أحمد عبد الرحيم
لعب كلٌ من النجمين شون كونرى وروچر مور دور الجاسوس البريطانى وهمى الإمكانيات چيمس بوند فى 7 أفلام. لكن بينما جسّد كونرى الشخصية كعميل مخابراتى محنك، وقاتل لا يرحم، ارتاح مور للعبها كمحاكاة هزلية لجاسوس يعرفه العالم كله، مبتعدًا به عن جادة العنف، ومقتربًا به من أحضان الكوميديا.
سنة (1983) شهدت فيلمين لبوند؛ Octopussy والمقصود الأخطبوط، بطولة مور من إنتاج شركة “إيون” المتخصصة فى سلسلة أفلام بوند، وNever Say Never Again أو لا تقل لا أبدًا، بطولة كونرى وهو فيلم غير رسمى فى السلسلة ينتمى لشركة إنتاج أخرى، وفى الوقت الذى حقّق فيه فيلم مور نجاحًا فى أمريكا أقوى من نجاح فيلم كونرى، غلب فيلم كونرى فيلم مور فى الإيراد العالمى.
نعم، كونرى هو بوند الجاد، الصارم، العنيف، إنما مور أقرب لروح الشخصية؛ مجرد كاريكاتير مُبَالغ فيه للترفيه. لكن يبدو أن أغلب الجمهور لم يُعجَب بذلك، ولا يريد الاعتراف به من الأساس.
المؤكد أن مور اكتشف مبكرًا كون بوند شخصية كالقمر؛ لامع، مبهر، يتغزّل الجميع فيه، لكنه فى الواقع ليس إلا قطعة هائلة من الحجر الأصم، لا حياة فيها ولا يحزنون، لهذا – مثلًا – طالب مؤلفى السلسلة بكتابة العديد من الجمل الضاحكة على لسانه، وتقليل قتله لخصومه؛ ربما لرؤيته أن الوسيلة الصحيحة للتعامل مع حجر هى بمحاولة تخفيف وزنه، وتقليل حدته.
لذلك فى فيلم The Man with the Golden Gun أو الرجل ذو المسدس الذهبى (1974)، نرى المأمور الأمريكى يتعرّف على مور / بوند حين يراه بالمصادفة: “أنت هذا العميل السرى من إنجلترا!”، بينما الجواسيس “أناس بلا وجوه”؛ كما ردّد مور نفسه فى لقاءات تلفزيونية عديدة، متهكّمًا على بوند الذى لا يكل ولا يمل من تقديم شخصيته لكل الناس، فى جميع مهامه، باسمه الحقيقى: “اسمى بوند، چيمس بوند”!
كذلك ستجد أن مور أحب ظهور الممثل ريتشارد كييل أمامه فى شخصية القاتل المحترف Jaws أو “الفك المفترس” ضمن فيلمين لبوند، The Spy Who Loved Me أو الجاسوس الذى أحبنى (1977)، وMoonraker أو مكتسح القمر (1979)، رغم أنه أطول وأضخم منه، ويظهِره طوال الوقت ضعيفًا، بائسًا. لدرجة أن بوند لم يستطع هزيمته فى الفيلمين، وإنما غاية ما استطاعه هو مصادقته فى الفيلم الثانى!
بل إن فكرة السخرية امتدت من شخصية بوند إلى أفلام المرحلة أيضًا؛ مثل أفلام فنون القتال أو الكاراتيه، فى عز فورانها مع النجم بروس لى ببداية السبعينيات، ضمن فيلم The Man with the Golden Gun، لكن عبر مشهد قتالى تتفوق فيه فتاتان مراهقتان على مور! أو فيلم رعاة البقر الكلاسيكى The Magnificent Seven أو العظماء السبع (1960) الذى نسمع ثيمته الموسيقية فى Moonraker، حين تنكر بوند فى زى مشابه لأزياء أهالى القرية الضعفاء الذين أنقذهم أبطال الفيلم الأقدم! أو فيلم مغامرات الأدغال Raiders of the Lost Ark أو غزاة التابوت المفقود (1981)، حين نتابع مطاردة لبوند عبر الأدغال ضمن فيلمه Octopussy تحاكى مطاردات ذلك الفيلم السابق، بفارق أن مور حينما يواجه نمرًا، يأمره مازحًا: “إجـلـس” كأنه كلب بيت أليف!، وهى – بالمناسبة – كلمة أضافها مور للحوار، بل أن مور – فى ذلك الفيلم – يطلق صيحة طرزان الشهيرة حين قفزه من شجرة إلى أخرى! وغيرها من الأمثلة التى تشعرنا بأننا نتابع سلسلة محاكاة كوميدية لأفلام، وليست سلسلة أكشن / جاسوسية / خيال علمى!
ولك أن تتخيل أن الأمر فاض من أفلام مور فى السلسلة البوندية إلى أفلام مور خارجها؛ فعند ظهوره فى الفيلم الأمريكى الكوميدى The Cannonball Run أو سباق كرة المدفع (1981)، فى شخصية تتشبّه بچيمس بوند، وتسخر من أناقته، وثقته بنفسه، وعلاقاته النسائية التى لا تحصى—سرت شائعة تقول بأن منتج أفلام بوند، ألبرت بروكولى، ضم بند “عدم السخرية من چيمس بوند خارج أفلامه” لعقد مور مع شركته، ليسيطر على هذا الذى يمسخر الشخصية خارج أفلامها، ويقيده بالمسخرة داخل أفلامها فقط!
حتى حينما استضافه البرنامج الكوميدى الشهير The Muppet Show أو استعراض الدمى المتحركة، لم يفعل كما كل ضيوف ذلك البرنامج، ويظهر بشخصيته الواقعية، كالنجم البريطانى المعروف، وإنما ظهر كالنجم الذى يعمل جاسوسًا خارقًا “بعد الضهر”، ويشك أن الدمى تراقبه لحساب مخابرات معادية، وعندما تغويه دمية Miss Piggy أو السيدة خنزيرة، ينصرف عنها إلى خنزيرة أخرى؛ وهى عادة بوند فى هجر الفتاة التى يغرم بها فى فيلم، إلى فتاة جديدة تمامًا فى الفيلم اللاحق. لاحظ أن عقد بروكولى لم يشمل التلفزيون، ولاحظ – أيضًا – أن كونرى لم يظهر أبدًا فى ذلك البرنامج!
..باختصار، مور كان الأكثر صدقًا فى الاعتراف بتفاهة، وعَبط الشخصية (عَبط فى اللغة العربية معناها: الكذب المُختَلق)، بارعًا فى عرض جلدتها الحقيقية، ولا أدل على ذلك من تنكره فى ملابس وماكياچ “مهرج سيرك” فى فيلمه كبوند Octopussy! المشكلة أن من سبقوه، ولحقوه، مصمِّمون على التعامل مع بوند بجدية، تطوّرت للقتامة المُغرِقة مؤخرًا؛ وهو ما يضاعف المفارقة بين أصل مسطّح، مثير للتهكم، غايته التسلية وحسب، وصورة مزعومة العمق، خادعة الوقار، مفرطة الجهامة على نحو يناسب دراما لها معنى لم نرها إلى الآن!
…………………………..
نُشرت فى موقع عرب لايت – 14 يوليو 2018.