“ماكيت القاهرة”.. بين الاستعادة والمحو

طارق إمام ماكيت القاهرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

زهير كريم  

قبل الدخول إلى العتبات النصية الأخرى في رواية “ماكيت القاهرة” لـ “طارق إمام” (منشورات المتوسط، ميلانو)، سوف أشير إلى ما يتضمنه العنوان من تباين في المعنى، فالعلاقة بين المُجسّم الهندسي (وهو تصور مستقبلي)، وبين ماكيت القاهرة (النص الأدبي) وهو رؤية أدبية تسعى لاستعادة ماضي المدينة عن طريق التخييل، هي علاقة مفارقة، وهذه المفارقة سوف تتأكد عند دخولنا إلى المتن السردي، حيث يظهر واضحا التنافر في دلالة (الماكيت) أولا، لينسحب إلى صورة القاهرة نفسها، المدينة المستعادة من المحو، وهي غاية التصور الذي طرحه غاليري الفنون في مشروعه الثقافي. لكن هذا التصور يتباين مع المعمار الروائي الذي سيشيده الكاتب، فهو لايقدم لنا المدينة التي تنطوي على فكرة الاستعادة، بل يشيد بناءً متخيلاً، وبهذا التكثيف الإشاري للعنوان تحصل المفارقة.

(2)

العتبتان النصيتان اللتان تجيئان بعد الإهداء، تفتحان للقارئ المقاصد الأساسية لـ(ماكيت القاهرة) والتي تنطوي على فكرة أن الفرار من المدينة_ حتى لو كانت مرسومة في وجدان ساكنها على صورة الجنة_ هو الدليل على وجودها. من هنا سوف أنطلق في قراءتي للنص من فكرة الفرار ذاتها، والتي اعتمد الكاتب في تشيد معماره على ماتضمنته من رؤية جمالية، هذه الرؤية هي نوع من التطهير، يتجلى بعملية تقويض وهم المدينة المثالية التي لا يجب أن يمسها إصبع المحو، الإصبع المحشو برصاص الخيال، إذ يمكن لهذا الإصبع حين يوضع على جبين الأب، مع صوت بووووم، أن يؤدي إلى الموت.

(3)

يتساوق هذا المعنى الذي يكشف عن نفسه في هذه الرواية، مع رحلة ماركو بولو. القارئ سوف يكتشف أن الرجل (ماركو) تخيل مدنًا كثيرة لم تكن موجودة في طريق رحلته، مدنًا اخترعها كما لو أنها (ماكيتات) مشيدة بروح المحاكاة، طبقات عمرانية تنشأ من خراب ضروري لمدينة أصل، مدينة الرغبة أو الخوف أو الحب، هذه المدينة الأصل لن يكون لها الوجود الفعلي لولا تلك النسخ الكثيرة، المدن التي تنسخ اللاحقة منها السابقة، مدنٌ كل واحدة منها هي حكاية شخصية لساردها.

(4)

في الصفحة 348 من (ماكيت القاهرة) يقول الراوي: “لكن المفاجأة، أن الحكايات التي اخترعها الشخص عشوائياً للأشخاص الذين لا يعرفهم، أصبحت هي ما يحدث بالفعل، وكأنهم يحاكون ما يكتبه لهم. وماذا حدث بعد ذلك؟ ماذا جرى للشخص الذي دون حكاية؟”

وهذا السؤال في الحقيقة يستدعي المدينة الأصل، والتي يحاول طارق إمام الترويج لها، فالمدن حكايات، حكايات شخصية، لكل ساكن مدينته، نسخته التي يشيدها من خياله، من رغبته ومن خوفه أيضًا.

(5)

ويظهر الراوي في (ماكيت القاهرة) مخترعًا لمدينة كاملة من الخيال على أنقاض مدينة قديمة، مكان أصل هي القاهرة، كانت قبله قد تعرضت فعلا للمحو مرات عديدة وبأساليب ليس من ضمنها الكتابة بالضرورة أو الفن، لكنه في هذا (الماكيت) أرفق كذلك لكل شخص من سكانها حكاية، ولكل قارئ للرواية حكاية أيضًا، هي جزء من تصور الكاتب عن المدينة التي يريد، حتى تتحول الشخصيات نفسها، وحتى القراء إلى مجسمات، مصغرات تحاكي حجم المدينة التي اخترعها، فليس عدلًا أن يشيد المرء مدينته بحجم لا يتناسب مع مقاييسه، كما يقول في العتبة النصية: “الأمكنة تخلق قاطنيها، إن نشأت نسخة جديدة من بيت، ستنشأ نسخة جديدة من ساكن”.

(6)

في إحدى مدنه اللامرئية، يتحدث كالفينو عن المدن التي تولد من سؤال، من فم أبي الهول بالتحديد، هكذا تجسدت مدينة طيبة حسب الأسطورة، من خلال كلمة قامت، هكذا يخلق راوي “ماكيت القاهرة” مدينة مصغرة هي بديل عن المدينة الواقعية، ينسج شخصياته التي تتفاجأ عندما تخرج من الخيال إلى الواقع أن القاهرة اختفت، هكذا يحدث المحو، والذي في أصله عملية للبحث عن المدينة، في نسختها الأولى، باعتبار أن المدن الأصلية ليس لها وجود دون تكرارها، دون أن تخضع لعملية النسخ المتواصل لها.

(7)

ولكن كيف يتقبل القارئ هذه المغامرة في الكتابة، حكاياتٍ يصعب تصديقُها باعتبارها أمرا غير معقول، مع حضور وهيمنة ثنائية الصدق والكذب؟ التراث العربي يتحدث عن رجل اسمه (أشعب) أراد أن يطرد مجموعة من الصبية اجتمعوا حوله يلعبون وأخذوا يضايقونه، حكاية بسيطة، ساخرة ومؤثرة في نفس الوقت، قال لهم ليبعدهم عنه: هناك، في الجهة الأخرى من الطريق، جماعة من الناس يوزّعون الجوز والتمر على المارّة، فلمّا رآهم يركضون في الاتجاه الذي أشار إليه قام وركض معهم وقال في نفسه: لعلّ ذلك يكون صحيحًا!

هنا، في هذه الحكاية، تضمين لإشارة تتعلق بالخيال الذي صنع صورة لعالم غير موجود، لا أحد بالطبع يوزع الجوز والتمر، لكننا نستطيع أن نتخيل تلك الصورة المبهجة، صورة الأطفال الذين يحيطون بشخص يوزع الجوز والتمر، أشعب نفسه، يقر بهذه البهجة، بتأثيرها، فينسى الميزان، ينسى كفتي الصدق والكذب في الخبر، ويركض باتجاه الصورة المبهجة. أشعب نفسه لم يكن بالضرورة شخصًا واقعيًا، من يستطيع الجزم!

(8)

في الصفحة 14، يتساءل “أوريجا” ما إذا كانت الصورة التي في الماضي هي الوجه الحي، فيما الصورة الواقعية الماثلة أمامه (للمسز) هي الميتة؟ إنها طريقته في التعامل مع الماضي والحاضر، وكأن الطفولة هي الباقية أبدًا، إنها بيت المخيلة النشطة التي لا يفسدها الواقع.

(9)

في مدينة أخرى من مدن كالفينو، يدور حوار بين ماركو بولو، وبين الخان، ماركو يخبر الخان بكل المدن التي يعرفها، لكن الخان يقول إن مدينة واحدة لم تخبرني عنها: البندقية! فيبتسم ماركو بولو ويقول: وعن أيّ مدينة سواها تظنني قد تكلمت!

 “ماكيت القاهرة” هي رحلة خيالية أساسها الخوف، فالراوي الذي يمسك خيوط السرد، يبدو مذعورًا من فكرة اندثار المكان، يغمره نوع من النوستالجيا إلى ذاكرته، فيتسلل خوفه إلى شخصياته التي يحركها كما لو أنها مجسمات صغيرة، تحاول أن تتنفس داخل ماكيت هو في الحقيقة تصور يستعيد فيه المدينة التي اختفت عام 2045، فيصنع زمنًا مضطربًا بين الحاضر والماضي والمستقبل، لكي يستعيد فيها مدينته المهددة بالمحو.

(10)

الحكاية أو اللاحكاية، أو الذريعة السردية في “ماكيت القاهرة”، تعتمد على دعوة غاليري للفنون (شُغل كايرو)، لإنشاء مجسم للقاهرة قبل 25 سنة، ومن خلال الشخصيات الثلاثة؛ (بلياردو، نود، أوريجا) _ يضيف لهم في الفصل الملحق رسامة الكوميكس (مانجا)_ يمسك الراوي بالزمن ليكشف لنا صندوق الذاكرة، يعود إلى تلك السنوات البعيدة التي لا تخلو أحداثها من الهزائم، والانتصارات، إلى الأمكنة والشوارع والمقاهي والبيوت، إلى ميدان التحرير في إشارة إلى الثورة، إلى المطاردات، لكي يخفف من وقع الخوف الذي في داخله، إنها رواية عن الخوف من اختفاء الأمكنة، نوستالجيا لتلك الروائح القديمة التي تنبعث من الأزقة والبيوت في الأحياء القديمة، لكن غاية الرواية في الأساس هي الخيال، الفن باعتباره يقوم بعملية محو للنصوص والأسماء والمدينة، لكي يحافظ عليها، فكل محو هو حياة أخرى، وهو دليل على وجود سابق، حتى أسماء الشخصيات هي أقنعة لأسماء أخرى مُحيت، ولولا ذلك المحو لما استطاعت أن تواصل وجودها، على الرغم من الاختلاط في المصائر والتشابك في الأحداث.

في فقرة من كتاب (الأدب والميتافيزيقيا) يبحث “عبد السلام بنعبد العالي في أعمال (عبد الفتاح كيليطو). يتحدث في فقرة عن فكرة المحو في الكتابة، يقول إن الكتابة هي ميدان لتجسيدات متواصلة وتناسخات لا تنقطع… يتحدث عن الانتحالات باعتبارها الشيء الذي يجعلنا نضع أيدينا على التنظيم الذي خضعت له حيوات التأليف، فكل كاتب ناسخ، والنسخ هو إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، وهذا ما ينطبق على الأمكنة، طارق إمام في روايته استلهم فكرة المحو هذه، ليقدم لنا من خلال ماكيته، دليلًا على وجود سابق للقاهرة التي يمكن أن تُمحى وتحل محلها مدينة أخرى مثيرة للشعور بالاغتراب. الراوي في “ماكيت القاهرة” خائف من المحو، من لحظة الاغتراب، شغوف بالصورة الأصلية، لهذا وضع الحكاية في المستقبل، لأنها الطريقة الوحيدة التي تبرر خوفه، وهي في الوقت نفسه الطريق التي يستطيع من خلالها استعادة الصورة المعرضة للمحو. هكذا أثث طارق إمام نصه، خلق شخصياته، ووضع الحكايات بطريقة الدوائر المتداخلة، ليصنع لنا ما يشبه المتاهة السردية، عالم كامل من الخيال، من المحو والتأسيس، وليفتح أمامنا طريق الأسئلة عن المسافة بين الوهم والواقع، بين الخيال البديل لعالم حقيقي، وإلى أي مدى يمكننا الثقة بهذا الخيال ليصنع لنا مدننا، والتي تولد من الرغبة، وإلى أي مدى يخفف عنا عبء الخوف من الضياع في المستقبل، وإلى أي مدى يصنع لنا الخيال بديلًا عن موسيقى الحنين.

(11)

تبدأ الرواية حين كان أوريجا في عمر الخامسة، عندما اكتشف أن إصبعًا صغيرًا يمكن أن يتحوَّل إلى مسدس، إصبع لن يحتاج ليقتل سوى إلى قرار، وهذا كل شيء. إن الإصبع هنا هو أداة المحو، هو إصبع طفل، إصبع الطفولة رمز الخيال، والذي يمكننا بواسطته فعل أشياء كثيرة، القتل مثلًا. لقد قتل أوريجا كثيرًا حتى أصبح رأسه مقبرة جماعية لناس ما زالوا أحياء، قتلهم بواسطة إصبعه، لقد كان يصفي حساباته مع الآخرين من خلال تلك الحركة المتخيلة، إنها لعبة الخيال، لعبة الكتابة. في الصفحة 18 يقول في سؤال: ألهذه الدرجة يمكن أن يمحو مكانٌ متخيل المكان الحقيقي؟ مثلما رصاصة متخيلة أيضًا يمكن أن تمحو إنسانًا.

(12)

لكن هذا المحو لا يعني اختفاء الأصل وظهور الجديد كاملاً، بل إن الأصل يبقى مختفيًا او ظلاً مرافقًا للجديد، من خلال شخصية المخرجة الشابة (نود) التي رافقها قرينها (الرجل) منذ ظهوره في المرآة طفلاً حتى كبر معها، وسوف يشيخ كما تشيخ. إنها رؤية أخرى عن الكتابة نفسها، التناص، أو الاستلهام، واستدعاء القديم لتذويبه في الجديد كصورتين تتطابقان مثلا (كارتات لعبة الورق)، الثانية هي الأصل تحت الأولى الواجهة… لكن الأصل سوف يزحف على شكل خوف، حتى بدأت المخرجة تتخيل أنها ستقف يومًا أمام المرآة لتراه وحده، إنه الجديد الذي سيمحو القديم كليًا، أو يمحو القديم الجديد، صورتها الوحيدة، إنه نوعٌ من الحنين، الخوف من اختفاء الذاكرة، السيرة المشتركة للأصل والظل. كانت “نود” تخرج في كل مقابلة عمل مثل مرآتها لكي تتأكد من ظلها، إنه نصف وجودها، وبدونه سوف ترتبك حياتها، ولن تعود هي. هذا هو التكرار الذي يذكره عبد الفتاح كيليطو، في كتابه (الكتابة والتناسخ)، وكما يعبر الراوي في “ماكيت القاهرة” عن ذلك: “كان صوت العجوز كما لو أنه يخرج ليرتد لنفسه، كأنها تتحدث لشخصٍ جالسٍ في داخلها”، وهي نفسها العين التي استولت على بلياردو، وكأنه ولد للتو بشخص آخر، حتى أنه شعر بأنه وريث مخلفات مبدان التحرير. الإشارة إلى ما بعد الثورة: إنها عين الهزيمة، الغارقة بالدموع، والتي تتجول بصاحبها في ميدان التحرير ليكتشف أن هذه المدينة قد تغيرت كثيرًا، مدينة مهزومة تربض الدبابات كأنها لعب صغيرة تم تكبيرها. (في الصفحة 32) يقول: “ما فقده شخص ليعثر عليه شخص آخر، وما ضاع سهواً ليعثر عليه عن قصد! كان هذا انتصارًا للص ليس مضطرا ليسرق ما يريده … ولقد كان بلياردو يجيد تضليل الذين يتعقبوه، فالهروب كان مهنته”. هذا هو التناسخ في الكتابة، أنها عملية تضليل وهروب.

(نود) في الصفحة 55 ترسم ثلاث دوائر واحدة داخل الأخرى، تقلب قلم الرصاص وتمحو الدائرتين الخارجيتين، لتبقى الدائرة الصغيرة بينما آثار الدائرتين الأكبر باقية.

(13)

لقد كتب طارق إمام، كما أظن، روايته بدافع الحنين، بدافع الخوف من تغيير المدينة، إنها مساحة خاصة بذكرياته، حتى عندما طلبت (المسز) من أوريجا أن يرسم المكان الذي يحب أن يبدأ به، من بين عدة اقتراحات في القاهرة. قال: سأرسم بيتي. إنه بيت الطفولة، المخيلة، وهو فضاء المواجهة، فالحنين إلى المكان ليس بالضرورة أن يكون حنينًا إلى الأشياء الجميلة، بل هو شعور متماسك يشمل الهزائم والانتصارات، المكان بمعارفه وجهله، بعقلانيته وخرافاته، بالأحلام المجهضة، وبالحكايات ذات النهايات السعيدة.

وفي حوار آخر للمسز، في صفحة 40، تقول: أليس كل ما ندعوه أصليًا هو في جوهره محاكاة أيضاً لتصور موجود سلفاً في ذهن صاحبه؟ فيرد عليها “أوريجا”: إن الأصلي يصبح أصليًا فقط حين يُقلَّد.

(14)

لقد كان الهدف من إنشاء الجاليري هو استعادة القاهرة من المحو، على الرغم من أن المحو هو كل جديد، فهل كانت مقاصد طارق إمام تتعلق بتشييد معمار روائي يمحو ما قبله من تقنيات وأشكال في الكتابة السردية؟ محاولة أخرى للاختفاء عن هيمنة العمارة القديمة، وكتابة نسخة أخرى من أجل استعادة الأصل في نص جديد؟ أو ربما أراد طرح سؤال الوهم والحقيقة، مثلما يقول الراوي في (ماكيت القاهرة) صفحة 59: “إن المتخيل هو تكذيب للواقع، ليس بنفيه أو إنكاره، بل بإعادة تشكيل بنيته”.

 

 

مقالات من نفس القسم