حلمٌ فاترٌ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 18
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

أغمضتُ عيني على دمع.. كلما أغمضتُ عيني فارت أحلامي..

 رأيتُ أمي تشبك أصابعها وتهمسُ لنفسها. كلما تحدثتْ أمِّي وشبكتْ أصابعها أعرف أنها حزينة، تكتوي بلظى نار توشك أن تجهز عليها. رأتني أحدق في وجهها، ابتسمتْ وَفَرَّت بنظراتها بعيداً في محاولة إخفاء حزنها. لا أحاول أن أسألها عن سبب ذلك، حتى ولو فعلتُ فلن أحظى بجواب منها. اقتربتُ منها، ارتميتُ في حضنها. طوقتني بيديها، لم تعد يدا أمي بالقوة التي كانتا عليها من قبلُ.

تَطَلَّعْتُ إلى وجهها، غاضت ابتسامتها. ودلت تقلصات وجهها على مدى عمق جراحها، فاستجابت نفسُها لرغبةٍ طارئة في البكاء، انسَلَّت مني. اقتربتْ من النافذة، أطلَّتْ وحدَّقت في الفراغ. أحدِّقُ في  أمي.. أقتربُ منها أكثر، أُحدِّقُ فيما تنظرُ إليه.

اليوم تَجَرَّأْتُ وسألتها.. رأيتُ عينيها تركضان في جميع الاتجاهات باحثتان عن منفذ للهروب من أسئلتي.  التفتتْ حيث أقف،  وعادت إلى النافذة، أطلت، ظلت للحظة تنظر إلى السماء تتابع طيوراً تحوم وتعود وتحط على أعراش الشجرة الباسقة. ابتسمتْ.. قطفتُ فرحاً من ابتسامتها. قالت:” هو ألم بسيط، بتناول بعض الأدوية، سرعان ما سيزول، هكذا قال الطبيب المعالج”، ودلت تقلصات وجهها على مدى عمق جراحها، وفترت رغبتُها في الحكي، وبقيت، أنا، سجينَ صمتها.. أفكر في أمر أمي وهي كشمعة تَسِحُّ ولا قدرة لي على التخفيف مما تعاني منه.  ليلة أمس سمعتُ صرير بكائها الحاد والعنيد يكسر الصمت، رغم محاولتها إخفاء ذلك عنّا، نحن أبناؤها. كان النشيج يمزق صمت الليل، وتتمزق معه أشياء في داخلي..

سافرتْ أمي..

سَفَرُها صبحة أبي لزيارة الطبيب المعالج دام أكثر من شهر، عاد أبي مَرَّةً أو مَرَّتين إلى المنزل، خلال هذه الفترة، للاطمئنان علينا، كل مَرَّةٍ كنا نسأله عن أمي تكون إجابته مختزلة وغامضة:

 “سنعود في أقرب فترة.. حضوري إلى جانب أمكم في هذه اللحظة ضروري.. ستعود أمكم معافاة..”.

 عشنا، أنا وإخوتي، خلال هذه الفترة، فتراتٍ عصيبة، الفراغ الذي خلفه غيابُ أمي لم يكن يخففُ من وطأته سوى حنو جدتي علينا، والتي رغم تقدم عمرها استطاعت أن تخفف عنا بعضاً من فراغ وحزن.. اقترب أبي من جدتي، همس لها بكلام، ندت عنها آهة تَنِمُّ عن معاناة.. حاصرني حزن عميق..

 وَدَّعنا أبي، وغادر. دخلت جدتي غرفتها، انفردت بنفسها وغرقت في نوبة بكاء. سرتْ شائعة بين الجيران أن أمي تعاني من مرض عصيب، وتكفلت الألسن بسرعة نقلها، غدت الشائعة أمراً واقعاً..

عادت أمي تتكئ على أبي وعصا، تستعين بهما على المشي. جسدها هَدَّهُ المرضُ، نظرتُ إلى وجهها، الحزن رسم ظلالاً عليه، جحضت عيناي وبثتا حيرة ودهشة حينما رستا عند قدميها، في الحقيقة رستا عند قدم واحدة لأن الثانية تمَّ بترها. أتقدم منها أحاول أن أحضنها، يطلب مني أبي عدم إتعاب أمي، لأن لا قدرة لها على حملي واحتضاني،  أبتعد عنها، أقتربُ من النافذة.

النافذة تنضح بنور شفيف لقمرٍ يداعب وجهها، عيناها مازالتا راغبتين في البكاء.. رنوت إلى الساعة الجدارية مضى الوقت أثقل من الموت.. غمغمت شفتاها بكلمات لم أستوعبها.. انعكس شعاع الشمس على ضلفة النافذة الزجاجية.. في الخارج، الشمس تسحب أهدابها وتختفي في الأفق. تُظْلِمُ الدنيا.

تمنيتُ لو أن الحياة تنبض بالأحلام والأماني.. وتسكب فائضاً من الفرح كما سكبته في ليلٍ ابتهج قمرُه..

كان الحلم حلماً فاتراً.. بدأ النوم ينأى عن عيني..

فتحتُ عيني على دمع.. ماتت أحلامي..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون