رواية “بيـت السناري”.. سرد نابض بالحياة يعانق التاريخ والخيال

بيت السناري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فرج مجاهد عبد الوهاب

     بخطى فنية واثقة وموثوقة، ومكانة إبداعية متميزة، وتقانة سردية متدفقة قائمة على لغة حكائية واضحة المعالم، بينة الدلالات، يتابع الروائي المتألق “عمار علي حسن” مشروعه الروائي الذي أفرز مجموعة من الروايات المبهرة والقصص القصيرة المتألقة إضافة إلي ما أبدعه في الكتابات النقدية والاجتماع السياسي والتصوف بمنظار عقلاني واعٍ ومؤثر.

     يتابع شغله على الرواية التاريخية المتحركة في ضوء أحداث كبرى تشكل مفاصل أساسية في مسار الأمم والدول تسعى إلي إحياء روح الشعب وإنعاشها، فتنزل الشخصيات والأحداث في فضاء زماني ومكاني قوامه المشاكلة التي تمنح قارئها فرصة لأن يدرك وقائع ما وقع في زمن مضى، وما ترتبت عليها من نتائج لها علاقة بالوطن والمجتمع والشعب، كاشفة عن أهمية هذا الجنس الإبداعي في الحراك الروائي العربي المعاصر.

     من منطلق هذه الأهداف السامية، غاص مبدعنا في أوراق التاريخ المصري، والتقط بنباهة واعية إحدى الحكايات المنسية في تاريخ مصر “لم تأت الكتب والحوليات على ذكرها إلا عبر سطور قليلة، فنفخ فيها الكاتب من خياله، وحصيلة اطلاعه، وفهمه لتأثير الماضي في الحاضر، ليُبدع من كل هذا سردا فنيا واعيا ومنطقيا تعانق التاريخ فيه الفن، وتضافر الجمال مع المعرفة في إطار رواية لافتة وملفتة حملت عنوان “بيت السناري” لتحظى بجائزة الطيب صالح الإبداع الكتابي، وصدرت بعدئذٍ عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة عام 2016م.

     والبيت في الرواية ليس مجرد فضاء مكاني محدد بصيغته وصفاته العمرانية وإنما هو عنصر من عناصر الفضاء المرجعي لرواية النص بوصفه مقوما من مقومات القص ولذلك كان أبعد من ركن أو مكان أو بيت ليحمل إلي العنصر التاريخي متحولا إلي مشروع خطاب تتجلى فيه دور البيت كمنزل، وتاريخ ومعلم أثري وحضاري مازال موجودا كشاهد ناطق على تاريخه ودوره ونظام معماره مما ساعد المقوم الخطابي على توصيفها بالشكل الذي يسهم في تحليل بنية ذلك المكان ومكانته التاريخية والأثرية، كما يكشف عن مضمونات الأحداث التي توفرها اللغة ونظامها الدلالي والخطابي مما يمنح التحليل السردي أهميته الخاصة في بناء دلالة بيت السناري الذي بناه “إبراهيم كتخدا السناري” الذي ضمه مع زوجاته وجاريته “زينة” التي كانت أهم شخصية سواء على مستوى البيت الداخلي أو خارجه أو دورها في تفعيل الأحداث وما قامت به من أجل الحفاظ على سيدها “السناري” الذي لم يكن في الواقع كما صرّح “أنا عبد جلبني تجار الرقيق عنوة، وباعوني في سوق الجلابة بثمن بخس لأني كنت نحيلا وصفرتي تغلب سمرتي لدرجة أن من اشتراني ظن إني مريض بالطاعون، فأعادني إلي التاجر واسترد ما دفعه، فأبقاني الأخير ثلاثة أشهر، أجبرني فيها على أن آكل فوق طاقتي، ولما سمنت باعني بضعف ثمني الأول، لكن سيدي رأى مني أشياء عجيبة فأطلق سراحي” ص52، أما زينة فهي جارية قتل المماليك والدها غرقا في النيل “أغرقوه في النيل، غرسوا رأسه في الطين الخفيف، رفرف كفرخ حمام مذبوح، ثم سكن بلا حراك” ص16، وهي لا تنسى يوم أمسك بها أحدهم وهي مكورة كقنفذ وأخذها من ضفيرتها، ورماها في الشارع ثم سلمها لواحد من كبار مماليك “مصطفى بك الكبير” فأهداها إلي سيده ثم تم إهداؤها إلي السناري فعاشت معه أكثر من جارية فهي كلما خلت إلي نفسها تقول في سرها: “أنا أعشق هذا الرجل، وتكرر قولها وهي تغتسل بعد المضاجعة التي يتحول فيها إلي شخص غريب تمتزج فيه الرجولة الطاغية بطفولة غضّة، ويلهو معها كطفل قد شُغف بلعبةٍ لا يريد أن يبرحها” ص7.

     وينادي المنادي “الفرنسيس على باب القاهرة والناس يتجمعون في الساحات، والدهشة أن مراد بك لم يرسل في طلبه، ليقول له في نبرة تمتزج بالرجاء افعل شيئا ص13

 كان واثقا إنهم سيلجئون إليه، في الوقت نفسه كان “حسن جعيدي” الناقم على السناري لأنه أخذ حبيبة قلبه وطفولته زينة فجلس ينتظر اللحظة المناسبة ليقتله بخنجره المسموم يمضي السناري إلي قصر مراد بك ثم يأتي من يحمل رسالة للسناري من الفرنسيس يدعونه كي يقف إلي جانب الجيش الزاحف نحو القاهرة كما تضم تعهدا من كبير الفرنسيس للمصريين بأن لهم الأمان والحرية وعليهم التخلي عن نصرة المماليك. ص35

 ورأت أنه لابد لهذه الرسالة أن تصله قبل أن يتورط، وقوفها مع الرسول المغربي وحديثها الجانبي معه أثار حفيظة زوجات السناري ونساء القصر وأدركت زينة ما يدور في رؤوس النسوة لكنها كانت واثقة من نفسها وتعرف أن سيدها لا يمكن الاستغناء عنها فدخلت غرفتها ولبست ثياب الرجال وحملت الرسالة وخرجت إلي القصر لتسلم سيدها الرسالة ومن الباب تعرف إنهم جميعا ذهبوا إلي “قصر التين” وهناك تدعي أنها رسول إلي إبراهيم كتخدا السناري وبعد أن تمنحه ما يرضيه من المال يعود ويخبرها إن إبراهيم بك متواجد الآن مع بكر باشا في غرفة مغلقة ولا يجرؤ أحد على أن يدخل إليهم مهما كان. ص43

 فتعود بعد أن تفشل في مهمتها وكانت تقول في نفسها: “سيعود سيدي غدا أو بعد غد وسيقرأ الرسالة وستنفتح أمامه وأمامي دنيا جديدة” ص49.

     ويتوارد الناس خبرا بأن السناري ذهب مع مراد بك على رأس جيش لملاقاة الفرنسيس في إقليم البحيرة وتنقطع أخباره وتغرق زينة في القلق، وتسمع خادما يقول: هُزم مراد بك في “شبراخيت” وتقهقر إلي المحروسة وتشعر زينة أن الدائرة اتسعت وان اللاعبين كثر، ومن تجز رقبته لا يعود أبدا، ويشتعل في نفسها سؤال: هل جزّ أحد الغرباء رقبة سيدي؟ ص67، ولم يسأل أحد عن انكسار جند المماليك في عمق الصحراء وتراجعهم للاحتماء بالناس في القاهرة. ص71.

     وكان حسن جعيدي واحدا من الذين ينتظرون فرصة دخول الفرنسيس إلي المحروسة عسى أن يستعيد زينة التي عشق روحها وخطفه جسدها فاكتملت متعته وعذابه، لقد سُرقت منه زينة بينما كان خارج الحارة، فأهمل شغله وكان يذهب ليجلس طيلة النهار قبالة قصر مصطفى بك علها تطل من إحدى نوافذه! وعندما بنى السناري بيته انتقل إلي مقهى قريب من البيت وراح ينتظر ويسأل نفسه للمرة الألف “أتكون نسيت كل شيء؟! اسمي وملامحي والحي الذي أعيش وعاشت فيه؟ لكنه لم يقتل الرجاء، واستعاد ما كان بينهما من مواقف عابرة، وحفر فيها حتى بلغت عمقا كافيا لابتلاع روحه وجسده” ص87.

     وتمر زينة من أمامه وتعرفه وتسأل نفسها: هل كان حقا يحبني، ولكنها أحبت السناري الذي عشقها وأنساها همّ السنين ويصل إليه خبر بأن أولاد الهرمة الفرنسيس دخلوا المحروسة وقد نهبوا بيوت التجار وقصور الأمراء وشرد حسن فيما سمعه، وقال لنفسه “ربما دخلوا بيت السناري هذه فرصتي لأرى محبوبتي القريبة البعيدة، ويمكن أن تكون بحاجة لي لحمايتها” ص98.

     وانطلق إلي حيث يجلس في المقهى وساد الهدوء مد الفرنسيس أيديهم بالمال ليشتروا بأثمان مجزية ما يريدون إلي أن الهدوء لم يطل إذ سرعان ما قامت الدنيا حين شرع الفرنسيس في فرض ضرائب على أملاك الناس وترسل زينة إلي حسن ليأتي إليها وتطلب منه أن يحمل رسالة الفرنسيس إلي السناري التي عرفت انه بالفيوم وأعطته حصاناً مسحوراً ومضى باتجاه الفيوم بمساعدة الدليل الذي أجزل له العطاء.

     ويأتي الجنود الفرنسيس بقيادة ضابط اسمه دوبريه لاحتلال بيت السناري وإعطائه للمهندسين والعلماء والكتاب الفرنسيين وتحويله إلي مكتبة عامة تقاوم زينة وترفض إخلاء البيت وعندما يقترب الضابط دوبريه منها تصيبه رعشة ويصرخ ايلين حبيبتي التي تشبهينها وماتت أمام سجن الباستيل ترجوه أن يترك البيت فيرفض لأنه ينفذ أمراً عسكرياً ويطلب من ساكنيه الاستعداد للذهاب إلي بيت السناري القديم في بولاق ويتم إخلاء البيت الذي استولى الفرنسيين على كل ما فيه من أثاث وخيول عربية أصيلة لم ينج منها سوى الأبلق الذي ركبه حسن يحاول الضابط الفرنسي أن يقترب من زينة التي وجدت فيه عاشقا مكسورا ويستحق العطف. ص140.

     ويصل خبر احتلال البيت إلي صديق السناري الشيخ “زيدان الخضيري” الذي راح يبحث عن شفاعة لإنقاذ البيت خوفا على الخبيئة التي يعرف مكانها في القصر بعد أن ائتمنه عليها ولا يعرف سرّها سواه وزينة.

     أمام بحر يوسف يحرن الفرس الأبلق بعد أن أنهزم البك وفرّ بمن تبقى معه من رجاله إلي بني سويف ويمضي إلي ظل شجرة يأخذه نسيمها إلي براح النوم وعندما يستيقظ لا يجد الحصان الذي سرق منها فيمضي في الصحراء حتى يصل إلي خيمة رجل عجوز يسقيه ويعده بأن يعيد له الحصان لقاء مبلغ ما يدفعه ويسترد بعد ساعة حصانه ومضى راكبا عليه.

     من شدة خوف زينة على بيت السناري وما فيه كانت تخرج مرة كل أسبوع وتحوم حوله وفي إحدى المرات تزور الشيخ الخضيري وتعرف منه أن كبير الفرنسيس جهز جيشا إلي الشام والأتراك يعدون العدة للزحف إلي مصر والانجليز في البحر نالوا من الفرنسيس وهزموهم ومراد بك يحشد أهل الصعيد والعربان وقد يطبق كل هؤلاء على الفرنسيس ويطردونهم من البلاد. ص157.

     فتفرح لهذا الخبر الذي يعيد إليها حبيبها السناري ويعود حسن إلي القاهرة بعد أن قاده الحصان إلي خيام الشيخ مبروك أصدقاء السناري وعندما يصل البيت يرى أن الفرنسيس قد احتلوه وعلى الباب يراه أحد الرسامين ويطلب منه أن يرسمه فيوافق بشرط أن يرى كل بقعة في البيت فيوافق ويتجول في البيت حتى يصل إلي الحرملك.

     ويدخل إبراهيم السناري المحروسة خلسة ويذهب إلي بيت الشيخ الخضيري ويستقبله ويطمئنه على الخبيئة ويطلب منه أن يهيئ له حماراً ليعمل حماراً حتى لا يشك الناس به وتعرف زينة أن الرسالة لم تصله عندما التفت به وقصت عليه ما جرى ويقول لها: رسالة الفرنسيس خدعة مرت بسلام. ص183.

     ويلتقي بزوجاته وأولاده ويحاول نساؤه زرع الشك في قلبه تجاه زينة التي تستقبل ضابطا فرنسيا إلا أن ثقته بزينة حالت دون تنفيذ غرضهن ويلتقي حسن بزينة بعد عودته ويخبرها بأنه زار بيت السناري وتجول فيه وتقص عليه حكاية الضابط الذي يضايقها وتطلب منه أن يخلصها منه دون قتله ويقص عليها حكاية الرسام “ريجو” وتطلب منه أن يسعى لديه ليرسمها حتى تدخل البيت وتطمئن على الخبيئة ويتم لها ما أرادت يتعرض الضابط لمن يضربه ويؤذيه كما تدخل البيت بحجة رسمها وتطمئن على الخبيئة التي انتبه إليها حسن ويستيقظ السناري على خبر يقول إن فرقة من الفرنسيس بقيادة الجنرال “ربليه” احتلت الآكام المشرقة على القاهرة من الشرق من قلعة كامان إلي مسجد الظاهر وقلعة المقطم وهجمت على مواقع الثوار وزلزل بيت السناري بعد أن هدمت المدافع الجدران المتهالكة.

     وتدب الفوضى في البلد وعاد دوبريه ليقابل زينة محاولا التقرب منها ويعلمها بأن حضور السناري لن يمنعه من رؤيتها وأنه على استعداد ليقتله “وجوده على قيد الحياة يُسيئني، وإن كنت تغاضيت عمن أراد قتل جسدي فلن أتغاضى عمن يقتل روحي” ص236.

     تتوالى الأحداث ما بين صراع الضابط الفرنسي للحصول على زينة وتعلق حسن بها وتنفيذه لكل المهام التي تطلبها منه مقابل حرص زينة على حياة السناري وحبها له وثقتها به في الوقت الذي انتشرت فيه قرب رحيل الفرنسيس عن المحروسة لاسيما بعد مقتل كليبر وترك جيش الشرق لرجل ضعيف لذلك فكر دوبريه كيف يبقى إلي جانب زينة ويُخلي الفرنسيس بيت السناري الذي قرر أن يزوره بعد أن أرسل العمال لترميمه وتنظيفه، في الوقت الذي يتخلى دوبريه عن ثيابه العسكري وبندقيته وسكن بيتا في سطح بيت قديم تعرض فيه للسرقة وضربه ويلتقي السناري بزينة وتخبره بأنها اطمأنت على الخبيئة ويحاول التخلص من حسن الذي أرسله إلي الشيخ الخضيري ويأخذ مكافأته وإلا يراه بعد ذلك، ينخرط دوبريه في جيش المماليك ويعلن إسلامه ويطلق عليه اسم سنبل ويخرج الفرنسيس من المحروسة، وتأتيه دعوة من القبطان للذهاب إلي القلعة في الإسكندرية احتفالا بالنصر ويشعر مع زينة أنها خدعة وبالفعل تحصل مجزرة في القلعة ويقتل السناري وينقل جثمانه إلي القاهرة وتستلمها مع رسالة يبثها حبه وجانبا من سيرته الذاتية جاء في نهايتها: “والحقيقة الأكبر من كل هذا في حياتي كلها هو أنت يا زينة، لكن عز عليّ أن تريني عاريا مجردا من كل حول وسلطان وجاه، وأنا أحكي بين يديك كطفل، ثم أذهب ولديّ ما أخفيه عنك… فأرجو منك الصفح والسماح” ص326.

     ومضى المكاري أمام حماره، أما في الخلف فقد مشى الضابط الفرنسي الذي صار في خدمة الترك والجندي التركي الذي سيتبعها إلي حيث ينتهي بها المقام ليُبلغ سيده الذي ينتظرها في لهفة وحسن جعيدي الذي كان يسبقها بخطوتين يرعى زينة بعين وبالأخرى يرقب الاثنين في غيظ، ويحول أن يهزم عجزه وهوانه بلا جدوى.

     ما بين فضاء الحب ورومانسيته والثورة على عدو متعب وسلسلة أيام حملت كثيرا من المفاجآت والحكايات وهي مرتبطة جميعها بجانب من تاريخ مصر النضالي في فترة زمنية لم تأخذ مساحتها من التاريخ والتأريخ حتى غاص في أوراقها مبدعنا فسبر فحواها وعرض واقعها ودافعها مستغلا قدراته على توظيف الخيال الإبداعي والوظيفي ليقدم الحدث في إطار روائي ماتع وجذاب متخذا من بيت السناري الذي مازال صامدا وشاهدا على أحداث تلك الفترة مرتكزا رئيسا لمعمار الرواية التي أمعنت في تصوير المرحلة ووصفها وتوصيفها حيث بدا من خلال ذلك صوت المبدع واضحا ومسموعا بقوة أضافت إلي نصية الرواية تلك القوة الإيحائية، والمتعة الفنية، والقوة البلاغية لتؤكد من خلال ذلك كله كما قيل على غلاف الرواية:

“أنها ليست فقط رواية عن عُمران بيت رائع، ولا عن رجل عجيب، أحب الحياة، والسكينة وجارية فاتنة، فعاش مطاردا، ومات غريبا دون أن يتبدد سحره، وينجلي غموضه، بل هي أيضا حكاية مجتمع يقاوم الضياع”.

 

مقالات من نفس القسم