ديوان “ابن الوقت” وتحدي قصيدة النثر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات .

حينما تخلت قصيدة النثر عن كل الموروث الثقيل المغرق في الشكلانية الغير مواكبة لحياتنا الجديدة، الداعي للملل والتثاؤب ثم غلبة النوم قبل إكمال قصيدة بأبياتها وشطراتها وتفعيلاتها المعدودة المحبوسة في بحور شعرية استنبطها الفراهيدي منذ مئات السنين، هبطت هكذا على رؤوسنا كقدر محتوم، حينما تخلت قصيدة النثر عن هذا وثبت لمجهول كمن يثب من قمة جبل شاهق للجة محيط لا قرار له، وثبت بشجاعة وزهد في كل هذا الموروث المعوق الثقيل ولكنها راهنت على المضمون وثراء الخيال والصور المركبة  والموسيقى المنبعثة من ذلك كله  موسيقى تنبعث في قلب المتلقي لا يسمعها غيره، موسيقى خاصة بالمتلقي الفرد وحده ، ربما تختلف في نبضها عن متلق آخر، نعم انبعثت قصيدة النثر مواكبة لحركة الترجمة للشعر الأوروبي فبدت تقليدا ، يبحث في إصرار عن شخصيته المستقله ولكنها تطورت على يد مجموعة من الشعراء العرب لتصل إلى ذروتها على يد الكثير لتناطح بكل قوة كلاسيكيات الشعر العربي التقليدي بل تتفوق على بعضه.

فهكذا كان الضوي محمد الضوي وديوانه "ابن الوقت" ..

“أود أن أحكي ولا طاقة لي،

في قطار الموت الذي يركبه الشاعر…

يقسم أنه سيعود منه قابضا على اللحظة الفارقة…”

هي رحلة قد تطول، وقسم على عدم العودة إلا بعد القبض على اللحظة الفارقة، ذات التحدي الذي أقسمت عليه قصيدة النثر، ثم يعدد شاعرنا ويتنقل بين صور خلابة جديدة أزعم أنه الأول في تركيبها والإتيان بها …

“اللحظة التي التمع فيها الخوف بقلبه مثل فأر أبيض..

مثل ارتواء صائم

وقبلة عائد، وصهلة فرس

يقسم ويقسم …”

هل قبض الضوي على اللحظة الفارقة، طيلة ديوانه وهو يحاول، فقد وعد بل أقسم.

الخروج عن السياقات التقليدية هو الخيار الوحيد بهذا الزمان، لذا يتحدث الشاعر عن شاردة اختارت شرف المحاولة، فليلتهمها ذئب أشرف لها من أن  يسلخها قصاب ، يتحدث عن مجموعة من الأغنام اختارت مصيرها…

يبدأ بتلك الحكمة القديمة الثقيلة ..

“الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشاردة”

ثم يتحدث عن تجارب أغنام أخر رفضن هذه الحكمة المعلبة .

“غير أني أعرف غنمة شردت

فدلت أخواتها على بئر وجدتها صدفة”

روعة الاكتشاف بعد مغامرة الشرود تلك، هل لو صدقت مخاوفها، كانت ستحظى بهذا الاكتشاف بئر ماء جديد بما يحمله من آمال الري والحياة، ثم يسرد الشاعر تجارب لأغنام أخر…

“أعرف أخرى، لما شردت نسيت لغة الأغنام…

وصارت تموء كالقطط، وتجأر كالذئاب المجاريح …”

فكانت نتيجة شرودها هذا ..

“احترمها ذئب لأنها شردت،

ولم تخف،

لأنها فهمت أن الحياة احتمالات كثيرة

مشوقة، ومؤلمة، وقاتلة

والحياة في القطيع ، قاتلة فقط

أعرف أخرى،  لما سمعت أن الشاردة ستؤكل…

قالت: الفارق أن الشاردة سيأكلها الذئب بدمائها، دون إهانة

أما اللواتي في القطيع، فإن صاحب القطيع سيسلخهن؛

الصوف للبرد، والعظام للكلاب،واللحم له،مشويا لساعات طويلة يدور ويدور، والجمر أسفله، ينخر فيه كسوسة في غصن يهوي…الشاردة مجتمعة ستكون في بطن ذئب،  أو اثنين على الأكثر…

“الشاردة تعرف أكثر

تعرف وتختار

أعرف واحدة

تكتب الآن، هذه القصيدة …”

ألا تذكرك هذه القصيدة، باختيار قصيدة النثر حينما شردت كصديقتنا الغنمة المغامرة …الجديد هو تلك الروح الشاعرية الواعية الهائمة في الكون المتلبسة لتلك الإحالات الوجودية الخلاقة، المجيبة بكل بساطة وعمق عن هذه الأسئلة الوجودية المحيرة، فالاختيار مسؤولية في المقام الأول، وسواء اخترنا أم لا  فالهلاك مصير كل حي، ولكن فرق أن تموت لأنك اخترت، وقضيت في سبيل اختيارك، وفرق بين موتك كملايين من القطيع سبقوك وسيلحقون بك .

“توالد الصور” لمع  ذهني بهذا المصطلح وأنا أقرأ قصيدة “تصنعين له كوفية” حسنا هو مصطلح أقل جفافا وتباينا  بصورة أو بأخرى من مصطلح ” التشظي” الذي يعشقه الكثير من متابعي الأدب الجديد …لابأس فقديما قال الأصوليون “لا مشاحة في الاصطلاح” يمتلك شاعرنا قدرة خارقة على تخليق الصور في تراتبية من البسيط للمركب تأخذك في رحلة بصرية لا نهاية لاحتمالاتها …انظر معي إلى هذا التتابع البصري الخلاب.

“تصنعين له كوفية

هذه الكوفية

هي الزورق…”

هكذا بدون تمهيد تتطور الصور، هي في النهاية كوفية تتبدل لزورق ، تشترك معه  في خاصية  الخلاص، خلاص من البرد أو من الغرق في البرد، أي برد، ربما تلك البرودة التي تصيبك حينما تفجع من الهزيمة حيال قسوة حبيبتك ، لتفترق وتسير وحيدا مشتت الخطو لاهث الوجدان انكسارا  ولكنك حتما  سئ  الحظ ،فلم تخرج  من تجربتك حتى بتذكار كما خرج صاحبنا .. أتركك مع تلك الظاهرة المكررة بغزارة ملفتة في شعر الضوي.

” وأنت تصنعين الزورق

انتبهي لاحتمال الغرق

ستفارق أنامله حواف الألواح

باتجاه العمق المظلم

في رهافة شديدة

كما لو كان راقص باليه

تخيلي شكل جمجمته مستقرة في القاع

مليئة بالطحالب

وبالسمك الصغير الملون

بالعملات التي سيلقيها العشاق هاهنا

بالرسائل التي ستغرق يوميا

لأن مرسليها ليس لديهم زوارق

تحملهم إلى أحبتهم…

ولأنهم أيضا، بالطيبة التي تجعلهم

يصدقون البحر..

هذه الكوفية

هي الشجرة

وأنت تصنعين الشجرة

اتركي جذورها في روحك

بالجذور فقط سيستظل…

امنحيه خضارا أوله في عينيك

وهو سيصدق أن هذا هو الكلوروفيل

لك تمام الحق أن تشترطي عليه

أن يترك متسعا من شجرته لاستقرار العصافير

تبني أعشاشها وتزقطط

لاحظي أن هذا معناه

أن تترك فضلاتها يوميا على كتفيه

دون أن يتنبأ بكسوة جديدة

الجميلات سيفتحن شرفات في أحلامهن

تطل على الشجرة

وهو بالتالي سيصبح ضيفا دائما على صباحاتهم

دون أن يخجله هذا…

هذه الكوفية

هي القمر…

وأنت تصنعين القمر

هذا الرغيف الأبيض

اطحني الدقيق جيدا

ضعي كل حفنة جوار أختها

وانتبهي لأنينها

وقد كانت سنابل

انتبهي لحسرة السنابل

وابك لو شئت

بعدها

ضعي الرغيف حول رقبته وعلى كتفيه

وهو سيأخذ طريقه إلى ضحايا المجاعات

سيكون سانتا كلوز الذي يتمنونه

والذي يزودهم

في كل حلم بلقمة…

وفي كل حسرة ببئر

سيقف بينهم

وهم يأكلونه

ويبتسم ..”

تلك القصيدة “تصنعين له كوفية” هي النموذج النموذجي لما ينبغي أن تكون عليه قصيدة النثر، الكوفية مرة زورق يتشبث به غريق فيفلت إلى قاع البحيرة، ليحيلك السياق لصورة جمجمة، لا ليست الصورة التقليدية للجمجمة رمز الموت الزؤام، ولكن صورة رومانسية جديدة للجمجمة ملتقى لعملات العشاق، لرسائل الغرقى التي بثوها آمالهم الأخيرة ثم قضوا، لتصبح الكوفية وما تحمله من دلالات الدفء و الحميمية رمزا متحولا،هي زورق أخير يتشبث به الغريب حتى تكل يداه  فتفلته لتكون مفتتحا لصور ذهنية متتابعة بالمقطع الأول من القصيدة ، ثم تتحول ذات الكوفية  في المقطع الثاني إلى شجرة تستمد خضارها من لون عين الحبيبة، لتدخل لفظة “الكلوروفيل” ذلك المصطلح العلمي المتحول من دلالاته العلمية لدلالة شاعرية جديدة فرضها السياق الشعري لمفردة رومانسية مراوغة مرادفة لاستمرار الحياة ، ثم التوحد مع الشجرة وكونها مستقرا  ل”زقططة” العصافير وملجأ ، ولاتفوت مخيلة الشاعر تدوين مشكلات الشجرة من تراكم فضلات العصافير مع اليأس من ورود كسوة جديدة، ولكن ما الضير من ذلك ف ” الجميلات سيفتحن شرفات في أحلامهن

تطل على الشجرة ”

هو تعويض عادل لكل ما سوف تلاقية الكوفية/ الشجرة من مشاكل .

تتحول الكوفية إلى قمر في المقطع الثالث، لا يثبت القمر كثيرا على هيئته الرومانسية، إذ يتحول في الشطرة الرابعة من المقطع الأخير من القصيدة إلى رغيف خبز يجتر ذكريات سنابل القمح الغضة الحزينة ، لتتلقفه أيدي الجائعين  في بلاد المجاعات القصية ، ليتحول إلى “سانتا كلوز” ليذكرنا الشاعر بتلك النزعة الإشتراكية التي سيطرت على سلفه من شعراء الستينيات و السبعينيات” نحن نحب الورد، ولكنا نحب القمح أكثر “لتتأكد تلك النزعة مع قصيدة “عامل المحجر” حيث يتقمص الشاعر ذات عامل المحجر المنسحق مع رفاقه العمال لا لشئ  إلا  لمجرد لفت نظر حبيبته مقابل نيل ابتسامة رضا من عين الحبيبة

” … سيقال لنا جميعا:

لقد فرحت بما فعلتم…سأبتسم مثلهم حميعا، لكنني وحدي من سيبتسم قلبه على اتساع العالم، العالم الذي تنيرينه يا حبيبتي”

حيوية الصور تلك وتنقلاتها العجيبة ودينميتها التي لا تعرف السكون هي العامل المشترك الأعظم في بقية قصائد الديوان.

لنتوقف على خاصية أخرى تمثل تيمة متكررة وهي توحد الذات الشاعرية مع كل ما يصادفها من مفردات الكون لتعاني معه مأساته و مشكلته الوجودية ، يتضح ذلك مع التوحد من أول قصيدة مع أزمة الاختيار لدى الشياة الشاردة عن قطيعها لتذكرك بمقولة روسو الشهيرة ” أفضل الحرية مع الخطر عن العبودية مع الأمن”

يتوحد الشاعر على عادته مع قط ، أيضا هو قط باحث عن ذاته المنسحقة هاربا من مأساته  الخاصة ولكن  إلى  أين، إلى ما سوف يلقاه من عنت الاختيار ..

“يهجر القط مكسور المخالب بيته النائي

في الطريق إلى المدينة

إلى صندوق قمامة كبير

أو إلى شقة مفروشة لا ساديين فيها ..”

يحتل الشاعر ذاكرة القط برهافة ملحة..

“يهجر ذكرياته عن الفئران التي تملأ الحقول ..

متذكرا أنها كلها تحفظ له ذكريات طيبة

ورقصات مسلية

تحفظ قصة حبه لقطته السمراء عن ظهر قلب..

تحفظ الشوارع التي سار فيها

والشجارات التي أفتعلها حتى ينقذهم من مصايد محققة ..”

ولكن ما سبب هجر القط لعالمه الآمن، ليست مشكلة الحرية و الاختيار هذه المرة ولكنها  مأساة الفقد والاغتراب ومحاولة الهرب من قدر محتوم، يذكرك بطوفان أحلام القرويين الفارين من شح وفقر قراهم للعاصمة منزوعة القلب ، متحجرة الأحاسيس…

“عن ظهر قلب أيضا

يهجر كل هذا ويرحل باتجاه المدينة

وهو بلا فراء ، وبلا رقبة ، وبلا عينين

جسد مفكك يجر في أسنانه جثمانها

جثمان السمراء ..أو هكذا ظن..”

نعم هو أيضا من مفردات الكون المفجوعة المعبرة عن ذات الشاعر المفجوعة أيضا إما لتشابه التجربة أو لمجرد التوحد مع هذا المخلوق البائس لتتشابك بين موت بطلقة نارية غادرة أو بفراق لا يد لنا فيه ، ربما كان بحثا عن عالم جديد بقوانين جديدة و

إن كان الثمن هو التضحية بالوجود المادي الفيزيقي ربما نلقى مصيرا أسعد في عوالم الميتافيزيقا .

“لا شيء سوى

أن طلقة صائد الكلاب الضالة

لم تفرق بين سواد الليل، وسواد جذعها

والسيد صاحب البناية الكبيرة التي في منتصف الحقول ..

لم يفرق بين متعته بصراخ قط يسلخ حيا

وبين متعته بصراخ المساجين أسفل داره الكبيرة ..”

كثافة رمزية عناصرها ، صائد الكلاب ورصاصاته العشوائية / صاحب البناية السادي ، عوارض الحياة التي تصيب فتهلك / وغفلة  الوعي المتلهي عن أحلام المنسحقين بمتع لا طائل منها سوى التلهي انتظارا للمصير الطائر كرصاصات صائد الكلاب .

ليظهر الشاعر أخيرا في نهاية القصيدة ليعبر عن حيرته وعجزه عن سبر غور ماهية الصور المحيطة وميكانيزم ترابطها .

“وكاتب هذه الكلمات لم يفرق أيضا

بين كل هذا..

وبين نيته ..وهو يخط أولى هذه الجمل

في أن يصف ألم روحه

روحه هو

هو فقط…”

ماذا ستفعل فراشة إن وقعت في مصيدة، و ما الحيلة إن كانت هذه المصيدة هي حنجرة الشاعر، لتستحيل الحنجرة لضريح تطوف به الفراشات مبتهلة تقص سيرة الفراشة المحتجزة ، لم يكتفي الضوي بالتوحد مع الشاة و القط بل يتوحد مع فراشة في أزمة …أيضا قصيدة نثر ملتحمة مع قصة قصيرة بكل خصائص القصة القصيرة من تكثيف ووحدة زمن ووحدة شخصية ومصير واحد..

“منذ سنوات بعيدة

ابتلعت فراشة وأنا أغني

فراشة طارت إلى حنجرتي، كما تفعل الفراشات باتجاه النار ..”

مفتتح قصة قصيرة بامتياز ..

“ليس صوتي جميلا، ولا أعرف ما الذي جذبها..

حاولت لفظها كما فعل الحوت بيونس…

زرعت لها على سور نافذتي يقطينا

وسربت لها الدعاء المناسب

لكنها لم تخرج ..”

استحضار تراثي موفق تماما ، وتبديل الأدوار بمهارة ملفتة .

“الآن تقف الفراشات على أنفي

وعلى رأسي ويدي وكتفي فجأة…

لست جديرا بمحبتهم،

ولا نورانيا بما يدفعهم للوقوف على جسدي مطمئنين..

إنهم يزورون أختهم التي تسكن وحيدة في الداخل ..”

ليقر الشاعر بكينونته الجديدة ..

“أنا شاهد قبرها،  أنا قبر فراشة”

ثم توجه الفراشة من قبرها الآدمي رسالة لكل الفراش الشارد بلا وجهة ..

“يا أخوتي إذا غنى هذا الرجل فأسرعوا إلى حنجرته،

إنها مزمار صالح للسكنى،

إن لم تستطيعوا فامكثوا قليلا بالقرب منا، فأنا وهو وحيدان..

وحيدان جدا ..”

لتعبر الفراشة عن تعاطفها مع وحدة الشاعر فهما أقدر على فهم مأساة كلاهما .

 يقسم الضوي ديوانه الصادر عام 2018 عن دار ” عابر” إلى توطئة مكونة من قصيدتين ،ثم الغرفة الأولى من ثماني قصائد،  ثم غرفة ثانية من عشرين قصيدة ، ثم غرفة ثالثة من خمس قصائد،  ثم غرفة رابعة من سبع قصائد، ثم غرفة خامسة من أربع قصائد.

حالة من الثراء تحيلك إلى محاولة شعرية ناضجة مكتملة ، تشير إلى موضوعات جديدة لتبرهن أن  قصيدة النثر قادرة  عن التعبير والعطاء و أنه ينتظرها مستقبل باهر على أيدي  شعراء في شرخ شبابهم وفي ذروة نضجهم كالشاعر الضوي محمد الضوي  ننتظر منهم المزيد والمزيد من العطاء ، وأن  شعراء الصعيد بمخزونهم الثقافي والمعرفي  مازالوا يمتلكون القدرة على السباحة ضد تيار هيمنة العاصمة الصاخبة الأنانية.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم