ريموت أم إنصاف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

   إنصاف صديقتي وجارتي، وزميلة دراستي إلي الثانوية العامة، حتى دخلنا الجامعة وكل منا ذهب إلي كلية بمجموع يناسب مكتب التنسيق، رغم أننا حتى ولو كنا نميل إلي الالتحاق بهذه الكلية وليس غيرها، فأنا التحقت بكلية التجارة وهي كلية الحقوق التي تبغضها ولا تطيق دراستها الصعبة، والبعيدة كل البعد عن ميول إنصاف التي تتقن الرسم وحلم حياتها دخول فنون جميلة، فهزمها المجموع من ناحية، وقدوم العريس المفاجئ الذي أصرت الأم علي الموافقة عليه، فدخلت إنصاف كلية الحقوق عنوة، وتزوجت أيضًا رغما عنها، وعاشت وأنجبت كأي مصير فتاة طوع أهلها، وخاصة من لديها أم مثل أم إنصاف القوية الشخصية، وتحمل صفات وخصال تميزها عن أي أم أخري، فقد كانت أم إنصاف، مغرمة بتخزين الخضراوات واللحوم وكل شيء في فريزر الثلاجة .. هذا غير الديب فريزر الذي يعج بكل الخيرات من كل أنواع الغذاء أسماك، لحوم، خضراوات، عصائر، حتى الثوم تأتي به وتفصصه وتقشره وتطحنه وتحتفظ به في علب بلاستيكية وهلم جرا مع كل شيء متاح للخزين، والاحتفاظ به في الديب فريزر وفريزر ثلاجتين أخريين لديها، واحدة تضعها في غرفة نومها وثلاجة والديب فريزر في الصالة الطويلة المربعة مع الانتريه وتسريحة بمرآة طويلة مصنوعة بنمنمات الأرابيسك العربي، بديعة الشكل ويجاورها بمسافة قليلة جزامة، وصندوق خشبي لونه بني تحتفظ به من عهد الجدة المتوفاة من زمن، تضع فيه النوط الصغيرة والجوارب، متراصة في لكاليك حتي لا يختلطا مع بعضها ونفتالين وبعض الرابسو رائحته ذكية برائحة الفاكهة حتى لا يحدث عطن أو أي رائحة كريهة أو تلف من عتة الملابس.

كانت أم إنصاف القوية العزيمة، والمختصة بجدارة في كل أمور المنزل، تضع تلك المواد الغذائية. واستمرت حتى لو لديها الوفير منها، أحيانا تفسد من طول التعليب والتبريد الزائد عن الحد وتلقيها ولا هي تطهيها أو تعطيها حتى للمحتاجين، حتى لأبنائها وبناتها فقد كان لديها ستة أولاد ثلاث بنات أكبرهن إنصاف صديقة الدراسة والجيرة، وثلاثة صبيان أكبرهم محمد الذي يعمل الآن في السعودية، وأم إنصاف لا تذهب أبدًا لو أعدموها إلاّ إلي أبعد سوق، سوق الكوبري في آخر المدينة أو سوق الإسكان الكبير الذي هو في وسط المدينة رغم أنها قريبة جدا من سوق (زنبو) علي بعد 50مترًا من منزلها في شارع إسلام باشا الذي يتفرغ من شارع الجيار في مدينة بني سويف، وكواجب لابد منه حتى لو كانت الأم مثل أم إنصاف، تذهب إليها إنصاف يومين في الأسبوع وهكذا الآخرتان، أم الصبيان كلما سنحت الظروف لزيارتها، حيث الكبير في السعودية، كما ذكرنا، والآخران واحد يعمل ويعيش في مركز بوش الذى يتبع لمدينة (بني سويف) والثالث يعيش في محافظة الإسكندرية.. ولا تري إلاّ الابن الأوسط مرة كل أسبوع يوم الخميس دائمًا حيث يجتمع الثلاث بنات، اللذين جميعهن يقطن في محافظة بني سويف كل في حي ما فيها، مع الأخ الأوسط، لرؤيته علي الأرجح، فمشاغل الحياة تفرض حالة من الحصار علي الجميع، فيكون يوم الخميس فرصة للسمر والتندر والتفكه عن أمور الحياة التي تحدث لهم جميعًا. بجو من السخرية، والمرح والاستغراب أحيانًا الذي يمتد في ليالي الصيف إلي بعد الواحدة صباحًا وليالي الشتاء إلى العاشرة مساءً .

   ولأن إنصاف الكبيرة، الأم لا تخفي عنها شيء فمثلا تتحدث لها عن زوجة عبد التواب الصعيدي وهذا لقبه جارتها مني المفترية، أنها أحضرت لها فراخ وماتوا وكلما أحضرت لها فراخ تربيها تموت، وتندد بضيق بأن عيناها مدورة وحسودة وربنا هاينتقم من نيتها السيئة إن شاء الله، وكيف أنها سألت محمد ابنها كم يتقاضي راتبًا في السعودية ولم يقل لها وكم هي (الجارة منى) وقحة تأتي بعد يومين وتعطيها جنبة قريش وبتاو وكأنها لم تتسبب فى موت الفراخ بعينها الحسودة وقلبها الأسود.

أم إنصاف أيضا، تحرص جدا علي شراء الجرائد، رغم أنها لا تقرأها جميعًا وتطلب من إنصاف، أن تحضر لها جورنال التحرير، لأنها لم تقرأه من قبل وغالبًا ما تختار جريدة الجمهورية بالذات ، وتضعها تحت الوسادة فتسألها إنصاف عن سبب هذا وهي تضع دائمًا المصحف ، فتزغر لها الأم بعينها الذابلتين بفعل كبر سنها أنها تضع المصحف لتقرأ فيه ، بعد صلاة الفجر، وبعد ذلك جورنان الجمهورية وتلكزها في فخذها ألا تنسي، أنها حصلت علي دبلوم معلومات وناظرة مدرسة الدواوين الابتدائية سابقا أي قبل خروجها علي المعاش.

وفي احدي الجلسات، التي لا تنساها إنصاف، لأنها كادت أن تفقد عقلها مع أمها مما تم في هذه الجلسة كانت أم إنصاف تفتح التليفزيون، الذي لا يغلق إلا عند نومها في فترة القيلولة، أو في الليل وتدوس علي أزرار الريموت التى لا تعمل ، فعلت هذا أكثر من مرة، خبطته علي خشب الكمودينو الذي بجانب سريرها، فهي لا تفارق السرير سواء في مشاهدة التليفزيون، أو الطعام أو النوم ، وأحيانا تحضر صينية كبيرة وتقوم بتشذيب الخضار عليه.

لكن الريموت لا يعمل، سألتها إنصاف بعفوية سأذهب أحضر لك غيره من عند خالد البقال في أسفل المنزل، ورفضت أم إنصاف، وتهيأ لإنصاف أنها تخجل من تعبها للذهاب والمجيء، لكن المغزى كان مختلفا وعميقا للغاية، أخبرتها أنها لابد أن تأخذه معها إلي سوق الخضار عند عم فاروق البقال ويركب لها حجارة الريموت بنفسه حتي يعمل، اشتعلت إنصاف غيظا أكثر منه.. أداء المعروف راحة لأمها من هذا التصرف الغير منطقي بالمرة مع مجرد ريموت، له حجارة تباع في أي مكان، بل هو عند البقال الذي في أسفل البيت، كيف نذهب به إلي سوق الخضار كيف ؟ أعادت الكرة مع أمها.. أن نذهب ونشتري حجارة وهمت بالوقوف للذهاب.. هاجت أم إنصاف، وارتفع صوتها تأمرها أن تجلس وتحضر لها قناة الحياة الحمراء من زر الريسيفر تشاهدها حتى تذهب غدا إلي سوق الخضار.

هدأت إنصاف وخافت من أمها، التي لازالت لها هيبتها وقوتها مهما أخذ من عمرها، وفعلت ما أمرت به التزمتْ بإذعان واستسلام لابد منه، وبعد لحظات من الصمت، تحاول به إنصاف أن تستجمع أعصابها واتزانها مرة أخري، حتى لا تغضب أمها، فهي أمها مهما قالت وفعلت وأمرت.. وقطعت الأم هذا الصمت الملتبس في عقل كلتيهما، وأخبرنها أن تذهب إلي لمطبخ وتحضر كوبين من النسكافيه البلاك الذي أحضرته من أجل إنصاف لأنها تحب مذاقه جدًا، قامت إنصاف علي الفور من حالة الصمت التي أصابها بالخنق، والتوتر، وأثناء رشف النسكافيه البلاك، قالت الأم بكل برود لإنصاف التي أصبحت في موقف لا تحسد عليه، إنها ستقوم بارتداء ملابسها لتذهب إنصاف معها إلي سوق الخضار لتشتري حجارة الريموت، ودون أن تتلقي أي اجابة من إنصاف، ارتدت العباية والطرحة وأمرت أن تهم وتنهي كوب النسكافيه، بُغتتْ إنصاف من المباغتة، ولعنت حجارة الريموت داخل نفسها سرًا وكادت أن تصاب بشلل مفاجئ. وعادت ذاكرة أم إنصاف لمني زوجة عبد التواب الصعيدي وأشارت بيدها وملامح وجهها تتشدق وتـُمصمص بفمها وجسدها قائلة بسخرية شديدة :

الست مني راحت، الست مني جاءت حمدا لله عليها وعلي دخلتها النحس الله يرحم الجلابية المقطعة والشعر الأكرت المنكوش وأبوها الأجري في أرض توفيق أبويا، وأمها الكلافة في بيت مرعي ابن عمي الكبير.. الله يرحم.. الله يرحم.

مهما مرت الأيام لا أظن، أن إنصاف صديقتي ستنسي هذا اليوم مطلقا وقد عادت إلي منزلها بعد أذان العصر بقليل.. ولم تفعل أي شيء من واجبات منزلها، دخلت منزلها بصمت طاغ وهرعت إلي غرفتها، وأغلقت عليها بالمفتاح حتى لا تسمح لأي أحد بالحديث معها ولو بنصف كلمة وخلعت ملابسها، ونامت إلي آذان المغرب وهي تسب وتلعن حجارة ريموت أم أنصاف الفاجرة.

 

مقالات من نفس القسم