رواية “صاحب السر” وسرديات المكان الديستوبي

صاحب السر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علي حسن الفواز

تأخذنا رواية «صاحب السر» للروائي عمار علي حسن إلى كشوفات ذهنية، تجسّ ثنائية الحياة والموت، وعبر استحضار لعبة سردية أرادها الروائي أن تكون مجاله النسقي لإدانة الخرافة، والسلطة والخيانة والخداع، فبقدر ما يحضر التاريخ في الرواية، بوصفه أحداثا، فإن مغامرة السرد تصطنع له أقنعة للمناورة، ولفضح ما هو مخفي في يوميات القرية/ المكان السردي، وتعرية ما يحدث تحت قشرة الواقع الاجتماعي والديني من صراع يكون ضحيته الإنسان الرائي والشاهد والمُدوّن.

العتبة النصية للرواية، توحي باشتغالات الروائي على ما توحي به «الأمكنة الدوستوبية» بوصفها أمكنة تمثيلية للحيوات الصراعية، أو بوصفها مجموعة دوال تختزل أزمة هويات شخصياته في تلك الأمكنة، وعبر توصيفاتها المشوهة، فالقرية، تشبه القبر، والصراع داخلهما هو اللعبة التي اتكأ عليها الروائي، للكشف عما يعانيه بطله من استلابات، تتبدّى مظاهرها عبر علاقته بواقعه المضطرب، والغائر في الفساد والخراب، وعبر شخصياته المشوهة التي تعاني من العلل الوجودية، ومن الإخصاء الجنسي النظير للإخصاء الأخلاقي.

استهلال العتبة التي اختارها الروائي، يؤسس لتحبيك قصدي، تتمثله سردنة الرواية، وتتأطّر عبره فاعلية تنامي أحداث الصراع فيها، حتى يبدو وكأنها محاولة للإيهام بكتابة نص للاعتراف الصادم، ولما يجري في عالم قريته الصغيرة، من علاقات شذوذ جنسي، ومن قتل، وسرقة وتسمم وتشويه سمعة النساء وتجارة مخدرات، فضلا عن معرفة بأسرار ما يدور من خفايا جنسية، تبدأ من معرفته بخيانة زوجتي العمدة، وشيخ الخفر، ولا تنتهي بمعرفته لولادة ابن العمدة من علاقة غير شرعية مع أحد اللصوص..

يحضر «مرزوق الحر» وهو البطل الراوي، بوصفه شاهدا، فيعيش هواجس شهادته الخرساء، وحيازته وثائق الإدانة، التي تجعله مهجوساً بالملاحقة، وبلوعة انكساره في علاقة حبه المُجهّضة مع حبيبته «حميدة» وهي ما تدفع «العمدة» إلى دفنه حيا، للتخلص من شهادته ووثيقته وإدانته، ليعيش داخل القبر رغبة عارمة للخروج والانتقام، لكنه يصطدم بحيوات يائسة ومرعبة داخل القبر، إذ تواجهه حبيبته الميتة بسؤال فاجع «لماذا تعافر من أجل الخروج، مع أن الدخول إلى هنا، هو خروج إلى البراح، والخروج من هنا دخول في الضيق الشديد».

يحضر «مرزوق الحر» وهو البطل الراوي، بوصفه شاهدا، فيعيش هواجس شهادته الخرساء، وحيازته وثائق الإدانة، التي تجعله مهجوساً بالملاحقة، وبلوعة انكساره في علاقة حبه المُجهّضة مع حبيبته «حميدة» وهي ما تدفع «العمدة» إلى دفنه حيا، للتخلص من شهادته ووثيقته وإدانته، ليعيش داخل القبر رغبة عارمة للخروج والانتقام، لكنه يصطدم بحيوات يائسة ومرعبة داخل القبر، إذ تواجهه حبيبته الميتة بسؤال فاجع «لماذا تعافر من أجل الخروج، مع أن الدخول إلى هنا، هو خروج إلى البراح، والخروج من هنا دخول في الضيق الشديد».

 في هذه الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية/ بيروت/2021 تجذبنا إلى معاينة الشخصية، بوصفها السيميائي الدال على أنموذج «المصري» الذي يعيش علل الجسد، وعلل الهوية، فضلا عن علله العميقة في الواقع الدوستوبي، بوصفه واقعا يتبدى عبر معاناة بطله السردي، وعبر شهادة احزانه وخيباته، وعبر مصيره الفاجع، الذي جعله الروائي «موضوعا» لتشييد ثيمة الصراع، بين قوى تصنع لها واقعا قائما على صيانة المكان، وصيانة الأسرار، والشخصية الضد التي يمثلها «مرزوق» بوصفه ممثلا لـ»الوعي الممكن» كما يسميه غولدمان، المسكون بشغف تقويض المكان، وفضح الأسرار، وبالتالي هتك السلطة الزائفة التي يمثلها «العمدة» وشيخ الخفر». استكشاف المجهول، وخرق النمط في الرواية، يدفع إلى استبطان ما هو داخلي، وتسريع بإيقاع السرد، عبر الإفراط في لعبة «التخيّل السردي» والانفتاح عليها كموجّه سردي، يكشف عنه حدس الروائي، وهو يتقصّد توصيف شخصية «مرزوق» وأزماته الوجودية والنفسية والجنسية، من خلال تقنيعها بقناع أيديولوجي يخصّ وعيها بالصراع، وبالموقف من «سلطة العمدة» ومن الأسرار التي يعرفها، ما يعني تمثيلها لسردية استنطاق المخفي من ذلك الصراع، حيث يتبأر فعل السرد من خلال ما يصنعه « مرزوق» وعبر ما تعيشه من «وعيٍ شقي» مفارق، قد يكون وعياً سلبياً، أو سوداوياً ومتعالياً، يرفض من خلاله فكرة «الموت الأيديولوجي» الذي تصنعه السلطة، فيصرُّ على بحثه عن الحياة، عبر مواجهة مأزقه الوجودي، الذي يتوازى مع وعيه المأزوم، ومع شهادته على سرائر ما يعرفه عما تُخفيه سلطة القرية، التي تفرض رهابها عبر تشويه الواقع، وفرض الجهل، وتغييب المعرفة، وزرع الخوف والتعمية في نفوس الآخرين

هذه الرواية، قد تحمل نزعة «إيقاظية» ومُستَفِزة، لكنها تُفضي من جانبٍ آخر إلى إحالاتٍ رمزية، فتُحيل إلى مرجعيات سياسية وأنثروبولوجية وحتى فلسفية، يتقارب فيها مصير «البطل» الواقعي، مع مصير البطل التراجيدي، كما في الميثولوجيات، من خلال تقصي صراعاته الداخلية والخارجية، فبقدر ما تبدو «الواقعية والإيهامية» واضحة في بنية الرواية الحكائية، فإن الروائي يغامر بتشظيتها، وجعلها أكثر نفورا، للتمويه على ما يجري في الواقع السياسي، حيث القرية والمقبرة بوصفها أمكنة سيميائية، وحيث العمدة ورجاله بوصفهم رموزا للسلطة، وهذا ما يجعل «الواقعية السحرية» تبدو وكأنها خيار سردي، لخلط التاريخي بالسردي، ولكي تكون سردنة «الواقع المأزوم» مشبوكة بسرديات ضدية، يتوازى فيها الواقعي مع المتخيّل، والنفسي مع الرمزي، بما يجعل من شخصية «مرزوق» المُبأرة قريبة من الشخصية الـ»دون كيشوتية» التي تواجه الواقع، عبر الفضح، وعبر السخرية منه، والتوهّم بتقويضه، والتموضع في مجرى غرائبي يُتيح للروائي ترسيم إطارٍ لعبته السردي، فتقوم على طاقة الكشف والتخيّل في آن معا، حيث يجعل من موت شخصيته الرئيسة الإيهامي دالاً رمزياً على موت الشاهد، والرائي، وعلى تمثيله في شخصية تراجيدية، تنخرط في ما يشبه المغامرة الملحمية، وفي اتجاهٍ حاد ومتوتر، يتبدّى فيه المصير الفجائعي والفنطازي، بوصفه تمثيلا للصراع، وتعرية لـ»المسكوت عنه» في عالم القرية، الذي قد يتشابه مع عوالم كثيرة في أمكنتنا العربية المليئة بالصراعات والأوهام والأضحيات، في الواقع وفي العالم الدستوبي الذي تمثله المقبرة برمزيتها ودلالتها الفاضحة.

 هذه الرواية، قد تحمل نزعة «إيقاظية» ومُستَفِزة، لكنها تُفضي من جانبٍ آخر إلى إحالاتٍ رمزية، فتُحيل إلى مرجعيات سياسية وأنثروبولوجية وحتى فلسفية، يتقارب فيها مصير «البطل» الواقعي، مع مصير البطل التراجيدي، كما في الميثولوجيات، من خلال تقصي صراعاته الداخلية والخارجية، فبقدر ما تبدو «الواقعية والإيهامية» واضحة في بنية الرواية الحكائية، فإن الروائي يغامر بتشظيتها، وجعلها أكثر نفورا، للتمويه على ما يجري في الواقع السياسي، حيث القرية والمقبرة بوصفها أمكنة سيميائية، وحيث العمدة ورجاله بوصفهم رموزا للسلطة، وهذا ما يجعل «الواقعية السحرية» تبدو وكأنها خيار سردي، لخلط التاريخي بالسردي، ولكي تكون سردنة «الواقع المأزوم» مشبوكة بسرديات ضدية، يتوازى فيها الواقعي مع المتخيّل، والنفسي مع الرمزي، بما يجعل من شخصية «مرزوق» المُبأرة قريبة من الشخصية الـ»دون كيشوتية» التي تواجه الواقع، عبر الفضح، وعبر السخرية منه، والتوهّم بتقويضه، والتموضع في مجرى غرائبي يُتيح للروائي ترسيم إطارٍ لعبته السردي، فتقوم على طاقة الكشف والتخيّل في آن معا، حيث يجعل من موت شخصيته الرئيسة الإيهامي دالاً رمزياً على موت الشاهد، والرائي، وعلى تمثيله في شخصية تراجيدية، تنخرط في ما يشبه المغامرة الملحمية، وفي اتجاهٍ حاد ومتوتر، يتبدّى فيه المصير الفجائعي والفنطازي، بوصفه تمثيلا للصراع، وتعرية لـ»المسكوت عنه» في عالم القرية، الذي قد يتشابه مع عوالم كثيرة في أمكنتنا العربية المليئة بالصراعات والأوهام والأضحيات، في الواقع وفي العالم الدستوبي الذي تمثله المقبرة برمزيتها ودلالتها الفاضحة..

مغامرة الكشف في الرواية تبدأ وكأنها مغامرة للفضح والمواجهة، فتقود البطل إلى المصير الأضحوي، حيث «التغييب» القصدي، وحيث الموت حياً بعد تعرّضه لنوبة الإغماء الكبدي، وإلقائه في المقبرة/ المنامة كما سمّاها الروائي، ليعيش أيامه الصعبة في البحث عن الحياة، وليجد نفسه في «دوستوبيا» غرائبية لا تقل غرائبية عن واقع القرية، فيجعل الروائي من هذه الثنائية مجالا للحفر عميقا، ولتعرية المخفي، والتعرّف على العالم الجواني للقرية التي يعرف كثيرا من أسرارها، والتي يتفاضح رعبها بعد وجوده في المقبرة، ولقائه مع حبيبته الميتة منذ سنوات، ومع عدد من الموتى، الذين كانوا ضحايا لسلطة عمدة القرية، فيكشفون له كثيرا من الأسرار والفضائح التي من الصعب على الأحياء البوح بها، وهو ما يستفزه على الرغبة للخروج إلى الحياة، لكي يطرد عنه الكوابيس والعفونة، ولمواجهة إحساسه بالنهاية، وتبديد «الحيرة التي تنهشه» كما يقول بطل الرواية.

 

قد تكون ثيمتا «التعرّف» و«الفضح» مدخلين لترسيم أبعاد حركة «صاحب السر» في دلالته الموجَهّة لفكرة حيازة السر، وفي تمثيله لما هو رمزي في «أسطورة برومثيوس» الذي سرق سرَّ نار الحكمة/ المعرفة من الآلهة، حيث تتبدى محنته الوجودية والأسطورية بعد سرقة أو معرفة «الأسرار» التي جعلته ملعوناً، ومكشوفاً إزاء رعب ما يقوم به رجال سلطة القرية.

الطفل «مرزوق» قاده قدره لمعرفة هذه «الأسرار» من خلال عمله في محل أبيه الخياط، لينصتَ إلى حكايات غريبة وفضائح أغرب، لها علاقة بانحلال نساء القرية، وبما يقوم به الرجال من أعمال مريبة، كما أن دراسته للقانون جعلته «المتعلّم الأوحد» في القرية، ليكون مرجعها في حفظ أسرار الرجال، وفي التعرف على خفايا ما يكتبون في أوراقٍ ووثائق مزورة، وما يتورطون به من السرقات، ومن السحت الحرام والأفعال الدنيئة، وربما بإخفاء جرائم غامضة شاهدتها مقبرة القرية..

سيرة مرزوق هي السيرةُ الضدية لعالم القرية المعقّد، إذ يكشف وعيه القلق عن أزمته الداخلية، وعن علاقة هذا الوعي بقلقه الوجودي، وبهاجسه في الشهادة على ما يحدث داخل واقعه المأزوم، وعبر توظيف ثنائية بنية التوازي الصراعي، بين ما يجري في داخله من اضطراب، وما يجري في خارجه من أحداث تقود إلى خيار دفنه وهو حي.. هذا التوازي الصراعي هو الأكثر تعبيرا عن حيوية «التحبيك» السردي، في الرواية، على مستوى ربطها بتمثيل أزمته الوجودية والجنسية، أو مستوى ربطها بتمثيل محنته الجنسية مع الجسد العليل، ومع الواقع العليل، وبما يجعل محنته كبطل إشكالي، وكأنها توحي بمحنة «المواطن المصري» الذي يواجه رعب الجسد، وانسحاقاته الداخلية، مثلما يواجه محنة علاقته المضطربة مع الواقع، ورموزه الحمائية، العمدة برمزيته السياسية، وشيخ البلد برمزيته الأمنية.. هذا التعالق الترميزي هو الكاشف عن المفارقات السردية، وعن تشفيرها الدلالي، في الإحالة إلى ترميزات مجاورة، إذ تقترح لعبة السرد تلبيس بطل الرواية بلبوس نظيرة، يمكن أن تناظر ما يُتجسّد في معاناة المثقف العربي، وفي تغريبته داخل المكان، وفي رهاب رؤيته وكشوفاته، للتورية على ما يتبدّى في الواقع، وفي طبيعة علاقته الإشكالية مع السلطة بحمولاته المتعددة، التي تكشف عن ضعفه وتوتره وهشاشته في مواجهة الرعب الذي يصنعه رجال القرية/ رجال السلطة.

سردنة السيرة كما يراها صاحب رواية «السلفي» لا تقترح تاريخاً سيرياً لشخصية بطله، بل إنها تعمد إلى تأطير هذا التاريخ في حدود علاقاته بأمكنة السرد، حيث دكان الأب الخياط، وحيث عالم القرية الغرائبي، وصولاً إلى المقبرة، وهي أمكنة متوازية، فعالم القرية هو دوستوبيا الواقع، وعالم المقبرة هو دوستوبيا الموت، وما بين المكانين في توصيفهما الواقعي والأسطوري يتصاعد الصراع بوصفه تمثيلا لصراع الإنسان في عالم متوحش، إذ يجد البطل/ المثقف/ الكاشف نفسه وحيدا، مُستَلباً، أضحوياً، لا يصطنع له الروائي بطولةً ما، بل يتركه لهشاشتهِ التي تنتهي به هارباً ومجنوناً من المقبرة، وكأنّ هذه النهاية السوداوية هي التمثيل التراجيدي لنهاية البطل المخذول في واقعنا العربي، الذي لا يختلف شيئا عن المخفي في عالم المقبرة.

……………………

*كاتب وناقد عراقي

*نقلا عن “القدس العربي”

مقالات من نفس القسم