فصلٌ من رواية “رسائل سبتمبر” لـ أحمد عبد المنعم رمضان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جوزيف نسيم   

كتب أحد معدى البرنامج عنوان جوزيف نسيم لزياد على قصاصة ورقة صغيرة, "شارع شيكولانى, المتفرع من شارع شبرا, أمام مستشفى شبرا, بجوار الكنيسة, العمارة الثانية, الطابق الرابع."

  كان شارع شيكولانى جزءا من حدائق شيكولانى التى احتلت المنطقة كاملة ذات يوم قبل أن يتم تخصيص جزء منها للمستشفى وجزء آخر للمدارس والقصور والمساجد والكنائس, وهكذا حتى توارت الحديقة تحت زحف المبانى والسكان.

وبالرغم من تغيير اسم الشارع رسميا إلى شارع المستشفى إلا أن الناس مازالت تعرفه باسم شارع شيكولانى, كما أنهم مازالوا يعرفون المستشفى نفسها باسم مستشفى كيتشينر بدلا من مستشفى شبرا العام. ظلت المستشفى محتفظة بمعالمها المعمارية القديمة, الحجرات الواسعة, الحدائق المتناثرة, الحوائط المرتفعة والأسقف العالية, باستثناء مبان جديدة تم بناؤها إلى الجوار. يسهل على الناظر التفرقة بين الجديد منها والقديم, ليس بسبب عوامل الزمن والتعرية فقط, ولكن لتعارض التصميمات وتباين المساحات والآفاق. فى مقدمة المستشفى توجد قاعدة تمثال اللورد كتشنير, ولكن دون أثر للتمثال نفسه حيث أنه سُرق منذ سنين وتم استبداله ببعض النباتات الموضوعة فوق القاعدة الرخامية التى نُقش عليها اسم اللورد الإنجليزى.

  بجوار المستشفى مباشرة يوجد جامع وكنيسة متواجهين, إلا أن الكنيسة تبدو أكثر نشاطا من المسجد الذى لا يشهد رواجا إلا فى ظهيرة الجمعة من كل أسبوع. إلى جانب كل منهما يوجد زقاق, أو شارع ضيق, جوزيف يسكن فى ذلك الشارع الضيق المجاور للكنيسة.

****

  تعرف زياد الشافعى على جوزيف نسيم قبل سنوات قليلة, يوم أتى جوزيف إلى الإستديو متأخرا أثناء تحضيرهم لحلقة برنامجهم اليومى فى ليلة من ليالى أكتوبر 2011. يومها دخل جوزيف مهرولا فاصطك باب الإستديو خلفه محدثا صوتا عاليا وجلبة كبيرة نبهتا الجميع إلى دخوله. كان يتصبب عرقا, جسده ينتفض, تنتابه رعشات متتالية متداخلة مع أنفاس متسارعة غير منتظمة وأصوات شهيق وزفير صادحة, عيناه جاحظتان ومثبتتان بالفضاء, قميصه الصيفى الكاروه ملطخ باللون الأحمر, وكتل من الدم المتجلط تلتصق بسطح حذائه المترب. أثارت هيئة جوزيف وحالته المزرية الرعب بقلوب الموجودين, فاندفعوا ملتفين حوله على هيئة دوائر متتالية وبينهم زياد الذى ظل فى الدائرة الأخيرة البعيدة. تدافعت على جوزيف الأسئلة من كل اتجاه دون أن يتلقوا منه أية إجابات, الكل يخمن, يعرض خدماته ويلقى بالاحتمالات, بلطجية؟؟ حادث سيارة؟؟ كوب من الماء؟؟ سرقة؟؟ نتصل بالبوليس؟؟ نأتى بالطبيب؟؟ اعتداء من الشرطة؟؟ وهنا انتبه أحد الموجودين سائلا بصوت قطع سيل أسئلتهم الهادر وقال" إنت كنت فى ماسبيرو؟؟"

 ومع إيماءة من جوزيف أو ربما رمشة جفن خاطفة, أدرك الجميع أن جوزيف بالفعل كان مشاركا فى المظاهرة التى نظمها الأقباط فى ذلك اليوم منطلقة من شبرا, حتى وصلت إلى مكان التليفزيون الحكومى بماسبيرو للتنديد بهدم كنيسة فى أسوان حيث هاجمتهم قوات الجيش على كورنيش النيل فى مواجهات دامية.

 بعدها بساعة أو يزيد, تم إلغاء الحلقة المقررة من البرنامج واستبداله بتغطية أخبارية للأحداث, وأثناء خروج الجميع إلى الشوارع المسكونة بالأرواح التائهة الباحثة عن طريقها نحو سماء حجبتها الظلمة الكاملة, عرض زياد على جوزيف الذى لايزال صامتا مدهوشا فاغرا فاه وعينيه أن يقلّه إلى منزله. قال له أن هيئته ستجلب له الشبهات خصوصا فى يوم مثل يومهم هذا.

  أثناء ركوبهما السيارة, بدأت عقدة لسان جوزيف فى الانفكاك, وكأن شيئا كان يمنعه من الفضفضة أمام الجموع, يمنعه من التعرى وإظهار جروحه أمامهم, ولكنه الآن يجلس شبه وحيد, مع ذلك الشخص دائم الصمت قليل الاهتمام, فلا مكان للخجل, ولا طاقة له كى يستمر فى سكوته, كان يحكى دون أن ينظر إلى زياد أو إلى غيره, لا تكاد تلمح حركة جفونه أو مرمى بصره, فى الحقيقة لم يكن يحكى له, ولكنه ظل يردد الكلام ويكرره, يعيد الجمل نفسها وكأنه يخشى أن ينسى, أو يخشى أن يتراكم الألم بداخله فينفجر صدره, ظل يكرر التفاصيل ذاتها مرة تلو الأخرى دون توقف حتى ارتبك زياد وخاف من أن يجن جوزيف. حكى له عن شاب سقط بجواره تحت عجلات مدرعة الجيش كاكية اللون, التى لم ترحمه ولم تتوقف حتى بعد أن سوّت صدره بالأرض, دهست جسده وتركت وجهه وحده سليما, رأس دون جسد, ثم حكى عن شاب آخر مشعث الشعر مطلق اللحية, تلقى صدره رصاصة أسقطته فورا وأردته قتيلا, كان يشبه السيد المسيح, هكذا وصفه جوزيف, وجهه يحمل الملاحة نفسها, الابتسامة الحزينة, والسماحة.

 أوصله زياد حتى شارع شبرا, وعلى ناصية شارع شيكولانى أشار له جوزيف أن يتوقف. صمت جوزيف وتوقف عن تكرار حكاياته المتتالية, نظر حوله لأول مرة منذ أن خرجا من الإستديو وكأنه يستيقظ من غيبوبة عميقة, عينه مليئة بالتعجب والاستغراب, شكر زياد بهزة من رأسه ثم سأله بصوت أحادى النبرة لا يحمل من المشاعر ما يتناسب ومعاناته, سأله لماذا يموت هؤلاء دون غيرهم؟ هل الموت عادل؟ هل لحياتهم قيمة حقا؟؟ هل من قيمة لأى شئ على الاطلاق, أى شئ ؟؟    

****

  فى اليوم التالى علم الناس جميعا بقصة الشاب الذى يشبه المسيح, كما علموا أن اسمه (مينا دانيال).

****

  تتبع زياد العنوان المكتوب على قصاصة الورق حتى وصل إلى شارع شيكولانى للمرة ثانية بعد مرور سنوات, صعد إلى الطابق الرابع, ودق على الباب القديم المتهالك. فتحت له إمرأة عجوز متشحة بالسواد, ذات عينين حمراوين ودموع تترقرق على سطحيهما. أدرك أنها والدة جوزيف, سألها عنه فدعته للدخول. شبّهت على ملامحه لدقائق ثم أدركت هويته, ربما غياب القناع المبتسم عن وجهه قد ضللها قليلا, تركته فى الصالون أمام كومة من الجرائد المتراكمة حتى تُبلغ ابنها بمجيئه, كانت الكومة كلها من أعداد جريدة (وطنى) الأسبوعية, قبطية النزعة, التى دأب جوزيف على الكتابة لها خلال سنين طوال بشكل غير منتظم.

  عادت والدة جوزيف إلى الصالون وأخبرت ضيفها أن ابنها منشغل فى حجرته ويدعوه أن ينضم إليه. رحب زياد, طرق باب الغرفة ودلف ليجد جوزيف ينشر مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية على سريره ويتوسطها متربعا, يجلس بين العديد من الألبومات المبعثرة والصور المتناثرة, صوره طفلا, أعياد ميلاد, سنوات الدراسة, رحلات الجامعة, بدايات العمل, وقصص الحب, صور مع شيرى وأخرى مع مريان, كلها مطبوعة على أوراق (فوجى) لامعة بمقاسات موحدة حيث أن جوزيف لم يتقبل الكاميرات الديجيتال الحديثة, وظل متعلقا بالكاميرات ذات الأفلام, وبعدما ينتهى من تصوير الستة والثلاثين صورة الموجودة بكل فيلم يذهب ليحمض النيجاتيف فى فوتو وهبة فى ميدان الجامع فى مصر الجديدة, والذى تعرف عليه بعد رحلة بحث شاقة عن معمل لتحميض نيجاتيف أفلام الأبيض والأسود العتيقة الخاصة بعائلته, حتى صار زبونا دائما وصديقا أحيانا.

   بادر جوزيف بالكلام, قال أنه بدأ منذ ساعات فى البحث عن صورة تليق بكروت سيطبعونها ويوزعونها يوم وفاته إحياء لذكراه, وكذلك كان عليه اختيار صورة أخرى, أو ربما هى نفسها, لتتصدر النعى الذى سينشرونه غدا فى الأهرام, ولكنه غرق فى بحور من الصور التى فرشها حوله ولم يستطع منع نفسه منذ ذلك الحين من تعقب صوره منذ الطفولة وحتى آخر صوره منذ أسبوع مضى. كان زياد قد رأى مع جوزيف سابقا كارت كذلك الذى يتحدث عنه, كان كارتا خاصا بذكرى والده, كارتا ملونا فى حجم الكف, من الورق المقوى, تتصدره صورة لوالده ببدلة كاملة وابتسامة خفيفة ومكتوب أسفلها بخط نسخ تقليدى ( بابا نسيم, الخادم والأب والمعلم, تذكار نياحته, يناير 2004).

  بحث زياد عن كلمات مناسبة لمواساة زميله دون فائدة, وخصوصا بعدما عاد جوزيف لترديد الأسئلة ذاتها التى رددها فى ليلة ماسبيرو عن جدوى الحياة ونهايتها, أضاف أنه بصحة جيدة, صدره سليم, فهو لا يشرب لا السجائر ولا غيرها, دقات قلبه قوية ومنتظمة, ليس مصاباً لا بأمراض الكبد ولا بالإيدز, فهو لا يمارس الجنس ولا يشرب الخمر, كما أنه لن يخرج من بيته الليلة, لن تصدمه سيارة أو تنفجر فيه قنبلة, وهو بلا أعداء ويخشى الخلافات ولذلك لن يقتله أحد, ولن يقع  بيتهم الليلة فهو قوى ومتين, " فلماذا وكيف أموت أنا بالذات الآن؟!"

 حوّل زياد مجرى الحوار وأشار إلى صورة لجوزيف بتى شيرت أحمر وبنطلون جينز فاتح وضحكة واسعة, كانت صورة مغايرة حيث اعتاد جوزيف على الملابس الكلاسيكية رغم صغر سنه, أخبره زياد أن تلك الصورة تصلح لكارت التنيح, ثم أضاف أن على الناس أن تبتهج حين تتذكره ولذلك فهو يرجح تلك الصورة. تعجب جوزيف من ذلك الاختيار ولم يعلق إلا بنظرة مستغربة.

 

  ظل زياد جالسا بصحبة جوزيف حتى استأذنت الأم فى الدخول وطلبت من الضيف بلطف نادر لإمرأة فى مثل موقفها أن يتركها مع ابنها فى ساعاته الأخيرة, فاستأذن زياد, ارتبك ولم يدر ما عليه أن يقول, احتضنه بشكل خاطف ثم رحل  بعدما أقنع جوزيف باختيار الصورة ذات التى شيرت الأحمر, البنطلون الجينز والضحكة الواسعة لكارت التنيح المنتظر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

قاص وروائي مصري، صدر له "رائحة مولانا" و"في مواجهة شون كونري" 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون