حوار مع جوليا كريستيفا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 30
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  ترجمة : سعيد بوخليط

*صامويل دوك : قد يكون الأمر مثيرا حين الإنصات إليكم وأنتم توظفون العبارة الشهيرة لأوجست رونوار :”يرسم الفنان باستمرار نفس الشجرة”. مع ذلك !فهذه الشجرة التي ترسمونها من الأعلى إلى الأسفل، على امتداد الفصول، بكلمات وألوان، تغير باستمرار شكلها ومنذئذ ليست قط نفس الشجرة !تضمون هذه الرؤية إلى اللانهائي. أود معرفة كيف تلقيتم نجاح كتابيكم الأوليين سيميوطيقا(1969)، وكذا ثورة اللغة الشعرية(1974)انطلاقا من روافدهما النقدية الواسعة؟

*جوليا كريستيفا :فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال، لايرسم فنانو الحداثة هؤلاء،  الانفجاريون، وأصحاب الأصوات المتعددة، قط الشجرة، بل يجسدون الشجرة نفسها :أشار بودلير سابقا إلى ذلك. تقولون ”نجاحا”؟لم أنتبه. تحقق الانتشار أولا ضمن دوائر ضيقة، ثم استفاد من الأثر الحاسم لحلقة تيل كيل على الحياة الثقافية. ولم أتلق سوى ردود فعل إيجابية. وصلتني أصداء مفادها بأن المؤسسة الأدبية، وحرَّاس المعابد الكلاسيكية والأكاديمية لم يفهموا وأحسوا بانزعاج شديد. في حين، أبان مبدعون آخرون و كتّاب أكثر شبابا، عن تقديرهم. عندما، يقول لي اليوم”أشخاص كبار في السن يشغلون مواقع صناعة القرار”أو يحيطونني علما، بأنهم تأثروا بمؤلفاتي الأولى، بالتأكيد يترك كلامهم في نفسي انطباعا خاصا !مع ذلك أسائل نفسي ما الذي يتحدثون بشأنه. لم يكن لوسائل الإعلام هذا الحضور القوي كما الوضعية حاليا، بالتالي يتم بث”الأفكار الجديدة”عبر قناة الجامعات الجديدة التي تأسست بعد ماي 1968 من طرف الذين تسلقوا المتاريس، أو”دعاة المراجعات”، بمعنى المنشقين عن الحزب الشيوعي الفرنسي. هل يشكل موقفي سمة مزاج شخصي، خللا، أو عيبا : مهما حاولت الاعتقاد بأن الآراء حول منجزي تبقى أساسية، أحس في ذات الوقت بالتردد، وعدم الاهتمام. أكره شيئين اثنين :التسوق وكذا الانشغال بتلك التقييمات. إن فعلوا ذلك في حقي، أقدر صنيعهم، بحيث أجده مفيدا وأشكرهم، وإن لم يحدث لاأبالي ثم أواصل طريقي.      

*صامويل دوك :لقد أبدعتم مفاهيم مابعد-البنيوية، التداخل النصي، الحوارية، السيميوطيقا وكذا الرمزية(أحدهما خاضع للاندفاعات الجسدية، والثاني بمثابة الخطاب العقلاني، والتواصل المجتمعي)فصارت منذئذ متداولة بشكل واسع لدى الأوساط الجامعية. شخصيا تعرفت على تلك المفاهيم وأنا طلب في الكلية. إنكم تطورون وتضاعفون مسالك النفاذ صوب فكركم. وتعيدون خلقها. ثم بسرعة جدا اقتحمت أبحاثكم الطب النفسي.  

*جوليا كريستيفا : فعلا. حينما وجهت أولى طلبتي لانجاز أطروحات الدكتوراه نحو :”الملغز في الآداب”، حسب نصوص مالارميه ولوتريامون، فقد رافقتهم إلى دار الأطفال(باريس/3 ) :وثَّقنا ثم درسنا في المعهد الفونولوجي المحاكاة اللفظية المَرَضية عند الصغار. أيضا، أصدرنا جريدة بالتعاون مع الطلبة المقيمين في مستشفى لابورد :”ضد المرض النفسي”، وقد أُوكلت إلى جيزلين ميفر مهمة الإشراف على هيئة التحرير، بجانب انكبابها آنذاك على أطروحتها حول”لويس فرديناند سيلين”!إبان الحلقة الدراسية ”التحليل النفسي والأدب”، التي عقدناها في مستشفى الحي الجامعي، تطرقنا إلى الحالات النقدية للغة عبر الحضارات، من خلال مداخلات فرانسوا تشينغ(الكتابة الصينية)، ميشيل دو سيرتو (التصوف المسيحي)، مادلين بياردو (نظريات اللغة في الهند)، إيفا دو فيتراي ميروفيتش (الإسلام)، تيمات شكلت عناوين إصدار تحت عنوان : الحقيقة المجنونة(سوي1979). ستلاحظون بأنه خلال تلك الحقبة لم يكن هناك جهاد ولاقنابل بشرية. تمكنت بفضل التحليل النفسي، كي أتعمق عبر أحاديث مرضاي، نحو التجربة الباطنية الكامنة خلف الخطابات، وكذا الممارسات والنصوص الأدبية. ”التجربة الباطنية”مفهوم ثيولوجي، اشتغل عليه ثانية هيغل وهيدغر، وبشكل آخر جورج باطاي الذي انجذب نحو التصوف. لقد قادني فرويد صوب مراجعة ذلك ثانية، بالتركيز على الدوافع الجنسية وكذا أعراض الرغبة بين أبطال المثلث العائلي، والعلاقة الغرامية ثم التسامي بها من خلال الفن والأدب.

*صامويل دوك:في نهاية المطاف، شكلت الحدود القصوى ومجازفات الإبداعية التيمة المركزية لبحثكم النظري. انصب اهتمامكم على فنانين أعادوا صياغة البيان، اللغة، دون إلغائهما :هكذا أبدعوا بفضل قدرة هائلة على التداعي، والتركيب، نصوصا فريدة تدعو القارئ إلى التركيز وتمثل بهجة للتفكير. مثلا في كتابكم المعنون ب : (Polylogue) (1977)، اشتغلتم على فن الرسم خلال عصر النهضة (غيوتو دي بوندوني، فينشينسو بيليني)، وكذا الأدب المعاصر(أنطونين أرتو، جيمس جويس، فرديناند سيلين، صامويل بيكيت، جورج باطاي، فيليب سوليرز)، غاية دراستهم بواسطة العلوم الإنسانية. فكيف تختارون مجالات بحثكم؟

*جوليا كريستيفا :يعود أمر ذلك إلى وقائع شخصية، ثم اجتماعية أحيانا، وكذلك اختيارات عفوية، لاواعية تحرض تفكيري. زيارتي الأولى إلى إيطاليا، صحبة أختي، ثم المرور عبر فضاء مدينة بادوفا، واكتشاف لوحات جدارية رائعة لغيوتو في كنيسة سكروفيني. افتتنت جراء مشاهداتي. كنت قد أنهيت قراءة دراسة حول إدراك الأحمر والأزرق من طرف الرضع، مما وجهني نحو ترجمة هذا الافتتان بالإحاطة بدور اللون على مستوى التصوير المنبعث من السرد الإنجيلي. فيما يخص الحالة الكونية، التي انغمست فيها خلال فترة الحمل، فقد اكتشفتها بين طيات النظرة الملتوية نحو الداخل كما تجسدها لوحة جيوفاني بيليني :”العذراوات والطفل”. يلازم الرسام إيمان العذراوات اللاشخصي، بينما، مع لوحة ”فينوس أمام المرآة”، تحاول امرأة – قد تكون معاصرة- التقاط صورتها الهاربة عبر الانعكاس الدائري لِمِرآتين. حدس للوحة”امرأة في المرحاض” لصاحبها إدغار دوغاس ؟من ناحية أخرى، اضطراب صديق جراء فقده لأبيه، دفعه لتهيئ عمل حول بيكيت، فاختارني لانجاز عرض حول كتاب للأخير، غير معروف كثيرا عنوانه :”حب أول”، بحيث ينتبه الشخص، نتيجة تأثير وقع وفاة والده، العبثية العاشقة لمغامراته الجنسية. مثال أخير :ألهمتني الجماعات النظرية لحلقة تيل كيل، 44 شارع رين، مسألة التفكير في التحول وجهة التحليل النفسي على ضوء الجدل الهيغيلي، وكذا تبني مفهوم تباين الاندفاع. لاتؤثر”القوة”، عند هيغل سوى في ”ظهر المفهوم”، بينما لدى فرويد، تمثل الغريزة الجنسية منذ البداية تفاعلا متباينا بين الطاقة (الجسم) والمعنى(اللغة).

*صامويل دوك :طرحت الثلاثية التي أصدرتموها تبعا لعناوين : سلط الرعب (1980)، حكايات الغرام(1983)، الشمس السوداء (1987)، أفكارا متجددة حول الدناءة، الحب والاحباط. وقد اعتبر عديد من القراء بأن هذه اللوحة الثلاثية بمثابة حجر الزاوية ضمن سياق مشروعكم!

*جوليا كريستيفا :كنتُ ممزقة بين الافتتان الذي تمارسه كتابة سيلين، باعتبارها”أوبرا غزيرة”حقيقية، ثم أيضا استبعادي للهوس المميت الذي يطويها تبعا لمايسميه ب”اليهودية أو الموت”. لاأعرف كيف يمكنني الجمع بين هذين الرافدين إبان قراءتي، وتجنب الإقرار القائم :”كاتب كبير، شخص شرير”. جاءت أمي لزيارتي في باريس، ويعاني دافيد التهابا رئويا متكررا. صوب أريكة الطبيبة النفسانية إيلز باروند، حملت معي مباهج وكذا مآسي الأمومة : هل أنا ذات أو موضوع؟تعاطف أو استبعاد؟خاضعة و/أو مستقلة؟خلال إحدى جلساتي التحليلية همست لي مريضة وهي ممدَّدة على أريكتها، بأنها حلمت بمشهد من رواية “جسر لندن” لسيلين : اهتزاز عنيف، مرعب ”معاناة أمّ”، تمسك أمّ بابنها ويتقيآن. فجأة توقد انتباهي حينما تفوهت بكلمة :دناءة. ثم استطرت السيدة قائلة :”هذا ماتعيشونه أيضا، على وجه التقريب”. لحظتها، لم أكن أدري كفاية مايلزمني القيام به، سوى اليقين بأني أمسكت بحلقة مفقودة”الرابط”الذي يشكل ظاهرة سيلين. الارتياب بخصوص حدود الأنا/أنت، الشخصي/ اللاشخصي، الطاهر/المدنس، يمثل مجالا مميزا للديانات(انصبت طقوس التطهير على ذلك) والتجربة الجمالية (التنفيس التراجيدي أو الكوميدي يطهِّر انفعالاتنا). دون ضمانة دينية ثم تشظيته للأعراف البلاغية وتحليقه بها، فإن سيلين الساحر والمقزز، العاشق والممتعض، بدون ذات ولاموضوع، ليس بكوميدي ولامتألم، “دنيء”احترق بنار هذه الكارثة الهوياتية، ضحية الدناءة ومبشِّر بها. تتسامى نصوصه الروائية، بهذا القلق الذي لايطاق، يثأر من الأمومة، أو العكس، يجعلها مثالية في إطار السمو بالراقصة الصغيرة. في المقابل، مع صفحات عمله المعنون ب” كراريس”، ينتقل سيلين نحو الفعل السياسي وتقديمه الموعظة فيما يتعلق بإبادة اليهود-ضحايا المحرقة، أمثاله وإخوانه المستبعدين- فيبعث ذلك ضحكه وبكاءه، لكن دون تحسره قط…صوب هذه الأعماق غير القابلة للشك، قادني تحليل هذه الآخرية الأولى المثيرة للعواطف التي تتمثل في العلاقة المبكرة بين الأم والطفل.   

*صامويل دوك : ماقبل أوديبية العلاقة أمّ/طفل.

*جوليا كريستيفا : تماما. لم يكن عددنا وافرا للمجازفة، على آثار خطى دونالد وينيكوت، ثم سبر معطيات القديم ونتائجه الرؤيوية. فبعد كتابي”سلط الرعب”، حدث معي كما لو استسلمت بحركة بهلوانية، ضمن صفحات ”حكايات الغرام ”، على مقربة مشرقة بالأحرى حيال تنوع العلاقات الغرامية في الغرب : مأدبة أفلاطون، سِفر نشيد الأناشيد، نرجس وأفلوطين، القديسون واللاهوت، الشعراء المتجولون، الزنادقة، الرومانسيون، إلخ. وليمة ! أساسية بالنسبة لعشق التحول إلى التحليل النفسي، وكذلك مايتعلق بمنعطفات غرامياتي الخاصة.

*صامويل دوك :لقد أضفيتم على هذا النص”حالات إكلينيكية”وكذا تحولات معاصرة لهذا الشغف. لقد أدرجتم تلميحا شعريا جدا بخصوص إنجابكم لطفلكم :بحروف بارزة في الفصل المعنون ب(ستابات ماتر)(كانت الأمّ واقفة). هل تعلمون بأن هذا الكتاب أثار الرغبة لدى عدد كبير من القراء كي يبدأوا في ممارسة التحليل.  

*جوليا كريستيفا :صحيح، أخبرني بعضهم بأنهم لم يفهموا كل ماورد، لكنهم يتطلعون إلى الشروع في التحليل. أجبت بأنهم ماداموا في ضيافتي، فقد فهموا الضروري. حينما نعتتُ تجربة الأمومة ب الاعتماد الأمومي وكذا السعي إلى تطوير تعقّدها، فقد توخيتُ تبيان بأنها تحوِّل تجليات العنف الأولى بخصوص علاقة أمّ/طفل، أو الدناءة التي تحدثنا عنها، إلى”تيار ناعم”. تمنح الطفل إمكانية أن يصبح أول آخر. أول متلقٍ لعطاء، أبقيه على مسافة مني، أحدس وأعتني بخصوصيته، مغايري الذي أبادله نفس الثقة. إنه فجر لأخذ وعطاء دون مثيل. وكذا فجر الزمان. فأنا أقوم بسببه، من أجله وكذا الآخر. تعني جيدا (ستابات ماتر)(كانت الأمّ واقفة)اهتمام الأمّ، أليس كذلك؟نفتقد إلى خطاب معاصر عن الحب الأمومي.

*صامويل دوك :تطرقتم في كتاب الشمس السوداء، إلى لغزي الإحباط والسوداوية. هل أحسستم بهاته الآثار؟أين تكمن هذه الظاهرة المجتمعية التي تثير انتباهكم؟هل جابهتم ما اصطلحتم عليه ب”الإحباط الوطني”(1988 )؟.

*جوليا كريستيفا : يمثل كتاب الشمس السوداء الجزء الأخير، ضمن حلقات بدت فيما بعد أنها تشكل ثلاثية:لم أفكر قط في استمرارية مبرمجة. الإحباط؟فيما يتعلق بوجودي الفرنسي؟لا، صراحة، لم أختبر أبدا إحباطا حقيقيا، والسوداوية بمستويات أقل. صدقا، أؤكد ذلك !قد ينتابني إحباط عابر، سأم أو كآبة. في المقابل، زارني مرضى في فترة نقاهة بعض محاولات انتحارية، وكذا مرضى آخرون يعانون من اكتئاب فظيع تقريبا، لذلك يمكنني القول بأني عاينت معطيات اليمّ. تحضرني ذكرى، مثال آخر عن الصلة بين النظرية والحياة الحميمة. كنت أقضي عطلة، في منطقة كورفو(جزيرة يونانية). أفكر في أمي، وقد شد انتباهي، شبهها بالنساء اليونانيات الجميلات. ثم اكتسحني يقين معين، لامسني إبان جلسات التحليل، لكني تجاهلته. انتصبت السلطة الساحرة لأمي على ضوء اكتئاب أبيض. مثلما توجد”اضطرابات ذهنية بيضاء”. هذا الاكتئاب الضمني، قوض مفعوله في نهاية المطاف، ذكاء فذ ثم محيط أسروي مناسب. لقد عاهدت نفسي على أن لا يأسرني سياق من هذا القبيل، فلن أصير قط على شاكلة امرأة كتابي الشمس السوداء. لقد شكَّل لي”هذا القسم” دعامة على امتداد فترة تدبيجي لصفحات العمل. إنه أكثر مؤلفاتي تداولا عند القراء. فقط الآن استحضرت مختلف تلك التأويلات، نتيجة سؤالكم. لأن أمي أخفقت في الإقامة بفرنسا، فقد توخيت جعلها منفتحة على عالم آخر، وثقافة مغايرة حيث يمكنها التحرر من تلك السوداوية الضمنية. طريقة للتخلص من عقدة شعوري بالذنب حيال الظل الأمومي، ثم استيعاب بأن تحاشيا من هذا النوع بدَّل اتجاهي عن الأمومة، غير أن تحليلي لذلك، وجهني كي أعيشها.

*صامويل دوك :في كتابكم :”غرباء عن ذواتنا”(1988)، ساهمت مقاربتكم للتحليل النفسي في تبلور فهم جديد للهجرة، المنفى وكذا الغيرية. نشعر مرة أخرى بإحساس أكثر قوة، وحميمي جدا، أسال مداد قلمكم مثلما كان الشأن بالنسبة لأفكاركم.                 

………………….         

*مصدر الحوار :

جوليا كريستيفا : حوارات مع صامويل دوك؛ فايار 2016، ص(182- 189).

                 

مقالات من نفس القسم