ذهنه أن لزرق سبقه وفاز بالرهان، كان يجهل أن وضعهما لم يكن مختلفا، فقد سلكت به (أدولفا) مسلكا ملتويا، مليء بالحصى والحفر، وراحت تترنح يمينا وشمالا، وترتفع به وتنخفض.. لحد أن كاد قلبه ينخلع وأيقن الهلاك، لحسن حظه أن توقف المحرك وسط أشجار القندول، وساقت الاقدار إليه شخصا ساعده على الخروج منها.

– الحمد لله أن اشتغلت فراملها في آخر لحظة! قال يُداري هلعه.

– احمد الله لأنها لم تنفجر بك، قال ذلك الرجل وهو يعيد لف الوشاح حول نصف وجهه السفلي.

قطّب زرقو جبينه وقاطعه شاجبا:

-هذه ليست أي سيارة، إنها آخر ما ركب هتلر قبل وفاته، توارثها العظماء، وكان آخرهم رساما إيطاليا شهيرا، أهداها لجدي لأنه أفلح بخلطة أعشاب في شفاء ابنته من مرض جلدي مستعص، هذه السيارة التاريخية رمز الجاه والقوة، وقيمتها تزيد كلما زاد عمرها.

 ابتسم ذلك الرجل باستخفاف وقال له:

 ـ هذا النوع من السيارات أصبح محظورا دوليا، يدخل في تركيبه مادة خطيرة تصبح بمرور الوقت قابلة للانفجار، أنصحك بالتخلص منها فورا.

دهمه الشك، راح يفحصها بقلق ثم قال بنبرة متوسلة:

– هل يمكن أن تدُلّني على مُشتر لها ولكَ عمولةٌ تُرضيك.

   فكّر ذلك الرجل قليلا ثم أخرج له مبلغا من المال، وأوصله إلى المدينة، أكمل نهاره يتجول ويشتري ما يشتهى، وأمضى ليلته في فندق فاخر، ومع مطلع اليوم الموالي قصد المحطة وتهالك على أول مقعد شاغر في الحافلة.

ـ مُخ الطّير! حدّد وجهته لبائع التذاكر.

ـ مُخ الطّير! كذلك قال الشخص الذي حذاه.

نظر كل واحد منهما إلى الآخر فإذا بهما لزرق وزرقو يسافران معا مرة أخرى، في وضعية مختلفة، بدا عليهما أثر النظافة والشّبع، تبدلت الهيئة التي انطلقا بها ولم تتغير نبرة التنافس. همس لزرق لرفيقه:

ـ لماذا لم تجلس في المقعد المقابل؟ تتحايل، هه! تُريد أن تنزل قبلي ليُعلنوك فائزا!

اربدّت سحنة زرقو، انتبه إلى أنه يعود من دون سيارته وهمس له بقلق:

ـ أين (بُراقة)؟

مسح لزرق على جبينه بباطن كفّه وقال:

– (بُراقة)! أنت أيضا صدّقت! ما هي إلا بغلة مُسنّة، ترهّلت عضلاتها، وتباطأت حركتها، وأين (أدولفا)؟

-أي (أدولفا) يا رجل!؟ هي مجرد لعبة حديدية متآكلة يمكن تفكيكها بنزع برغي واحد، تسير بعلبة سرعة قاعدية، وفرامل مربوطة بالسّلك، يصعب إيقاظ محركها إذا برد، ويصعب إيقافه إذا سخن، وكثيرا ما تُفلت من زمام السيطرة وتظل تسير وتسير إلى غاية أن ينضب البنزين أو تصطدم بعقبة..ههه!

استمرا يتكاشفان ويمرحان إلى غاية أن ظهرت لهما محطة الوصول، فقال لزرق لزرقو بقلق:

– لابد من مخرج يحفظ مكانتنا بينهم، نحن من دونهما لا نساوي شيء.

–  تحسب حساب من صدَّقوا أن نقّالتي من عجائب الكون، وأن بغلتك الجرباء فرس خارقة!

   ضحك لزرق ملئ شدقيه وأضاف:

– وصدّقوا أنك فقدت زرقة عينيك عندما لامسك ذيل فرس الولي الصالح (زرقو) وأصبحتا غامقتي السواد، فعوّضك عن لونهما بأن أعطاك إسمه ودعا لك بخير لا ينضب، فكان حصولك على هذه السيارة بالنسبة لهم من بركة دعائه، كما صدّقوا أن ذلك الولي زار والدي في المنام وتنبّأ له بميلاد لزرق الفارس، فجعلت حكاية منام بغلتي فرسا وأنا فارس الكرامات..هههه!

انفجرا ضحكا ونزلا من الحافلة متعانقين، الخطوة تحاذي الخطوة، غمرتهما نشوة الإحساس بالربح ودخلا المقهى بزهو.

–  قلقنا لعدم عودتكما البارحة، استقبلهما أحدهم بنظرات تطفح بالفضول.

– حدثت أمور اضطرتنا إلى أن نترك عُدَّة الرّهان عند الأقارب.

همّا بأن يسترسلا في التبرير فقطع حديثهما نحنحة بغل مزعجة وأزيز محرك صاخب، يصاحبهما صوت منفر يشبه الخوار، يدعو أهل القرية إلى التجمع.

  أسرعا إلى الخارج فوجدا ذلك الشّاري يقول بنشوة المنتصر:

ـ أخيرا، ربطنا البغلة إلى العربة بالثمن المعقول، وكفى العُقلاء شرّ الرّهانات!

 – سرقتها من قريبي! صرخ زرقو باهتياج.

– سأشكوك لشيخنا! قال لزرق يتصنّع دور الضحية.

قهقه ذلك الرجل وقال بصوت جهوري:

-أنا هو قريبُكما يا مغفلين! ألم تفهما بعد ما حصل؟!

   نظر كل واحد منهما إلى الآخر وتحسس ما بجرابه من مال، فهمس لزرق لزرقو بغبطة:

ـ أشهد أنه صادق، تفشّى داء (الاستبغال)! كنا نتراهن على من يحصل على ربع الثمن الذي دفعه، ولم نتوقع أن يوجد شار أعمى لدرجة أن يبذل فيهما كل ذلك الجهد والمال! يبدو أن تلك البغلة والقصديرة فعلا مباركتان.

حكّ زرقو قحف رأسه بطرف سبابته وسأله بنبرة مشككة:

ـ ألم نخطئ ببيعهما؟ كان يمكن أن نستفيد منهما أكثر.

   تبادلا الابتسمات ونظرات ذات معنى ثم ارتفع صوت زرقو منبّها:

ـ الطير الذي يزقزق على أول شجرة في الغابة مبروك، تجاسر ظلم الناس على جد جده وعيّروه بصغير المُخ، فاشتكى للولي الصالح زرقو فطيّب خاطره بأن نسب القرية إلى مُخه وأصبحت تسمى “مُخ الطّير”، وبارك الشجرة التي عشّش فيها.

     بدا في عيون أهل القرية أنهم لم يستحسنوا قصة عصفور القرية المزقزق، اختلطت عليهم العصافير، لكنهم أبدوا اهتماما بالغا بقصة تسمية قريتهم، رأوا فيها مسألة هويّة وتاريخ، وراحوا يتنافسون على شراء تلك الشجرة، يتقدمهم الشخص الذي اشترى الدّابة والسيارة.

   تنوعت التأويلات والتكهنات، وتعالت الأصوات المزايدة، ورسى المزاد على مبلغ جعل نظرات لَزرق وزرقو تطفح غبطة، فهمسا لبعض بعض في الوقت نفسه:

ـ بئسَ اللسان الذي قال شجرة ولم يَقُل غابة!

…………………

* روائية وشاعرة من الجزائر

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون