إسود وردي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في مكان يفتح أبوابه للزبائن على مدار أربع وعشرين ساعة، وهو خليط بين المقهى المودرن والمطعم الحديث. تجلس كريمة إلى ترابيزة مميزة، يختارها أي زبون عندما يجد المكان خالياً. كريمة في الثلاثينيات، تبدو أنها بالغتْ في قص شعرها لجدية مهمة ما تقوم به. من خلفية المقهى المطعم ينساب صوت بيلي هوليداي ناعماً حزيناً ممحوناً. يستجيب للصوت ضوء خافت مريض يشع من أنحاء المكان. على الترابيزة أمام كريمة كتاب من قطع متوسط وفنجان قهوة إسبرسو وقطعة حلويات وعلبة سجائر، وبجوار كريمة في المساحة الخالية شال رقبة باشمينا وجاكيت وحقيبة يد. يدخل خالد من باب المقهى المطعم، وفي يده حقيبة من الجلد. يبتسم الجرسون لخالد أثناء مروره، ويشير بيده ناحية كريمة. يتقدم خالد إلى الترابيزة. يبتسم خالد لكريمة، وهو يجلس أمامها، ويفك عن رقبته الربطة الفرنسية للكوفية، ويخلع الجاكيت ويضعه هو والحقيبة الجلدية في المساحة الخالية بجواره. 

خالد: هاي

كريمة: هاي

يشير خالد بذقنه إلى الكتاب ذي القطع المتوسط على الترابيزة، وهو يخرج سجائره ودفتراً صغيراً وقلماً بينما  ترتفع كريمة بمرفقيها قليلاً على الترابيزة استعداداً للحديث.

خالد: الكتاب

تومئ كريمة برأسها بأن نعم بينما يقلب خالد الكتاب ناحيته، فيظهر عنوانه بحفر ذهبي واضح، خسوف كلي، وتحته اسم المؤلف ببنط أصغر، جاليليو جاليلي، ترجمة الفقير لله، عبود شيخ الأرض. يقلب خالد صفحات الكتاب بخبرة مَنْ يعرف هذا الكتاب، ويقفز إلى صفحات بعينها ثم يذهب إلى جلدة الغلاف الداخلية في نهاية الكتاب ويخرج من جراب كرتوني ملصق في الجلدة، حافة كارت الاستعارة. تقول كريمة بمناسبة وصول خالد إلى كارت الاستعارة، وهي تشعل سيجارة.

كريمة: أنا استعرت الكتاب من يومين. وطبعاً

ها اكسر مدة الاستعارة

خالد: كام المدة ؟

كريمة: أسبوعين

خالد: وها يعملوا إيه ؟

كريمة: ولا حاجة.. بس أنا كده ما ليش

استعارة تاني

يمسك خالد القلم، ويبدو أنه يريد صنع علامات في متن الكتاب، فينظر إلى كريمة بشبه ابتسامة، فتقول كريمة وهي تفتح راحة يدها بابتسامة أوسع، وهنا تظهر الشظية المضيئة على طاقة أنفها من الخارج.

كريمة: الكتاب ملكك يا افندم

يأتي الجرسون ويرفع بخفة طبق الحلويات والفنجان الفارغ، وبفوطة صغيرة يمسح جزءاً من الترابيزة. ينظر خالد إلى بواقي طبق الحلويات الصغير. يقول الجرسون دون أن ينظر لخالد، وهو يضع زجاجة مياه معدنية وكوباً كبيراً أمام كريمة.

الجرسون: خالد بيه.. قهوة ؟

يضع خالد دائرة حمراء بقلمه على كلمة القمر في صفحة من صفحات كتاب خسوف كلي ثم ينظر إلى الجرسون ويقول له بينما تغسل كريمة جوفها من أثر قطعة الحلوى والقهوة بكوب الماء المترع، وهي تفرد جذعها إلى الأعلى بحركة لا شعورية، وكأنها توسِّع مجالاً أكبر للمياه.

خالد: طيب هاتلي حاجة قبلها

الجرسون: عيني يا باشا

خالد: كريم كراميل مثلاً

ترفع كريمة إصبعها في الهواء كي ينتظراها، فيقول خالد وهو يبتسم للجرسون، ويشير إلى كريمة بينما يبتسم  الجرسون هو الآخر ابتسامة أدب ولياقة.

خالد: استنى الوحْش

كريمة: وأنا كمان

يشعل خالد سيجارة، ويقرب منه طفَّاية السجائر بينما يذهب الجرسون. يقول خالد مبتسماً لكريمة وإشارةً إلى الدهون والسمنة المحتمل تراكمها من كثرة الحلويات.

خالد: فات.. فات

تشد كريمة جذعها في جلستها وتُحدد بيديها خصرها النحيل، وهي تنظر لضموره ورشاقته ثم تعود بنظرتها إلى خالد وتقول.

كريمة: ده في حلمك يا أستاذ خالد

أزاحتْ كريمة الباشمينا من جوارها، وأخرجت من حقيبة يدها، فيش أوراق صفراء بينما أخرج خالد من الجراب الكرتوني فيشة الاستعارة. تقول كريمة بلهجة جادة قياساً للفتة الدهون، وهي تنظر في الفيش التي أعدتها سابقاً. كريمة: بص يا سيدي.. تواريخ استعارة الكتاب

متوزَّعة على اتنين وتلاتين سنة.. من 1980 إلى 2012 

الكتاب خرج عشر مرات في الاتنين وتلاتين سنة.. وده قُليِّل

نسبياً.. وهتلاقي واحد بس إللي هوه  سعد الدين عمران

خرَّج الكتاب تسع مرات.. ست مرات منهم في الأربع

شهور الأولى من سنة 1981.. بفاصل خمسة أيام كحد

أدنى من لوايح المكتبة لتكرار الاستعارة.. طبعاً ها تحط

في اعتبارك إنه يزيد يوم أو يقل يومين من التلاتين يوم بتوع

الشهر الاستاندر.. وديه عيوب وفوضى بتعتبرها لوايح

المكتبة البيروقراطية استثناءات أو شر لا بد منه.. أمَّا

التلت خروجات الباقية للسيد الغامض سعد الدين عمران..

فواحدة سنة 1986.. والتانية سنة 1990.. والتالتة سنة

1999.. والمستعيرة التانية صاحبة الخروج العاشر للكتاب

سنة 1995 هي السيدة عايدة الضمراني.. والتالتة العبدة

لله كريمة الشوربجي سنة 2012

تدفع كريمة الفيش الصفراء على الترابيزة إلى خالد، وكأنها تلقي على عاتقه عبئاً ثقيلاً. يستقبل خالد الفيش الصفراء بوجوم، ويضعها بين صفحات الكتاب. تلاحظ كريمة ثقل المهمة على كاهل خالد، فتقول وهي تميل على الترابيزة بلهجة يتأرجح فيها صوتها بين الحنان وبين السخرية.

كريمة: بيقولوا عنَّك يا أستاذ خالد إنَّك

رجل بدايات

يختار خالد بتسامح جانب السخرية دون رفض واضح لجانب الحنان، وهو يتخلص من رماد سيجارته في الطفَّاية.

خالد: مجرد بدايات.. بدايات بس

تأخذ كريمة الكلمة الأخيرة من تعليق خالد جسراً لشيء آخر أكثر جدية بينما صوت بيلي هوليداي يترك الفرصة لسولو على آلة نحاسية.

كريمة: بس في مشكلة ممكن تنسف

البحث كله

خالد: إيه ؟

كريمة: الكتاب موجود في المكتبة من سنة

1962.. وفضل كمرجع خارج قانون الاستعارة

لسنة 1975.. وبعدين دخل في قائمة الكتب القابلة

للاستعارة بعد نشره في دور نشر كتيرة سنة 1972

و1973 و1974.. وإللي يهمك هنا إن أرشيف المكتبة

فيه بطاقات مليانة بتواريخ استعارة بتغطي الفترة من

سنة 1975 إلى سنة 1980.. وكمان أوضة المراجع

أيام ما كان الكتاب فيها هِنَاك تلاقي في دفتر لتسجيل

اسم القارئ ومهنته وعنوانه والكتاب إللي ها يقرا فيه..

يعني قدام بحثك تلتاشر سنة من الماضي المجهول

خالد: متهيألي البداية هتكون مع الغامض

سعد الدين عمران

كريمة: والنهاية مع المُزَّة عايدة الضمراني

يضحك خالد وكريمة بينما يأتي الجرسون، وهو يحمل صينية عليها شبه كرتين من الكريم كراميل وفنجان قهوة اسبرسو وزجاجة مياه معدنية وكوبان كبيران فارغان وطفَّاية سجائر نظيفة. يأخذ الجرسون وقته وهو يعيد هندسة المساحة الخالية من الترابيزة، بطريقة حِرَفية تجعل أيادي خالد وكريمة تتلقى فقط إزاحة الأوراق والكتاب في المرحلة الأخيرة، وكأنها إشادة بهندسة الجرسون الذي يضع محتويات صنيته ثم ينسحب بابتسامة، وكأنه يعتذر عن انقطاع الحديث بين خالد وكريمة. بحرص يغرس خالد ملعقته في الكريم كراميل، وهو يشير بملعقته بعد ذاهابها لفمه إلى الحقيبة في المساحة الخالية إلى جواره. يقبض خالد بفمه على الملعقة مثل السيجارة ثم ينقل الحقيبة ذات الثقل المتوسط أعلى الترابيزة، ويركنها على النافذة العريضة التي تعرض من خلفها مشهداً غائماً. تنتبه كريمة إلى الحقيبة وتخرج صوتاً من فمها يختلط فيه نسيان الحقيبة والاستمتاع بمذاق الكريم كاراميل.

كريمة: مووو

خالد: الشنطة هتقعد معاكي يوم أو يومين ما أعرفش

بالظبط.. المهم إن ها يجيلك تليفون من حد وها يحدد معاكي

ميعاد عشان تسلميه الشنطة.. المهم سواء قعدت معاكي

الشنطة يومين. تلاتة. أربعة.. ومش ها يزيدوا عن تسع

أيام. ها أقولك بعدين ليه. عليكي كل يوم.. يعني كل أربعة

وعشرين ساعة.. تغيير شفرة الشنطة

يقرب خالد الحقيبة ويميلها لنظرتها بينما تشب كريمة بجذعها قليلاً لتري البكرات الثلاث الرقمية في منتصف الحقيبة من أعلى، وتقول ضاحكة على موديل الحقيبة القديم نسبياً.

كريمة: يا.. لسة النوع ده موجود

خالد: كريمة.. ركِّزي.. ها تغيري

التلت أرقام.. يعني هيه دلوقتي على

تلت وَحَايد بقالها واحد وعشرين ساعة

تبتسم كريمة وتداري ابتسامتها في الكريم كاراميل، ولا يستطيع خالد تجاوز ابتسامتها، فيبتسم هو الآخر ويقول بغضب زائف.

خالد: يا .. كوكي.. وبعدين

كريمة: ما إنت إللي.. أوكيه كمِّل

خالد: بكره تغيريها على تلت إتنينات..

وبكره ده يعني بعد تلت ساعات من دلوقتي

وبعده على تلت تلاتات.. وبعد بعده على

تلت أربعات.. وهكذا.. ومعاكي التغيير لغاية

تلت تسعات.. بالترتيب.. آه في حاجة.. طبعاً

مش محتاج أقول لكِ إنه ممنوع تشوفي إيه

إللي جوه الشنطة.. وإلا كُنَّا دخلنا فيلم أمريكاني..

بس في نفس الوقت عشان تغيري شفرة الشنطة

لازم تفتحيها وتقطعي ذاكرة الباس ورد القديم

تقفز قطعة من الكريم كارميل هاربة من حد الملعقة مثل الجيلي على الباشمينا في المساحة الخالية بجوار كريمة التي تحاول استرجاعها إلى الطبق، وهي تنادي على الجرسون لنجدتها.

كريمة: أحمد

يأتي أحمد سريعاً وينتشل الباشمينا من يد كريمة التي تقول له بينما يصب خالد الماء في الكوب الزجاجي أمامه.

كريمة: في أمل

أحمد: أكيد

خالد: طارت الباشمينا

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون