اعتاد جارموش أن يقدم أبسط الأحداث وأكثرها اعتيادا بشكل جديد، كاسراً جميع الأنماط المعتادة والمستهلكة، فهناك ما لا يقل عن مئات الأفلام التي تحدثت عن الغرب الأمريكي بنفس الشكل: المشاهد الترابية الحمراء، البطل الذي يذهب إلي أرض الأحلام، وهمجية الهنود الحمر!! . لكن عند جارموش نجد تقديماً مغايراً للغرب الأمريكي: الفيلم بالابيض والأسود، موسيقي نيل يونج الجنائزية، والهندي الأحمر الذي يظهر كرجل مثقف.
ويليام بليك، ذلك الشاعر الانجليزي الصوفي يبعث من جديد في هذا الفيلم ليزور مدينة في أقاصي الغرب الأمريكي ويتحول الي قاتل !! اختيار جارموش لأسماء الشخصيات غير نمطي أيضا، فهو دائما ما يفضل أن يسمي شخصياته بأسماء شعراء وفلاسفة، وفي هذا الفيلم قام بتسمية بطل قصته “ويليام بليك” ليقذف بهذا الشاعر الصوفي في مجتمع عدمي تماما ويظهر لنا ماذا سيكون مصيره !!
تبدأ الرحلة في القطار، ويليام محاسب توفي والداه وتركته خطيبته، يسافر متجها إلي “بلدة الآلات” يقابل رجل إشعال الحطب (قائد القطار) ويدور بينهما حديث غريب يذكره فيه الرجل بمشهد لا يتذكره ويليام ويسرد عليه بعضا من أبيات الشعر، ثم يقوم ركاب القطار بإطلاق النيران علي أسراب الجاموس البري فيخبره ذلك الرجل بأن تقرير الحكومة يقول إنه قد تم قتل أكثر من مليون جاموسة برية العام الماضي في دلالة علي عبثية الغرب الامريك، مظهر الرجل أيضا بوجهه الاسود وعيناه المضيئتان يمنحان له دلالية النبي الذي يخبر ويليام عن مصيره المأساوي.
يذهب ويليام إلي شركة ديكنسون فيفاجأ بأن الوظيفة قد تم إعطاؤها لموظف آخر فيصر علي مقابلة المدير الذي يعامله معاملة غاية في العبثية و يقوم بطرده من الشركة !!
تشاء الاقدار في سياق الفيلم أن يصبح ويليام قاتلا بعد مقابلته لصانعة الورود و ممارسته الحب معها .. دعونا نتوقف أيضا عند شخصية صانعة الورود .. فتاة حالمة يقابلها ويليام بعد طردها من البار لتوقفها عن الدعارة , يساعدها ويليام علي النهوض بعدما ركلها أحد مرتادي البار قائلا ” لقد أحببناكي أكثر عندما كنت عاهرة ” , و يعرض عليها بعضا من الويسكي فتأخذه الي بيتها و تحكي له أنها تصنع الورود من الورق و أنها تتمني أن تمتلك المال اللازم لصناعة الورود من القماش و رش أجود انواع العطور الفرنسية عليها .
يتورط ويليام في جريمة قتل لم يقصد ارتكابها و يجد نفسه مطلوب حيا أو ميتا فتبدأ رحلته كرجل ميت .. يتم استئجار ثلاثة من أمهر القتلة في البلدة لقتل ويليام بليك و نجد أن اثنين من القتلة أسمائهم مستوحاة من مسرحية لصمويل بيكيت و الثالث من أغنية لتوم بيتي في لعبة لا ينفك جارموش عن خوضها مازجا الواقع بالخيال .
تميزت بعض أفلام الغرب الامريكي باظهار الهنود الحمر بمظهر الهمج , لكن في فيلم ” رجل ميت ” يظهر الهندي الاحمر باسم ” لا أحد ” مما يدل علي اغترابه الشديد كهندي احمر شاء قدره أن يصبح مثقفا , لكنه يكن الكراهية للرجل الابيض أيضا , يقابل ويليام ” لا أحد ” بعد اصابته و يخبره ” لا أحد ” عن حقيقة وجوده كشاعر يحفظ هذا الهندي الاحمر أبياته عن ظهر قلب و يكن له الكثير من الاعجاب لكن ويليام لا يتذكر أي من تلك الاشعار.
سياق الفيلم عدمي تماما، حيث يستخدم جارموش الابيض و الاسود و تقنية التلاشي بين اللقطات في دلالية علي غياب الوعي لويليام , كما يستخدم أيقونات رمزية تدل علي الموت : جماجم , رؤوس حيوانات محنطة , و حتي تصويره للصخور العارية و الصحراء .. لكن نهاية الفيلم تختلف من وجهة نظري مع هذا السياق العدمي .. فويليام يرحل ممددا في قارب صغير في البحر في رمزية صوفية تدل علي التطهر و استمرارية الرحلة .. هذه النهاية التي تتسق كثيرا مع شخصية ويليام بليك الاصلية .
فيلم ” رجل ميت ” فيلم جدير بالمشاهدة , فهو يجمع بين القصة البسيطة و الاسئلة الفلسفية مطروحة في جميع الاشكال بدءا من أسماء الشخصيات , و كادرات الفيلم الرائعة بصريا , وصولا الي موسيقي نيل يونج الجنائزية ..
بريفيو:
سنة الانتاج : 1995
اخراج : جيم جارموش