ذات يوم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

أحيانا تبدو صدف الحياة عابرة، غامضة، فوضوية وبدون معنى، وأحيانا أخرى تلبس وجه القدر، فتبدو مصيرية وحاسمة.

حدث ذلك منذ سنوات.

يبدو الأمر بعيدا الآن.

رآها لأول مرة صدفة في (القيسارية القديمة) للمدينة، كانت برفقة والدتها، وقفتا أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة للمحل، تتفرجان على المجوهرات المعروضة، تشيران بالتناوب إلى مجموعة من الخواتم والحلي الذهبية، تبتسمان، وتنخرطان في حديث حميمي لا ينتهي…

توقف ينظر إليهما، فكر في صمت.

– أوووه، كم هي جميلة!!

مرت أيام وأسابيع، ونسي الحدث، كانت صورتها قد انمحت من ذاكرته أو تكاد.

ثم ذات يوم، لمحها صدفة تركب الطاكسي، نظرت جهته دون أن تراه، تحركت بداخله مشاعر متناقضة، دق قلبه بقوة، أحس بالسعادة، ثم  اختفى الطاكسي بسرعة وسط  ضجيج السيارات وزحمة المدينة، عندما غابت، تلاشت سعادته، تملكه شعور بالغبن والمرارة.

مرت شهور، ولكنه لم ينجح في نسيانها.

تذكر (الإمام الشافعي) وقصيدة السفر والاغتراب، اقنتى جرائد ومجلات أسبوعية وقرر أن يسافر ليقضي أياما بقرية الصيادين جنوب المدينة.

دخل المحطة مسرعا، ثم…

تسمر في مكانه، توقف جامدا مثل تمثال، كانت هناك، أمامه مباشرة، أغمض عينيه للحظة وفتحهما، انتظر أن تختفي مثل شبح أو طيف خيال هارب، لكنها كانت هناك، واقفة وفي يدها اليمنى حقيبة خفيفة، تردد قليلا، ثم تقدم نحوها.

– صباح الخير، أعتقد أننا التقينا من قبل؟

عندما تلاشى وقع المفاجأة، نظرت إليه بهدوء، وكأنما تحاول استرجاع ذكرى بعيدة، وقالت.

– لا أدري…ربما!!

– أنا (المامون)، طالب في كلية الآداب، قسم الفلسفة.

نظرت إليه بحياد، وقالت.

– ( لمياء)، طالبة بنفس الكلية، شعبة الأدب العربي.

ابتسمت، ابتسامة مقتضبة، انمحت تدريجيا، وبقي خط تعبيري مرسوما على شفتيها، بدا وجهها مشرقا رغم التحفظ والحرج…

انتبه فجأة إلى زيها المحتشم وحجابها الأنيق.

– أأنت مسافرة؟

– لا، عدت من السفر، وأنت؟ مسافر؟

– لا، أنا كنت مسافرا…رسم لحظة صمت…الآن غيرت رأيي!!

ابتسمت، انمحت ابتسامتها، ثم ارتسمت من جديد، فهمت ما في كلامه من تلميح، ازداد وجهها إشراقا…

نظر إليها، فكر في صمت.

– سأكون سعيدا لو نجح الأمر…

بمرور الأيام، توطدت علاقتهما، أصبحا صديقين، يلتقيان بانتظام في فضاءات الكلية، المكتبات، الحدائق، الشاطئ، كورنيش المدينة، دور السينما، وفي القاعة الزجاجية الأنيقة لمقهى (النهضة) بعيدا عن فضول الناس وسلطة الرقابة الاجتماعية.

لم يكونا مستعجلين، كانا يكتشفان بعضهما بالتدريج…

كانت (لمياء) جميلة، هذا النوع من الجمال الخفي الذي لا ينكشف دفعة واحدة، سر مكنون، بشرة بيضاء وصافية، شعر أسود ليلي غزير، عينان واسعتان، وجه مستدير بملامح عربية، جسم ممتلئ من غير إفراط…

كان (المامون) دوما ضعيفا أمام سحر وسلطة الجمال، لذلك أصيب منذ اللحظة الأولى بنوع من الصدمة، صدمة الافتتان…

وبالمقابل انجذبت هي لذكائه وجرأته، لوسامته الهادئة، للون الحصار في عينيه، وشاربه الطفولي، وقدرته العجيبة على الكلام وخلق الصور…

منذ البداية كانت علاقتهما مرسومة بدقة، محكومة بخيوط رفيعة، خفية، لا ترى، ولكنها قوية، لا عناق، لا قبل، بالكاد كانت تترك له يدها الطرية بين الحين والآخر…

كان (المامون) مستعدا أن يعمل المستحيل لإرضائها، فقدت ملكت عليه نفسه، تخلى بصعوبة عن بعض عاداته السيئة، توقف عن التدخين لأيام، حاول ذلك ولكنه لم ينجح، توقف عن التجديف، تخلى عن لغة الشارع المتحررة العزيزة على قلبه.

احتفظ (المامون) دوما بأناقته، ولكنه الآن أصبح يعتني بمظهره أكثر.

بسبب هذه العلاقة، تغيرت حياته، انقلبت رأسا على عقب.

اقتنى كتبا عن أخلاق المسلمين، وكتابا عن أهمية الصلاة في حياة الإنسان المسلم، في البداية بدا الأمر غريبا ومستعصيا، بدا كمن يكتشف دينا جديدا لأول مرة.

بالنسبة له، كان الأمر غريبا بالفعل، عاش شرخا داخليا مريرا وقاسيا، فهو لم يكن أبدا شخصا متدينا، صحيح أنه لم يفقد أبدا إيمانه، ولكنه عاش متمردا، ورافضا لسلطة الآباء هنا في الأرض، وهناك في السماء.

ثم، شيئا فشيئا انتظم في الصلاة وآداء الشعائر الدينية بقدر ما تسمح به روحه المتمردة، فقد كان يتضايق كثيرا من وضوء الفجر والاغتسال في الصباحات الباردة.

في كل مرة يستعيد فيها (المامون) قصتهما، يكتشف كم كانت غريبة، فالنزعة التطهرية في علاقتهما كانت سببا في مشاعر الحرمان والقلق والمعاناة وألوان من البؤس النفسي والكبت الرهيب…ولكنها رغم ذلك كانت مصدرا للأمل والدفء والأحلام، أحلام ملونة وفي منتهى الرومانسية.

مرت سنوات.

وتحولت علاقتهما شيئا فشيئا إلى ارتباط عاطفي حقيقي وقوي، ارتباط جميل، ممتع، عنيف وجارف…

في سياقات كثيرة كانت علاقتهما مهددة بالانهيار، بسبب نزعة التملك والغيرة الشديدة من قبلها، وبسبب مشاعر التناقض والاغتراب التي تمزق عقله وقلبه من الداخل، وأيضا، بسبب عوداته المتكررة لحياته الدنيوية بين الحين والآخر…

حياة كانت هي تسميها (أيام الجاهلية).

في خضم هذا الصراع لم ينجح (المامون) أبدا في أن يكون ملاكا، فهو لا يريد ذلك، ولا يستطيع، لم يعترف لها أبدا بمغامراته، يتحدث كثيرا، يلمح، ولكنه لا يصرح أبدا.

فقد كان يخشى أن يفقدها.

ثم ذات يوم.

فتح الباب، وجدها أمامه، ترفع سبابتها، تتهيأ للضغط على الجرس.

– أهلا، صباح النور!!

قبلته، وسألت بصوت هادئ ودافئ.

– نفسك في إيه؟!

ابتسم لصيغة السؤال، كانت مهووسة بالدراما المصرية وقصص الحب الرومانسية، فسح لها المجال، دخلت، أغلق الباب، توجها رأسا للصالون، كانت المائدة معدة بعناية، صينية شاي، حلويات مغربية من كل الأصناف، جلس غير بعيد، اقترب منها، ناولها كأسا، رشفت منه رشفة خفيفة، ثم وضعته، أخذ كفها الطرية بين يديه، ترددت قليلا، ثم اقتربت أكثر.

– أنا سعيدة و خائفة!!

– لا تخافي، لا مبرر للخوف…

سألته بصمت.

– ؟؟

– سنحترم الشروط…سنعمل بقواعد العشاق في ثقافة العرب والمسلمين أيام زمان…أيام قيس بن الملوح وجميل بن معمر وبثينة وليلى العامرية…!!

– يعني إيه؟؟

تردد قليلا، ابتسم.

– للعاشق النصف العلوي، وللزوج النصف السفلي!!

ابتسمت، ترددت قليلا، اقتربت أكثر، ثم ذابت في أحضانه، استسلمت للذة، ثم شيئا فشيئا فقدت الإحساس بالزمان والمكان.

كان أنينها يملأ المكان، كاد يغمى عليها، اختلطت عليها الألوان.

أبيض،

أسود،

أزرق،

أحمر،

ثم أبيض، أبيض، أبيض…

كانت منخرطة، وغائبة تماما.

تملكتها مشاعر متناقضة، خليط غريب يمتزج فيه الإحساس بالمتعة والخوف بالألم…

ولكنها كانت سعيدة.

عندما استعادت هدوئها، انخرطت في نوبة من البكاء، بكاء حزين وصامت.

بكاء يستعصي على التصنيف.

ضمها إليه، دفنت وجهها في عنقه، تشممت أريج عطره ممزوجا برائحة التبغ والعرق، افترض أنها كانت حزينة وسعيدة في نفس الوقت، انتقلت إليه العدوى، اجتاحته سحابة من مشاعر غامضة، فكر أن يقول شيئا ولكنه قرر أن يلوذ بالصمت.

– الصمت أفضل، لا، لن أفسد حزنها الجميل…

التقيا بعدها بشكل منتظم.

كانت سعيدة، منطلقة، ومقبلة على الحياة والمتعة، وتشعر في نفس الوقت بالحرج، كانت موزعة، منشطرة، تعيش صراعا وشرخا داخليا، من جهة تبدو سعيدة وتستمتع بالحب ولحظات اللذة المسروقة في الأماكن والفضاءات المتوارية والمنفلتة من الرقابة الاجتماعية، ومن جهة ثانية تمزقها مشاعر الإثم والخطيئة التي يعمقها التزامها الديني.

مرت سنوات طويلة، طويلة جدا، تزوجا.

في لحظات الصفاء، كان يسألها.

– (لمياء) حبيبتي، أيام زمان، لم كنت تنخرطين في البكاء في نهاية لقاءاتنا؟!

تلوذ بالصمت للحظات، تنظر إليه بعتاب، تقبله، تبتسم، ولا تجيب!!

مقالات من نفس القسم