فيلم فريد يليه فيلم بليد!.. عن فيلم Inception أو الغرس (2010)

2 (1)
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
  • أحـمد عبد الرحـيم

بعد أن حقّق المخرج البريطانى كريستوفر نولان مجدًا طيبًا فى عالم السينما المستقلة بأول فيلمين روائيين طويلين له، Following أو أتباع (1998) وMemento أو تذكار (2000)، تم استدعاؤه للعمل فى مصنع الأحلام هوليوود. وهناك صار مثل ميداس، الملك الإغريقى الخرافى، كلما لمس شيئًا حوَّله إلى ذهب. حيث نجحت أفلامه فى الفوز بشباك التذاكر، ورضا النقاد معًا؛ سواء كانت Insomnia أو الأرق (2002)، Batman Begins أو بداية الرجل الوطواط (2005)، The Prestige أو التقدير (2006)، The Dark Knight أو الفارس الأسود (2008). لذلك لم يكن غريبًا عندما كتب وأنتج وأخرج فيلم الخيال العلمى والتشويق Inception أو الغرس، وأطلقه عام (2010)، أن يصاب الجميع بالهوس؛ فالمشاهدون تسابقوا على دخوله ليحظى بإيرادات وصلت إلى 800 مليون دولار، والنقاد تباروا فى كتابة المقالات المادحة فيه والدراسات المناقِشة له، وأكاديمية العلوم والفنون الأمريكية أمطرته بـ8 ترشيحات لجائزة الأوسكار. لكن بالنسبة لى، لم يصبنى أى من هذا الهوس. وإليكم الأسباب..

قصة الفيلم عن كوب، إخصائى التجسس التجارى، الذى يعمل بتقنيات متقدمة تمكِّنه من التسلل لعقول الآخرين خلال نومهم، واستغراقهم فى الأحلام، كى يسطو منهم على معلومات هامة، أو يغرس فيهم أفكارًا تفيد مصالح عملائه. كان كوب قد جرَّب أسلوبه هذا مع زوجته، ولكن على نحو عبث بلاوعيها، وهو ما أدى لاضطرابها عقليًا، وانتحارها بشكل ألصق الجريمة به؛ لذلك يعيش هاربًا من الشرطة، محرومًا من الحياة مع أولاده، مُقاسيًا ظهور طيف زوجته فى أحلامه لتقلبها إلى كوابيس. هذه الظروف تدفعه لقبول عملية صعبة يكلِّفه بها رجل الأعمال اليابانى سيتو، خاصة بغرس فكرة داخل عقل رجل أعمال شاب يدعى فيشر، إذ إن مقابلها هو محو قضيته تمامًا، وتمكينه من العيش وسط أولاده فى سلام. يجمع كوب فريقًا من خبراء الأحلام، ويصمِّم خطة معقدة تقوم على جمع فريقه مع هدف العملية، وتكوين حلقة تتيح لهم الدخول فى أحلام بعضهم، كى يفلت من مقاومة عقل رجل الأعمال، والذى حصَّنه الأخير ضد التسلل، وغَرْس أفكار غريبة فيه. وعقب معارك طويلة مع من يسميهم الفيلم “قوات المقاومة” داخل عقل فيشر، والذين يظهرون كحراس مسلَّحين، يستطيع كوب الوصول لنقطة الإقناع عند فيشر، لكن طيف زوجته يظهر فجأة، ويكاد يدمر كل شىء، فيضطر لمواجهتها، والاعتراف بمسئوليته عن انتحارها، حتى ينهى عمليته، وألمه الشخصى أيضًا، وهو ما يتحقّق فى النهاية، ليعود إلى أولاده، حرًا من الملاحقة الجنائية، ومتطهرًا من ذنبه.   

حسنًا، كانت هذه هى قصة الفيلم، فماذا بشأن الفيلم نفسه؟ إنه يبدو كخليط ما بين فيلم The Matrix أو المصفوفة (1999) للأخوان وارتشوفسكى، وفيلم  G.I. Joe: The Rise of Cobra أو جى. آى. جو: نشأة الكوبرا (2009) للمخرج ستيڤن سومرز. وكأنه تأثر بفكرة العالم المغاير لعالمنا، الذى يحوى منطقًا غير مألوف، من الفيلم الأول، والأكشن الصاخب، الكثيف لدرجة الضجر، من الفيلم الثانى!

ففى النصف الأول، هناك عالم جامح وآسر، لم نعهده فى السينما كثيرًا، مفعم بتفاصيل متميزة وجذابة لأحلام البطل ومن حوله. أما النصف الثانى فمريض بالفراغ والملل، لدرجة تحوِّله إلى فيلم أكشن تافه ومبتذل. يكفى إخباركم أنه عند مشاهدتى للفيلم فى دار العرض فى وقته، انتابتنى طوال النصف الأول حالة من الاندماج مع صور وأحداث وحبكة مقنعة، بعيدة عن العادى، وهو ما جعلنى مشدوهًا إلى حد السحر. أما فى النصف الثانى، الخاص بتنفيذ العملية، فتغلَّبت مشاهد إطلاق النيران، وزادت لتتجاوز الإفراط، ليفقد الفيلم مفعوله الساحر، وأجدنى أتثاءب، وأنظر فى ساعتى، وأسأل نفسى أسئلة من نوعية: “ماذا سأتغدى بعد انتهاء المشاهدة؟”، و”أى مواصلات سأركبها كى أعود لمنزلى؟”. بل إننى فى أثناء تتابع اقتحام القلعة الموجودة وسط الجليد بأحد الأحلام فى ذروة الفيلم، والذى إمتد على نحو مستفز، كافحت النوم بكل ما أملك من قوى. ناهيكم عن أن تصميم السيناريو كحلم داخل حلم داخل حلم داخل حلم (نعم، الفيلم يحوى ذلك!) الذى استهدف حالة من التشويق الاستثنائى، وعالمًا غرائبيًّا ذكى التعقيد؛ انتهى إلى مبالغة مضنية، واقترب من الإرباك والتحيير. 

هناك عدد لا بأس به من الأسئلة لا يهتم السيناريو بإجابتها. مثلًا، كيف يتعرَّض الأبطال لأخطار متوالية رغم أنهم يستطيعون بسهولة “تخيل” طرق متنوعة للقضاء عليها؟ كيف لمكالمة واحدة أن تقضى على قضية البطل، وتمحو تاريخه الإجرامى بأكمله؟! ثم إن الفيلم يصوِّر البطل كـ”چيمس بوند”، لديه الكثير من الإمكانيات الحركية (تأمل مراوغته للشرطة فى مشهد المطاردة بمومباسا)، بينما هو – وفق ما عرضه الفيلم – مجرد مهندس معمارى يحترف الجاسوسية، مستخدمًا العلم أكثر من العضلات؛ فمن أين له بكل هذه المواهب التى تناسب بطل أكشن لا يشق له غبار؟! مثل أفلام بوند، نجح التصوير فى دول مختلفة، كإنجلترا واليابان وكندا والمغرب، فى تنويع الخلفيات، لكن ليس فى تعويض مشكلات التأليف. على الرغم من تفوق تقنيات الفيلم، التى فازت بـ4 جوائز أوسكار فى فروع التصوير والمونتاچ الصوتى والمزج الصوتى والمؤثرات البصرية، فإن الفيلم يخسر فى منطقة الأكشن، بمشاهد حركة باردة وبلا مذاق (الحق أنى شاهدت ألعاب كومبيوتر أكثر سخونة وإثارة من ذلك!). ويظل ليوناردو دى كابريو، فى دور البطولة، غير مقنع على الإطلاق. إنه مجرد فتى وسيم يعمل مع مخرجين كبار، بدون موهبة جبارة أو أداء مؤثر، وقد تكون واحدة من مرات قليلة أتفق فيها مع محكِّمى الأوسكار عندما يرفضون منحه تلك الجائزة، رغم ترشحه لها 5 مرات حتى الآن!*

يمكن تلخيص جزء كبير من عالم نولان الإبداعى من خلال ثالث أفلامه القصيرةDoodlebug  أو يرقة النملة الأسد (1997)، حيث رجل تعذّبه مطاردة حشرة داخل منزله، تكاد تصيبه بالجنون، إلى أن ينجح فى ضربها بحذائه، ليكتشف أنها كانت صورة مُصغَّرة منه، وبعد لحظة، يتم ضربه هو بحذاء أكبر، تمسكه نسخة ضخمة منه! ذهب البعض فى تفسير الفيلم كمجاز عن تدمير البشر لأنفسهم، وانغماسهم فى الحروب، أو وضع الإنسان فى مجتمع طبقى يأكل فيه السمك الكبير السمك الصغير. لكنى أرى أن الفيلم يشير ببساطة إلى إيمان نولان بأن أهم صراع فى العالم هو صراع الإنسان مع نفسه، وأن مشكلة هذا المخلوق ليست مع آخرين، أو حتى مع قوى غيبية، بقدر ما هى مع ذاته. تذكَّر جيدًا كيف فى فيلمه تذكار (2000) يبحث البطل عن قاتل زوجته ليكتشف فى النهاية أنه لا أحد غير نفسه، وفى الغرس (2010) يعيش البطل صراعًا مع نفسه لقتله زوجته بشكل غير مباشر، وفى Interstellar أو واقع بين النجوم (2014) يتقصى البطل رسائل تجىء من عالم آخر، حتى يكتشف أنه هو الذى كان يرسلها من مجرة بعيدة فى زمن مستقبلى. يظهر من ذلك الفيلم القصير أيضًا حب نولان للعوالم المتوازية، وترى ذلك فى ذكريات الإنسان بين حاضره، وماضيه القريب، وماضيه الأبعد فى تذكار (2000)، أو أحلام الآخرين فى الغرس (2010)، أو الأبعاد الزمكانية المختلفة فى واقع بين النجوم (2014).

ولما كان صراع الإنسان مع نفسه فكرة رئيسية عند نولان، ستفهم لماذا يُعَد موضوع “الخلاص من الخطيئة المُلحَّة” أساسًا فى عدد من أعماله؛ حين يهرب بطله بشكل مستمر من ذنب ارتكبه، وضمير يؤرقه، حتى يجد الخلاص أخيرًا فى المواجهة والاعتراف. فبطل تذكار (2000) يهرب من قتل زوجته خطأ، وبطل الأرق (2002) يهرب من قتل زميل عمله خطأ، وبطل الغرس (2010) يهرب من قتل زوجته خطأ. بعض المخرجين مسكونون بهاجس الخطيئة المُهلِكة Mortal Sin؛ والتى ما إن يرتكبها الإنسان حتى يُحرَم من دخول الجنة. لكن فى العقيدة المسيحية، لابد من توافر 3 شروط لتكون الخطيئة غير قابلة للغفران؛ وهى أن تكون خطيرة، ويعرف مرتكبها ذلك عنها، ويرتكبها بكامل وعيه وإرادته. فى أفلام نولان المذكورة، يغيب الشرط الأخير بغياب القصدية، وهو ما يجعل الخطيئة عرضية Venial Sin، وهو ما يفتح الباب أمام البطل المعذَّب كى يتطهر بالإعتراف، ويفوز بالغفران، ويحظى بالجنة. وقد يكون من ضمن أسباب نجاح نولان جماهيريًا هو اختياره تلك النهاية السعيدة لأكثر من مرة، ففى نهاية الغرس، سواء كان البطل يحلم أو لا (أنا مع الرأى الثانى)، فقد نال خلاصه باعترافه أنه قتل زوجته دون قصد؛ ليتطهر والمشاهدون، ويعم السلام نفوس الجميع.

هناك نقطة هامشية لكن ليست عابرة، تختص باختيار السيناريو لغرض المهمة التى يُكلَّف بها البطل. فرغبة سيتو فى تفكيك شركة فيشر، إيقافًا لاحتكارها سوق الطاقة، هو اختيار موفَّق يحقِّق مصلحة شخصية خاصة بسيتو، ومصلحة عامة مثالية؛ باعتبار أن الاحتكار يتعارض مع عدالة توزيع الفرص، وهو ما يستميلك من زاوية أخلاقية كى تؤيد نوعًا ما عملية “النصب” المتطورة هذه. لاحظ – أيضًا – أنه لو كان غرض المهمة ضرب شركة ناشئة، أو تحرير شيك لمن لا يستحق، لكان ذلك مثيرًا للتناقض فى فيلم يتحمور خطابه حول “فعل الشىء الصحيح، وتنقية نفسك من آثامها”.

أحببت جرأة الخيال فى القصة، وإبداع الصور اللامعقولية داخل أحلام الأبطال. كذلك بعض جمل الحوار مثل “الألم يوجد فى العقل”، أو “من يحبون بعضهم يتشاركون فى الآلام نفسها”. إلى جانب الـCGI، أو الصور المولَّدة حاسوبيًا، التى دعمت الإبهار البصرى للفيلم، خاصة المدينة الوهمية التى عاش فيها البطل وزوجته حلمهما؛ سواء فى صورتها الأولى الرومانسية، ناعمة الألوان والتشكيل، أو صورتها بعد انتحار الزوجة، كأطلال رمادية موحشة، دائمة الانهيار. ويظل أفضل ما فى هذه الصور هو غياب الإسراف فيها؛ ذلك الإسراف الذى تعانيه أفلام اليوم، إلى جانب مدى إتقانها الشديد الذى أقنعنا أن البطل يتجوّل فى مدينة مهجورة حقيقية. كما تألقت موسيقى المؤلف الألمانى الأصل هانز زيمر، والتى عبَّرت عن العالم غير المألوف للفيلم، بكل غموضه وأخطاره، بأنغام بين العنفوان والغليان. من المفارقات أن مقطوعة Mind Heist أو سرقة عقلية، التى وُضِعت فى إعلان الفيلم وأحرزت شعبية واسعة، لم تكن من تأليف زيمر وإنما الموسيقى الأمريكى زاك هيمسى، وفيها تتصاعد كل آلات الأوركسترا فى ذروة تبدو كموجة عالية بلا نهاية، متعانقة مع صوت البوق العميق، الذى يتكرّر فى إيقاع مخيف كجملة رئيسية، وهو ما يجسّد عقدة الذنب التى لا يكف ضمير البطل عن تعذيبه بها، ويحيلنا إلى بوق نهاية العالم الذى ينبئ باندلاع القيامة وبدء الحساب.

Inception أو الغرس هو فيلم تجارى ممتع، لكنه على غير عشرات، بل مئات، من الأفلام التجارية الممتعة التى تنتجها هوليوود فى السنوات الأخيرة؛ جاء مختلف الجو، مُعقّد البناء، ومبنيًّا على أساس درامى جيد. لا شك أن نولان حشد لفيلمه عناصر التشويق والأكشن والخيال، وأقنع شركة الإنتاج الضخمة به (الأخوان وارنر)، ووفّر الميزانية الباهظة له (160 مليون دولار) وأحد نجوم الصف الأول، ودفعك إلى عيش تجربة فاتنة، ليحرز نجاحًا مهولًا حول العالم، وإن كان – فى وجهة نظرى – لم يحرز النجاح ذاته فى صناعة فيلم له معنى أبعد من إمتاعك. حيث كاد سُمك المظهر أن يُخفى الجوهر، وطغى الأكشن الكارتونى على المضمون الجاد. لذلك، يبقى “الغرس” عملًا ترفيهيًا به بُعد يثير الفكر، لكنه ككل يفتقد للتكافؤ؛ مع نصف أول فريد ونصف آخر بليد. وذلك ما يجعلنى – فى أحسن الظروف – معجبًا بالفيلم، لكن ليس مهووسًا به!

………………

*بعد نشر المقال بـ4 شهور، فاز دى كابريو بالأوسكار كأحسن ممثل عن الفيلم الأمريكى The Revenant أو المنبعث (2015) للمخرج إليخاندرو جونزالس إيناريتو.

*نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 46 / أكتوبر 2015.

مقالات من نفس القسم