«كتاب في كلمة وكلمة في كتاب».. الممتع علاء الديب «خرج من القفص وحقق ما أراد»

كتاب في كلمة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الدايم

البسطاء يؤمنون أن «السيرة أطول من العمر»، والبساطة هنا لا تعني إلا الذين يمرون على الحياة بـ«خفة»، يتركون على جدار الحياة أثرًا جميلًا وطيفًا رقيقًا، وبغيابهم تظل أماكنهم خالية لا تتسع إلا لمن يشبهونهم ويأخذون على عاتقهم استكمال المسيرة المدهشة.. ومن هؤلاء الكاتب والروائي والموسوعي علاء الديب، (4 فبراير 1939 – 18 فبراير 2016)، الروح الذي تنضح بساطة وخفة وأدبًا، فملامحه – وملامحه فقط – كافية لأن تجعل العالم من حولك هادئا.. رقيقًا.. خفيفًا.. ممتعًا، وكتابات «الديب» تشبهه كثيرًا مع روحه، تمنحك كل شيء وأي شيء بـ«تواضع العلماء» و«محبة الأصدقاء».

«كتاب في كلمة وكلمة في كتاب».. عنوان اختارته الهيئة العامة لقصور الثقافة لأحدث الكتب التي تحمل اسم علاء الديب، وهو كتاب يأتي في إطار بـ«مشروع العمر» للراحل علاء الديب، وخلاصة سنوات من القراءة والبحث والاطلاع، كما أنه يعتبر الجزء الثالث لـ «عصير الكتب»، فقد صدر الجزء الأول وكان عن «دار الشروق» قبل سنوات، بعد ذلك أصدرت الهيئة العامة للكتاب الجزء الثاني، والجزء الثالث يضم ما يزيد عن 100 مقالة لـ«الديب» كتبها في عموده الثقافي الأشهر ، ليس في مصر فقط ولكن في الوطن العربي، «عصير الكتب» والذي تحول بمرور الأيام إلى «الهدف الأسمي» لـ«كاتبه»، والصيد الثمين لـ «قارئه».

«أسأل نفسى ما معنى هذا الباب الذى أحاول أن أكتبه كل أسبوع «عصير الكتب»؛ تلك النكتة القديمة المكررة هو ليس نقدا بالتأكيد وليس إعلانا عن كتاب، طموحه الأساسى أن يكون مشاركة فى التفكير العام. الاختيار سؤال، والكتابة محاولة للبحث عن إجابة. وفى الصفحات التالية سأحاول أن أتذكر بعض الأسئلة، ومشروعات الإجابة..».. الفقرة السابقة، إجابة قدمها «الديب» عن «عصير الكتب»، وهي إجابة كاشفة لموقف واضح وواعي تبناه صاحبه من اللحظة الأولى  لنشر مقالاته منذ ما يزيد عن 40 عامًا.

«التنوع».. واحد من المميزات التي يكشفها الكتاب في أسلوب «الديب»، فالمقالات المنتقاة لا تتوقف عند حد لون واحد من ألوان الأدب، بل في سياقات عدة تخرج إلى براح «السياسة والاقتصاد والعلوم»، وفي كل مرة يؤكد صاحب «عصير الكتب» أن يمتاز بـ«الحياد» و«الموضوعية» وقبل هذا وذاك، الانتقائية في تقديم الكتب، التي في الغالب ينظر إلى موضوعاتها وعناوينها وفحواها، قبل أن يلقي بالًا لاسم مؤلفها.

«من الشرق والغرب».. ملمح آخر تلمحه في كتاب «كتاب في كلمة وكلمة في كتاب»، فلا عجب أن تجد الكتاب يبدأ بـ«فخ العولمة» وهو كتاب من تأليف «هانس – بيتر مارتن وهارالد شومان»، وترجمة الدكتور عباس علي، والذي أكد «الديب» أنه «من أهم وأمتع الكتب التي قرأها في الموضوع».

«الاختصار».. ربما كانت المساحة المتاحة لـ«الديب» في عموده الصحفي، هي التي فرضت عليه عدد كلمات معين، وأسلوب دقيق في الكتابة، وهو ما لم يتمرد عليه صاحب «عصير الكتب»، بل على العكس تمامًا، استطاع تطويعه وضمه إلى جانبه، ولم يجعله يشكل عائقًا أمام ما يريد ان يقوله عن الكتاب والكاتب، فتحت عنوان «أربعون عامًا من النقد التطبيقي»، وهو عنوان يمكن أن يذهب البعض لتأويله كونه كتابًا مختصصًا وبالتالي مقالًا متخصصًا، لكن هذا التصور سيزول مع أول سطر، فـ«الديب» ببراعة تجده يأخذك إلى ذكرياته مع صاحب الكتاب، الراحل محمود أمين العالم، مقدمًا زاوية جديدة عن واحد من أبرز منظري اليسار المصري، حيث كتب يقول: نشأت أسمع في بيتنا صوت محمود أمين العالم المنطلق المتفائل، كان يقول لي عندما أسقط في الحساب في الابتدائي: «غدًا تخرج من هذا القفص، وتحلق بعيدًا، وتحقق ما تريد».

تتوالى بعد ذلك عناوين المقالات المختارة، فهناك «أوهام ما بعد الحداثة» لكاتبه تيري إيجيلتون، وترجمة الدكتورة منى سلام، ثم «عصر الجينات والإلكترونيات»،  قبل أن تجده وقد سحبك إلى أرض براح عنوانها «أنشودة للكثافة» لـ إدوار الخراط، والذي يكتب عنه «الديب» كتابة من النوع الذي يطلق عليه «من القلب للقلب»، حيث كتب يقول: «دائرة ضوء خاصة يسكن فيها إدوار الخراط في القلب. يقرر في شجاعة قيمه، وذوقه الخاص، مدافعًا عن فن الكتابة وعن حرية التعبير. مقطرًا روحه، ومصريته، وقبطيته، وسكندريته في فن أدبي مثير للخيال وللأسئلة.. إدوار الخراط لحظة دائمة من الشوق والإبداع. درس ممتد من الأربعينيات في الإخلاص للكتابة والإيمان بها».

«جماليات المكان» عنوان واحد من المقالات التي يضمها كتاب صاحب «عصير الكتب»، عن كتاب يحمل العنوان ذاته من تأليف جاستون باشلار، والذي يبدو أنه يحظى بمكانة خاصة في قلب «الديب» ومكتبته، حيث كتب عنه: الكتب مثل الأصدقاء، يظل مكانهم حاضرًا في النفس حتى وإن غابوا، عرفت كتاب «جماليات المكان» للفيلسوف والكاتب الفرنسي الأشهر باشلار منذ سنوات بعيدة، عندما كان صديقي الأستاذ غالب هلسا «الأردني – المصري» يحدثني عن الكتاب والمؤلف قبل أن يخوض تجربة ترجمته بسنوات.

ومن الفلسفة إلى الشعر والرواية والأبحاث، تطول المسيرة المدهشة في «كتاب في كلمة وكلمة في كتاب»، غير أنه وسط هذا الكم الهائل من كبار الكتاب سنًا وموهبة، وصغارهم سنًا فقط، استدعت ذاكرتي صورة الرجل الطيب الذي دائما يحمل «قطع الحلوى» في جيبه، يوزعها على الأطفال ومعها ابتسامة وديعة هادئة طيبة، تزيح عن الروح قليلًا من «متاعب الطفولة»، وتمنح وجه الطفل انعكاسًا جميلًا لابتسامة الرجل الطيب والحلوى.. وقد فعلها الراحل علاء الديب، وزع «قطع الحلوى» في مقالاته باقتدار.

مقالات من نفس القسم