خطوات صناعة المجد

شيرين فتحي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شيرين فتحي

منذ عهود اعتبر من سوء الفأل أن يُطلب من الساموراي إجراء “الكايشاكو”. لأنه إن نجح فلن يحصل على أي مجد، وإن فشل فسيلحقه العار طول عمره.

لا تعرف كيف طاوعتها يداها على الإقدام بمثل تلك الفعلة. رغم أنها أخذت وقتها الكافي للتفكير, ورغم ذلك بدأت تشعر ببعض الندم حيال ما اقترفته. خاصة أنه لم يعد يفصلها عن الصباح إلا عدد قليل ومحدود من الساعات.. بينما لا هي نجحت ولا فشلت في ما كانت تصبو إليه. ما يفصلها عن استيقاظه ساعات قليلة بعدها ستجد نفسها محاصرة بعدد لانهائي من الأسئلة.. ستجد نفسها متورطة في شرح خطوات الانتحار على طريقة السيبوكو اليابانية, ستخبره أنه من فرط اضطرابها غفلت عن بقر بطنها, تلك الخطوة التي كان من المفترض أن تقوم بها أولا.. لقد جهزت سكينا طويلا من أجل تلك الخطوت بالذات.. فكرت في البداية أن تغرس القلم بدلا من السكين.. لكن القلم لن ينفذ في داخل بطنها إلى العمق الكافي, ولن يتحرك في داخل تجويف البطن بطريقة سلسة وقاطعة.. حتى لو نفذت فكرتها الأولية وجعلته ينفذ من تجويف السرة الموجود في منتصف بطنها تقريبا.. تلعن نفسها للمرة الخامسة لأنها نست تلك الخطوة المهمة, وبدلا من أن تبدأ بها. ابتدأت بالخطوة الثانية.. قامت بفصل رأسها عن عنقها ببعض المهارة. احتاج الأمر منها لعدة أسابيع تابعت فيها العديد من الفيديوهات الدقيقة لشرح تلك العملية, تابعت الخطوات حتى تأكدت من قدرتها على القيام بمثل تلك الفعلة حتى وهي تغمض عينيها كل مرة في اللحظات الأخيرة لتلك المشاهد. كانت تعرف أن تلك الخطوة هي الأصعب والأهم.. لدرجة جعلتها تتخطى المرحلة الاولى وتبدأ من الثانية عن غير عمد.

استطاعت أن تفصل رأسها جزئيا عن العنق, مبقية جزء من جلد العنق ولحمه على اتصال بالرأس كي لا يسقط منها تماما. إنها نفس الطريقة التي انتحر بها يوكيو ميشيما .. سيتأفف منها حين تتلو عليه اسمه لأنه لن يتعرف عليه. بالطبع لن يعرفه حتى بعدما تخبره أنه صاحب رباعية بحر الخصب واعترافات قناع.. تعرف أن وضعها سيزداد سوءًا حين تخبره أنها أقدمت على الانتحار من أجل إخفاقها في إثبات نفسها ككاتبة.. تنتحرين من أجل حفنة من الورق !! سيوبخها متعجبًا.. تعرف أنه لم يقتنع أبدا بفكرة احترافها للكتابة.. الكتابة مهنة لا تناسب النساء ولا تناسبها هي على الأخص.. هي لا تملك المقومات المطلوبة, كل تلك المقومات البعيدة تماما عن المؤهلات المعروفة للكتابة.. سيزيد توبيخه لها من تعقيد الأمر ومن تفاقم إحساسها بالألم. سيخبرها أنه طالما أخبرها بأن كل الروايات والقصص الموجودة في هذا العالم بلا جدوى, إنها لم تغير أحدا ولا حتى حدثا واحدا على الإطلاق.. كلها مجرد محاولات فاشلة وإدعائية.. القصص لا تفسد مخططات الأشرار, ولا ترد للمظاليم حقوقهم , إنها تُكبر المأساة وتُكبر عجزنا حيالها , إنها لا تدفعنا أبدا للتحرك. ما يبدأ على الورق ينتهي أيضا على الورق. المسافة شاسعة جدا ما بين الورق والواقع.. مسافة لا يمكن اجتيازها ولا تعديها إلا في خيال الكتاب الخصب أو المريض بصيغة أدق.. نعم هي أصبحت تعرف هذا جيدا الآن.. أصبحت تؤمن به في اللحظة التي قامت فيها بفعل الكايشاكو.. لكن لا هي نجحت ولا فشلت .. أي لن يطالها مجد ولا حتى ستلحقها هزيمة تجعلها موضع شفقة منه ولا حتى من أي إنسان آخر.

نعم هو لن يتعرف لاسم الكاتب الياباني.. لكنه قد يتعرف إلى طريقة القتل حين تنطق اسمها وتشرح خطواتها أمامه. فهو مولع بمشاهدة الأفلام الدموية, خاصة التاريخية منها والتي توثق مشاهد القتل والتعذيب.. يعرف معلومات لا نهائية عن كل وسائل التعذيب على مر العصور, حتى لأنه يحتفظ بسكين في درج الكومود المجاور لمكان نومه على الفراش.. حين اكتشفت الأمر وواجهته به.. لم يقدم تفسيرا واضحا وعوضا عن ذلك اكتشفت في الليلة التالية قيامه بوضع سكين آخر في الدرج المجاور لها.

قررت أن تخفي عنه الحكاية برمتها قليلا حتى ترتب بعض الأمور في رأسها, خاصة أنها لم تعد حسابا لفشل خطوتها الذي كان محسوما بالنجاح..مسحت آثار الدماء التي اندفعت بقوة خارجة من الشريان الجانبي للرقبة.. حاولت استدعاء كل ما تبقى من قوتها لمنع المزيد من الدماء من الخروج, فعل أشبه بتمرين قوي لشفط البطن والتنفس بأقل قدر ممكن من الأوكسجين.. هكذا تخيلت الأمر قبل أن تقوم بتنفيذه والغريب أنه قد نجح بالفعل, نجحت في منع المزيد من الدماء من التدفق.. احتاج الأمر منها الكثير من التريث والتركيز فيما تفعل كيلا تغفل وتفقد إحكام سيطرتها على عضلاتها وتنفلت الدماء منها فجأة لتفضح خيبتها.

أخيرا هل الصباح الذي منَّت نفسها ليلة أمس بألا تراه. استيقظ الزوج مطالبا إياها كالعادة بإعداد الفطور.. وضعت كفا على رأسها المخلخل..ضاغطة عليه بخفة كيلا ينفلت منها ولا تنسحق الأوردة مفجرة المزيد من الدماء. استطاعت بالكف الآخر والوحيد المتبقي بعد تثبيت الثاني فوق رأسها. استطاعت أخيرا أن تقلي ثلاث بيضات, وتقطع مكعبات صغيرة من الطماطم فوق قطعة الجبن ودعته لمشاركة الإفطار.. استغرب لمنظر الكف المستقر دون حراك فوق رأسها, عللت الأمر بنوبة صداع عنيفة كادت أن تفتك برأسها وتتنزعه من مكانها. هكذا قالت دون أن تنتبه لأن ما قالته كفكرة مزعومة قد حدث تقريبا وبصورة حرفية. أظهر بعض التعاطف مع ألمها.. وداعبها بحديثه عن وجبة الملفوف التي كان بصدد انتظارها اليوم كما وعدته.. مهتما بذكر تفاصيل الطعم والرائحة الشهية التي تجعله يلتهم أصابع الملفوف حتى من قبل أن يكتمل نضجها. يؤكد عليها ساخرا أن هذا النوع من الورق الأخضر هو الأكثر أهمية ما بين الأوراق.. لا يحتاج الأمر منها لأي  ذكاء كي تستنبط أنه يقصد السخرية من نوعية الورق الذي تقضي أغلب وقتها معه. نعم هي تجيد صناعة الملفوف كأمها التي لقنتها طريقة خلطة الأرزوطريقة اللف والرص.. تجيد لف الكرمب وورق العنب وورق الخس.. تجيد سقايته بمرق ساحر.. يتشربه الورق لتتصاعد أبخرة معبأة بروائح يصعب مقاومتها. لكن شهوة الورق الأبيض شهوة من نوع خاص. شهوة معقدة الشرح والتفسير خاصة لمن لم يجربها.. شهوة تبدو بيضاء تماما, بلا طعم.. ولا رائحة ومع ذلك فهي بمجرد ما ان تتخلل الأنفس حتى لا تعود تغادرها أبدا كما لو كانت لعنة. لا يتعكر مزاجها تلك المرة من سخريته.. بل تورط نفسها في وعد تقطعه على نفسها بأن تعد له حلة الملفوف التي اتفقا عليها من عدة ليال فائتة. لا تجد صعوبة في فرد الورق المعد سلفا في مبرد الثلاجة .. ووضع خلطة الأرز قبل لف الورق عليها بإحكام.. يستغرق الأمر منها وقتا أطول من المعتاد لانشغال كفها الآخر بأداء مهمته في تثبيت الرأس. لا تغفل أيضا أثناء لف الورق وإتمام بقية خطوات الطهي أن تحافظ على انقباض عضلاتها منعا لتسرب الدماء من ثقب عرقها المفتوح. يمر يومها الطويل أخيرا ولا تشعر بالمأساة إلا في وقت النوم.. إذ أن اتخاذ جسدها لوضعية النوم الأفقية فوق الفراش لن تمكنها من حفظ الدماء.. لكن سريعا ما تأتيها فكرة أن تحكم إيشاربا تلفه من تحت ذقنها وفوق رأسها مرورا بوجنتيها كي تتأكد من تحكمها في الأمر جيدًا أثناء النوم.. لكنها تستيقظ فزعة على سيل خفيف من الدم ينحدر من عنقها مارا إلى صدرها .. ليتشربه نسيج قميصها القطني.. تتجه مسرعة إلى للحمام .. تبدل ملابسها بعد تأكدها من إخفاء كل آثار الدم من جسدها.. تقرر أن تؤجل فكرة النوم حتى تجد مخرجا مناسبا لروجها, اعتمدت على كميات زائدة من المنبهات تتناولها باستمرار كيلا تغفو. استمرت أيضا في تمرين قبض العضلات.. كانت تشعر بالسائل المختنق في داخلها وهو يعلو ويرتفع قبل أن تعيده بقوة انقباضاتها مجددا في نفس المسارات التي سلكها.. مرت سبعة أيام وهي على نفس الحال, تخفي الأمر برمته عن زوجها وعن الجميع… تتذكر كلمة “إن نجح فلن يحصل على أي مجد” وتغرق في مرارة الحسرة لكونها صارت أبعد ما يكون عن هذا المجد, فهي حتى لا تجرؤ إلى الآن على الإعلان عما اقترفت, ولو حتى أعلنته فلن تواتيها الشجاعة لذكر سبب قيامها بذلك. قررت في يومها السابع وبينما هي جالسة ليلا على كرسي المطبخ أن تعترف في الغد بكل شيء, وأن تترك رأسها المخلخل دون أن تثبته وأن تواجه مصيرها معه أيا كان, قررت أن تنزع كفها وإيشاربها المربوط من فوق الرأس.. وأن تترك تلك القطعة الباقية من اللحم لأن تقرر مصيرها كما تحب, دون أدنى تدخل منها.. أراحتها هذه الفكرة لدرجة أن بدأت تستشعر بعض بوادر الراحة والسعادة التي لم تشم رائحتها طيلة الأسبوع الفائت.. بدأت تفك انقباض عضلاتها.. سامحة لصدرها باقتناص أكبر حصة ممكنة من الأوكسجين.. ملأت رئتيها عدة مرات .. شعرت بآلام الدماء المحبوسة وهي تنفك وتذوب في داخلها شيئا فشيئا… شعرت بنشوى عجيبة، لم تختبر وجودها من قبل.. نشوى سرت في أنحاء جسدها كخدر, كلذة حملتها برفق إلى أول عتبات المجد واستسلمت للنوم.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون