قراءة في رواية إلياس لأحمد عبد اللطيف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

د.خالد أبو الفتوح*

تفرض رواية إلياس لأحمد عبد اللطيف عالمها الخاص بها منذ الوهلة الأولى، فأي مقاربة لها خارج قوانينها الخاصة جدا ستبوء بالصدمة الدائمة وانعدام التواصل معها، فلقد آثر الكاتب أن يخوض مغامرة هائلة في جرأة يحسد عليها تاركا خلفه تراثا هائلا من السرد الذي اتبع التقليد أو حتى الإبداع والمغايرة ونسج طريقا متفردا مضادا للذائقة كما كنا نعرفها قبل إلياس، وانطلق في مغامرته الجديدة إلى أقاصي الاحتمال فشخصيته الفريدة إلياس فرضت إلياسيتها على الزمن والتاريخ واللغة بل وعلى الفانتازيا نفسها فالأسطورة خروج على المنطق والواقع لكنها يكون لها منطقها الخاص بها وتجانسها الداخلي الذي يشعرنا بوجودها الحقيقي خلف الواقع وأحيانا هيمنتها عليه لكن الفانتازيا هنا تخرج أيضا على منطق الفنتازيا وتنسج كوابيسها الخاصة بها فمن كابوسية الأشخاص إلى الأحداث إلى اللغة نفسها وانتهاك ضمائرها وفواصلها وعلامات ترقيمها ومن شكوك ووساوس وهواجس  في بداهة الأشياء وكأننا نتعرف على العالم من جديد في انقطاع تام عن المعرفة والذاكرة والذائقة التي تراكمت عبر المسيرة الإنسانية بل الرؤية هنا تتم من خلف زجاج تتباين كثافته  وكأننا موتى نرى الأحياء أو أحياء نرى الموتى ولا بد هنا أن تصير لنا نفس سيكوباتية كإلياس ولسان مع ضلالات بصرية وسمعية وذهنية فلا نجد التكرار تكرارا ولا نشعر بالملل من الملل فاللامعقول يكون وحده هو المعقول .

اللغة في إلياس تفرض نفسها بقوة فالجمل تتداعى في أسلوب توليدي يدور على نفسه  والتوليد  هنا يؤدي إلى العقم مما يحدث توترا شديدا لدى المتلقي الذي يتحول إلى مريض بالفصام مثله مثل إلياس والنقاط تلعب دورا فاعلا كما لم تفعله نقاط من قبل وكأنها أصبحت كلمات مضادة خفية تقود ما يتولد من معنى في منطق لا يبحث عن معنى بل لا يعرف ماهو المعنى ولكي نتعرف على ما يبوح به إلياس بشأن اللغة فلا سبيل أمامنا إلا إن نستمع إلى إلياس :

لغة إلياس

(…بنقاط الحروف التي في شكل دوائر. بضمائر المفعول الغائبة من لغتي بضمائر الملكية التي تسعى للغياب من لغتي. بالتنوين وأنا أسعى للتمرد على التنوين. بالفصلات الغائبة. بالفصلات المقصية. بالفصلات وأنا أحاول أن أقصي الفصلات. بالنقاط الكثيرة. بالنقاط الكثيرة التي تحل محل الفصلات. بالتكرارات التي تميز أسلوبي…) إن الفواصل عند إلياس تمنح أملا وتخلق نوعا من التوقع  لذلك يستخدم النقاط دائما  (لغتي سيئة. سيئة جدا…) (…لغتي التي تنبذ الفصلات) ( أنا أحب العبارات. العبارات القصيرة. القصيرة جدا. وأحب النقاط. النقاط التي تفصل بين العبارات. العبارات القصيرة. لكن لا أحب الفصلات. الفصلات محايدة على عكس النقاط. النقاط قاطعة. الفصلات تمنح أملا. أملا بعبارة مكمّلة.)

إلياس النبي وإلياس الإنسان

في تصدير الرواية مفتتح عبارة عن حديث أن أربعة أنبياء أحياء اثنان في الأرض : إلياس والخضر كذلك في ختام العمل حديث آخر عن النبي إلياس ولقائه بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وإخباره أنه لا يأكل إلا مرة واحدة في العام وبنزول مائدة عليهما من السماء

وهنا يتجلى اختيار الاسم فإلياس هنا النبي الحي كما الخضر وقصته الشهيرة مع سيدنا موسى فالخضر يرمز له بالباطن ويرمز له بالتصريف في القدر بأمر من الله بينما إلياس في الرواية هو الإنسان فهو الموازي الظاهري لإلياس الباطني ودارت رواية إلياس الإنسان بين دفتي حديثي إلياس النبي لخلق هذا التباين وإظهاره وإحداث الجدل بين البشري والمقدس الذي يتردد حوله التاريخ الإنساني

الأرشيف الضخم

هناك مرتكز هام أيضا في الرواية وهو الأرشيف ( بيتي أرشيف. أرشيف كبير. أرشيف ضخم) (لا أعرف شيئا عن تاريخ الأرشيف) ( لا أذكر أني كنت في هذا التاريخ. لا أذكر أني كنت بطلا لحدث في هذا التاريخ) (أعيش محاطا بتاريخ ينتمي لي.بتاريخ لا ينتمي لي)

الأرشيف الضخم هو التاريخ الذي ينتمي له إلياس ثم لم يعد ينتمي إليه فقد مُنح لسانا غريبا (لسان الغريب أصبح لساني. لساني الذي يعبر عني ولا يعبر عني) (اعتقلت لساني. اعتقلت لسان الغريب في فمي. منعت الهواء عن لسان الغريب) واللسان الغريب هنا مقرونا بتاريخ 1954 الموقع في نهاية الفصل والذي يذكرنا ببداية سيطرة النظام الناصري العسكري علي البلاد ولكن الأرشيف ليس مجرد حقبة تاريخية قريبة فقط فقد يكون معاصرا جدا مثل الفصل المذيل بتاريخ 2013 في القاهرة حيث يتحدث عن قبطان في قصة عن مركب يغرق والقبطان يظهر هنا القائد الملهم استثنائي البصيرة يفرض سلطته الأبوية على الركاب ( القباطنة أول الناجين على عكس ما يقال. والمسافرون هم الضحايا. ضحايا للقباطنة)( القباطنة يتخلون عن الجميع) (القباطنة لا يمنحون حرية الاختيار) ويوضح أيضا إلياس أنه يعيش سجينا داخل أرشيف وأنه لا يحب التاريخ الرسمي

( السلطة تكتب التاريخ الرسمي.وأنا لا أحب السلطة)( أحب كتابة تاريخ الأفراد لأني فرد. فرد مهزوم.فرد يتغذى على الهزيمة.فرد يتوارث الهزيمة) ثم يقدم لنا مشهدا يحدث في المستقبل سنة 2052 هو ورفيقته يدخلون سينما تعرض فيلما عن مدينة تجمع هياكل بشرية وخالون من الأعضاء الداخلية تماما مثل أهل مدينتهما التى ذهبا إليها وكأن المستقبل يتهكم علي الحاضر الآن الذي يحيا فيه إلياس هو ورفيقته ويذهب هو في النهاية إلى العطار حيث لا إنسانية الصيادلة في مدينة الهياكل البشرية.

ثم يعود فيتحدث عن ظهور الغريب في فصل مذيل بتاريخ ينتمى لفترة الفتح الإسلامي لمصر في مدينة الفسطاط 641 وهو من قبل تحدث عن لسان الغريب كما سبق يقول (في هذه اللحظة صرت أنا الغريب. وصار الغريب إلياس) وأهل المدينة أحبوا الغريب الذي صار قريبا ومنحوه اسم إلياس وأصبح إلياس:( لم أكن شيئا. كنت أبدو كشبح.كطيف.كنت أبدو مكملا لإلياس) والغريب لم يكن ملاكا في النهاية وكان يخوض الحروب ويشاهد المجازر ويقسم الأراضي وفجأة اختفى الغريب في نهاية الفصل لكنه ترك أبناءا من أمهات كثيرة

ثم يعود بنا إلى غرناطة حيث الأندلس وذروة الحضارة العربية الإسلامية والتعايش بين الأديان هناك وفجيعة سقوط الأندلس فمرة يستحضر لوركا ومقتله في سنة 1936 بما يحمل من دلالات متعددة يفصلها في هذا الفصل في جدلية فنية جميلة  وينتقل إلي فصل يستحضر الحروب الصليبية من خلال غرناطة  في سنة 1610(صلبان متجاورة.صلبان كبيرة.صلبان لا تعبر عن المسيح بقدر ما تعبر عن الملك) (مدينتنا التي كانت مسلمة. مدينتا التي لم تكن مسلمة.ثم صارت مسلمة.مدينتنا التي لا أعرف لماذا أصبحت مسيحية.) (أبحث عن ساقي المبتورة.أبحث عن ساقي في مركب.في مركب يعبر بي إلي الضفة الأخرى.إلي ضفة البحر المتوسط الأخرى.في مركب وبصحبتي المئات الذين ينظرون إلى الضفة المهجورة كمن ينظر إلى أحلام مجهضة. إلى بيوت مهدومة. إلى أطلال.وأنا أيضا كنت أتطلع للضفة المهجورة.لماذا أنكر أني كنت أتطلع للضفة المهجورة.)

إلياس الكاتب والممثل:

استعرضنا من قبل لغة إلياس وقوانينها الخاصة وهو عبر الرواية يقول أراؤه الفنية حول الرواية والقصة وحول الفن (دع يا إلياس المشاهد تسيل كما الحياة.لكن الحياة ليست الفن.الفن انتقاء لقطات من الحياة. الفن إعادة صياغة الحياة) ( كتابة القصص تمنح الحياة بعدا آخر.) والقصة تقرأ الواقع. الرواية تقرأ الواقع. الرواية تقرأ الواقع بشكل أشمل.تقرأ الواقع من كل جوانب الواقع. الرواية تفكك مفاصل الواقع.) (لكني لا أكتب الرواية .لا أستطيع كتابة الرواية. وأكتب القصة. أكتب القصة لأقرأ الواقع)

إن إلياس يكتب تاريخ الأفراد الذين عاشوا عبر الحقب الماضية في الفسطاط وفي القاهرة المعاصرة في 54 وأيام نكسة 67 وحرب 73 وحرب العراق وفي حقبة مبارك المليئة بالفساد السياسي والاقتصادي وفي الماضي الأندلسي القديم والحديث إنه يعيش سجينا لهذا الأرشيف الضخم الذي ينوء بحمله ويبحث عن هويته الحقيقية إنه أسير الماضي أسير الهزائم المتتالية إنه الإنسان المصري المعاصر المطحون والعربي الإسلامي الذي ينظر إلى أطلال حضارته على الجانب الآخر من المتوسط إنه الإنسان في كل زمان ومكان الباحث عن الحرية والمظلوم والمسحوق في عالم يسوده الفساد والطغيان .

إلياس أيضا الممثل الذي يقوم بدور ثانوي على مسرح الحياة والمخرج القدري هو الذي يتحكم في أحداث العمل وفي توزيع الأدوار (بطل الفيلم هو المعنى.المعنى المختبئ وراء كل شيء .وراء الحدث تحديدا).

يشخص إلياس سبب فجيعته في الأندلس أنه كان يسير للأمام ورأسه للخلف أو كان يسير للخلف ورأسه ملفوفا للأمام بساق سليمة وساق عرجاء (في مكان ما من النفق كان ثمة نور.ثمة نور ولا أعرف من أين يأتي النور.لا أعرف من أين يأتي ولا أعرف نهاية النفق) الغرباء جاءوا إلى غرناطة غزاة بالرمح والدرع والسيف يرفعون الأهلة ويدعون للجهاد والغرباء يتقدمون بالخيام التي تصبح بنايات وقصور ومساجد ودواوين ومدارس لكنها شيدت فوق أرض المعركة.

الخلاص

إلياس يضيع فرصة للخلاص حين أتته المرأة الجميلة (الطبيعة تهيأت من أجل سعادتك يا إلياس. الطبيعة أمرت المرأة الجميلة أن تقترب من إلياس. الطبيعة أمرت السماء أن تفتح باب الأمطار من أجلك يا إلياس) (الجميلة قالت أمنح نفسي مقابل مشاعر) لكن إلياس لم يعد لديه مشاعر ليمنحها وبدلا من معانقة الجميلة في فعل خلق وإخصاب  قام بتخيلها والاستمناء على مؤخرتها في جدب وعدم لذلك لا بد لإلياس أن يجازف ويخاطر فالحياة هى المخاطرة لا يكتفي بأن يكون في المؤخرة دائما  

يبدأ إلياس في اكتشاف خلوده فالفرد المشخص فانٍ بينما الإنسان المطلق خالد فهو الذي عاش جميع التواريخ ومات وعاد من الموت ودوّن التاريخ الحقيقي للإنسانية وليس التاريخ الذي كتبه المنتصرون ولذلك تظهر له المرأة الجميلة مرة أخرى تمد يدها إليه لكي ينهض من كبوته وتخبره أنه عاش أسير أوهام وضلالات فهو ليس بساق مبتورة كما يعتقد إن المرأة الجميلة شاهدة على المنجز الإنساني عبر العصور فالإنسان ليس كما يعتقد مبتورا فقد حقق المعجزات ويستطيع أن ينهض وهنا ينظر إلياس إلى جاره الذي أطلق الحمام (الحمام ينال الحرية ويعود للسطح من جديد .الحمام يفكر أن الحرية أن يعود للغية من جديد .أن يعود للغية بمحض إرادة الحمام) (الحمام خرج ولم يعد .لأن الحمام اكتشف أفقا آخر.اكتشف احتمالية البقاء في أفق آخر.اكتشف لأن الحمام ضجر من الغية. لأن صاحب الحمام لا يقدم جديدا للحمام.لأن الروتين يقتل الحب.يقتل الإيمان.يقتل الحياة) فيقرر إلياس الانتماء إلى أرشيفه لكن بعد أن يفهم مغزى قصة متاهة الحمام ويعيها جيدا فالخلاص في الحرية والإرادة الواعية الخلاقة.

………………..

*شاعر وكاتب مصري

 

مقالات من نفس القسم