السيرة البندارية

موقع الكتابة الثقافي art
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 محمد  فرحات

ضاقت به الحياة، واستحال كل ما فيها إلى ما ينغص الصفو، ويفسد العيش، لا أنيس ولا حبيب ولا بارقة أمل في سعادة ولو عابرة.

تسلل في هدأة الليل، يسلك طَرِيقًا وَعْرًا غير مألوف، يبحث عن مخرج ما، امتد الطريق مُسْتَقِيمًا أمام عينيه النازفتين دَمْعًا، وللعجب كان مُنِيرًا بدون مَصْدَرٍ واضح للنور، لا شمس، ولا قمر، ولا إضاءة مصطنعة، لا مصباح، ولا نار، ولا قبسها، تلوح، من بعيد، أَسْوارٌ عالية، تخفي الكثير، وتظهر القليل من ذؤابات لقمم أشجار الكافور، والسرو، والجميز، والسدر، وغيره من أصناف الشجر المعمر العملاق، يسير ويسير أَزْمَانًا طويلة، لا يمسه نصب، ولا يطاله رهق، كأنما يَصَّعَد بكل خطو في السماء دَرَجًة، حتى وصل فإذا هو سور ممتد على مداد نظره، لا يصل لنهايته، ولا يظهر منه باب، ولا يلمح من بشر مُرْشِدًا يرشد، أو دَالًّا يشير، لا شئ  سوى وسوسات الريح، وحفيف الأشجار، ما عليه غير السير خلف الأسوار العالية لعله يصادف بَابًا يلج منه لما وراء هذه الأسوار المناطحة للسحاب.

***

يدور حول تلك الأسوار الشاهقة، بلا كلل، سبع دورات، وحينما يكملها إذا ببرق ينير الوجود بضوءه، وزخات مطر تنهمر لتغسل أدران جسده وروحه، لم تعد من ذكرى لكدر أو حزن، يغزوه الفرح.

 يظهر من بعيد قوي البنيان، عظيم الجُمَّة، يَقْطُرُ المسك من  مُنْسدِل شعره، نير الجبين، أبيض الوجه، مشرب الحمرة، شديد سواد العين، طويل الأهداب، وسيع الصدر، تملأ البسمة وجهه، يحتضنه ليغيب عن دنيا، ويلج دنيا لم تخطر من قبل على باله، يأخذه من يده نحو باب يظهر في السور،  لم يظهر إلا له، يشير نحو الباب، فيفتح  مُسْتَقْبِلًا، هو وراء شاهق الأسوار أَخِيرًا، لتغزو ألوان الورود وشذاها نواظره وأنفه، وتغريدات الطيور مسامعه، ليستحيل الوجود نغمة وترنيمة لا تنقضي، وكأن سطور التاريخ تُكْتَب من جديد، لتتوالى عليه المشاهد …

***

رجل عظيم الهامة، ضخم البنيان، قويه، أحمر الوجه صحة وعافية، ذو عمامة سوداء، تبدو عليه أمارات السيادة، والسطوة، والثراء، والحكمة، وكأنه يملك الدنيا بمن فيها، إلا أن علامات الحيرة واللوعة تغزو وجهه النبيل، حينما خاطب ولده والذي أخذ ذات صورته وزاد عليه شَبَابًا ومزيد نضرة، ألم تجده يا ولدي ؟ ..لا شغل لي غير البحث عنه، أخشى أن ينقضي العمر دونه، سأجده بإذن الله، أشعر أنني على مقربة منه، كان الوالد السائل هو العيساوي والولد المجيب هو ابنه السيد، يرتدي زي الأزاهرة، وكأنه سيغادر لتوه نحو معهده الأحمدي بطنطا. والحقيقة أن البحث عنه، وأمنية العثور عليه لم تعد فقط تَحْقِيقًا لرغبة والده الجليل الْمُلِحة، بل أصبحت من أحلامه وأمنياته التي لا تبارحه .

***

لم  يفتر لسانه، طوال رحلته لطنطا من بلدته شمياطس، عن ترديد ما أوصاه أبوه به من  أوراد ولما توقفت النجائبُ، لاحت مآذن، وقباب روضة السيد البدوي، تَطْوَّفُ الحَمَائمُ أَسْرَابًا تسابق بعضها البعض. والوقت قد أسفر عن فجر وليد، تُعْلِنُ تَكْبِيرَاتُ الصبح عن مولده.

تُسَارِعُ خطاه، مُعلنًة، عن مَيْعة صِّبا، وفورة شباب، تَنَشَّأ بين يدي أبيه الولي، الباحث من جديد عن درجة مريد لشيخ. لا يكف من ليلة إلى ليلة عن ملاحقة رُؤَاه، لم تلبث إلا أن تغزو ساعات صحوه، ثم خلجات نفسه وخواطره، من أين لك بشيخ وقد شخت ياعيساوي ودانت لك كل الطرق بالطاعة وأقرت بولايتك.

يدخل السيد الضريح الأحمدي، يحتضنه مُقْبِلًا، يُسر بأمنية اللقاء، فيجيبه بضَوْع مسك، كأنه قد فاح لتوه من جنبات الفردوس، مُبَشِّرًا بقرب اللقاء، ليهتف مجذوبًا، مُنَادِيًا “باب سيدنا النبي نظرة” .

على رأس حلقة علم جلس يوضح ما اسْتُغْلِقَ على فهم تلامذته، لين الكلام، بسام الثغر، نحيل الوجه، مثلث اللحية، مهندم الْجُبَّة، وسيم العمامة، كأنه من وجاهته ولد أحد الملوك، ومع جمال قسماته، كان مُهابًا وكأنه مَلِكٌ يجلس على عرشه. هو الشيخ محمود البنداري سليل البشوات والأولياء؛ من ملكوا الدنيا والدين، أصحاب الأحوال والكرامات وكذلك الضيعات، والعزب، والوزارات. كان وديعًا كحمامة استأنست لروضة البدوي، تبثه لَوْعَةً من صد حبيب جفا وتجاسر.

ينظر السيد له مُتَعَجِّبًا، كيف لم يره من قبل وقد نَيَّفَ ،في طلبه العلم بالمعهد الأحمدي، على الخمس سنين، وكأن الأرض قد أنبتته لسر، وأظهرته لغاية…

 -هل هو هو؟

ـ نعم، أنا هو ياسيد …

-اذهب لأبيك وبشره، فقد آن الآن، ولاح زمن الأولياء..أذهب وسوف نأتيك.

-كيف وأنت لم تعرف عُنْوَانًا ولا أمارة؟

 -اذهب يا سيد وسوف نأتيك…

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون