رئيس الوزراء ناقدا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

زياد بوزيان

كنّا وكأننا في لعبة الإختفاء، عندما ظهر رئيس الوزراء البريطاني و هو يتحدث إلى حشد كبير من الشباب، حينا معلقا على مباراة في البيسبول تجري على المباشر، وحينا متحدثا بحماسة عن ضرورة التفوق الأنجلوساكسوني على سائر الأجناس. حينها كان بعض ممّن اختفوا فجأة من أمام أعيُني قد أصبحوا في "البلاتوه" رفقة رهط من شباب إنجليزي متحلِّق حول رئيسه.

كيف اخترق هؤلاء الأصدقاء المسافات البعيدة و وصلوا إلى هنا ؟ كم حاولت معرفة أين تكون قد اختفت البقية الباقية لكن دون جدوى. حتى أطلّ شاب عربي السِّحنة من بين تلك الحشود وطلب من رئيس الوزراء بدء خطابهُ فيهِم، فبدأ رئيس الوزراء يقرأ الأوراق المكتوبة ورقة بعد ورقة وهو يتوسط مقدمة الصفوف، التي يجلس عليها بمعية كبار الوزراء والمدعوين، وعقيلته التي كانت تمدهُ بدون انقطاع بالأوراق ليقرأها ويعيدها لها لكي تلُفَّها وترمي بها إلى سلّة المُهملات، كمن يرمي بكرة سلة من على بعد فائق، وكانت عقيلته تلك تتباهى بكونها رامية ماهرة محاولة إثبات موهبتها، حيث كلّما أصابت الهدف هتفت فتيات التشجيع الخاصات بفريق رئيس الوزراء والمرتديات لزي موحد، الحاملات لِاٴكر إسفنجية يقمن بالتَّلويح بها في صخب وصفير وزُعاق شديد كلّما أصابت العقيلة الهدف. وهكذا دواليك إلى أن توقف الحشد فجأة عن زعيقه، بما فيهم رئيس الوزراء الذي كان يصفق ويصرخ معهم، لعله يكون قد وصل في خطابهِ إلى لب الموضوع، وجوهره، فأحأح وارتبك ثم مسح جبينه متابعا :”أما اﻵن…أحم أحم، أما اﻵن سيداتي سادتي فأنا بصدد تقديم (...) إستقالتي” فزاد لتوه الصّخب وتعالت أصوات الصفير والعويل واختلط الحابل بالنابل داخل القاعة وخارجها حيث لم يصدق أحد ما يجري.. حتى رمت زوجتُهُ بالورقة كعادتها في سلّة المُهملات ليصمُت الجميع مذهولين مرهِفِي الأسماع لما هو آت من كلامه..

  فقد كانت لحظة حاسمة في تاريخ الأجناس التواقة إلى الحرية حقا، لحظة خشعت فيها الأبدان وتسمّرت، ورمشت فيها أبصار الشباب ثم جَمُدت وهمّت الأوداج تحمر والوجوه تصفر والأعين تدمع والشوارب تفتّر ثم تذبل، وظن الجميع أن نهاية العالم الحر قد بات وشيكا. و أن هناك من يهدد حياته وعلى المباشر؛ فاسترسلت المحطات في بث موسيقى بتهوفينية حزينة في وسط صمت وذهول مُطبق؛ إلى أن تحركت أخيرا يد أنثوية شاهدها الملايير حيَّة على الهواء وبكت لأجلها عروش وعروش، وذرفت مُشجعات فريق البيسبول لأجلها أنهارا من الدموع الحَرّة السخيَّة محيّرة ألباب علماء كانو مُصطفين متحلِّقين خلف حاشية الرئيس، وكُتمت فيها أنفاس الوطنيين الأحرار المتحرِّقين شوقا إلى تلك اليد التي تُنقذهم والعالم من هلاك حتمي.. فإذا بيد الرئيس تتلقف بسرعة البرق الورقة من اليد الناعمة وتتلوا ما كتب فيها :” .. أحم أحم .. علمت شباب أُمتنا ذُخر إنجلترا و ويلز، أنّ كل ما قِيل من قبل لم يكن سوى.. أحم أحم.. سوى سمكة إبريل” عندها تعالت الأصوات وعم الهرج والمرج إلى أن أطبق الظلام المفاجئ وأسدل الستار فأدركت أنها ساعة المغادرة، لابد من تلقف بعض المُختفين قبل أن يلوذوا بالفرار مع موكب الرئيس أو ينتقلوا رفقة طقْم الإخراج الى مكان بعيد بعيد، بين معِدّات كانت تحزم وآليات كانت تُشحن لبدء رحلة الليل الطويل..

   بيد أن هناك سكون وروعة نسيم في الخارج، برغم أن البُعد بين السرير والنافذة كان بعد العالم الحر عن العالم المستعبد. غير أنني خِلتُني في راحة وسكون بال من أمري عندما نهض من يُشبهني ليَطُل عبرها إلى الخلاء الليلي، في صفاء البدر والنجوم الحالمة فالكل نيام والكل صمتٌ واضطجاع إلاَّ بعض عرير لصرصورِﹺ ليلي ؛ فما أحلاها ليلة حالمة هادئة مُنسّمة بنسيم مُنعش تُهيِّأ الأجواء ليوم مُشرق وحافل بالمشاهد المتنوعة… غداة هذا الهزيع المترهل من الليل الراحل مع الزمن إلى مكنونات من طلاسم داجية، وعوالم مختفية، شعر جسدي بقشعريرة، حيث ما كان نسيما منسابا أضحى بردا وما كان وهجا قمريا رومنسيا أضحى دكْنة وهجوع كأنه القهقرة أو توقف لقطار الليل عن المسير.. وفجأة أرعدت السماء وبدأت تسح تلك الغيوم من قطراتها، فنهضت مسرعا لغلق النافدة.. غير أنه يبدو أني تجاوزتها ورحت أمشي في الضباب حتى وجدتُ نفسي أمام إحدى الحانات اللندنية الشهيرة، وقد خرج منها أُقْنومان ثمِلان متصارعان وقد أهلكهما السكر حتى لم يقدرا على الشجار، فراحا يعربدان ويتبادلان اللّكمات والشتائم بلكنة اسكتلندية،  مُبتعدان ضاربان كل ما إعترض طريقهما ركلا ورميا حتى اختفيا صوب أفق غير منظور..

حين انزاحت ساعات الظلام وترآى نور الفجر كاد يغمى علي.. “و عزتك يا رب أين أنا؟” إنه لَعالم شديد التمدن، رصيف مصقولة وطريق ملونة وبنايات ضخمة عتيقة… يا إلهي إنه رئيس الوزراء بريطانيا ثانية.. إنه يقف بموكبه قبالة “البوش هاوس”، ينزل من سيارتهِ ويدخل المبنى الضخم المشرَعة نوافذهُ العديدة على الشارع الرئيس؛ إنه الآن رفقة مذيعي الbbc يتحدث إليهم ويقهقه دون أن ينتبه إلى من يراه ويسمعه في الشارع المقابل ” للبوش هاوس” قائلالهم: ” ﺃريد أن أحدِّثكم أيّها المُذيعين العرب عن أمير عربي، قِيل أنه ترك إمارته وغادر إلى المشرق العربي، أتعرفونه؟ كانت ملكة بريطانيا وجميع أحرار العالم أنذاك قد تعاطفوا معه.. كانت تحب أن لا يغادر برغم الغزو الذي تعرضت له بلاده على يد الإفرنج .. إنهم أعداءنا كذلك نحن الإنجليز..هؤلاء الافرنج المتعجرفون..”

  “– إن العرب يحبُّون الحرية وهم أشد الناس توقا إليها، فكيف لا يغادر هروبا من استعباد وإذلال الافرنج يا سيدي؟” رد أحد صحفيي “البوش هاوس”.

  “– طيب” أجاب رئيس الوزراء.. وأنتم كعرب تعيشون ببلاد الحرية ألا تشعُرون بالاستعباد واﻹذلال؟ قولو لي يا اخوتي.. إني أدعُوكم كي توفِروا بعض المال من رواتبِكُم كي نبني بهِ مجد العالم الحر.. نبنيهِ من اﻵن، من هاته اللحظة، بسواعد عربية وأقلام إنجليزية! وفجأة سُمع صوت العِربيدان وهما يصيحان : “- كاذب كاذب” ، خرج رئيس الوزراء مذعورا متعقبا مصدر الصوت ، فوجد الشارع خاليا إلاَّ من ضبابه وبعض القِطط والكلاب الضَّالة والحرس الشخصي محاولا إبعادهما عن المبنى وشخص مُرتدِﹺ لجِلباب مغربي؛ كأنه قد تاه لتوه عن فِراشهِ، أو تاه عن بيته فلم يعد بمقدوره تمييز بابه عن باب جيرانه، أو تاه عن بلده أو”عالمهِ المستعبد”. وكمن يبدوا متساءلا عن سر وجودهِ في هذا المكان والوقت لا يزال مبكرا ، فسارع رئيس الوزراء إليه محاولا إخفاء ابتسامة عريضة :” – أأنت مغربي؟ – أنت عربي أليس كذلك؟   لما وصفتني بالكاذب؟ “

 فردّ الرجل التّائه :” – كلاَّ ياسيدي حاشى أن تكون كاذبا، كيف تكون كذلك وأنت في إمبراطورية الbbc ، إنهما أقنومان أسكوتلانديان قد لعبت الخمرة بعقليهما”.

– أفهم من كلامك أن الbbc وقسمها العربي لا تكذب، ولا تحرّف الأخبار، أنا أقول لك أنها تفعل حتى في بلاد العدالة والديمقراطية.

 إنها تفعل أيُّها المغربي الذي لا أعلم من أين خرج.. إني قد كنت منذ فترة قصيرة في حضرتهِم، و وجدتهم يحضِّرون برنامجا اسمُه “قصص على الهواء” وهم يسألون المُحكِّم عن أسباب ترشيحه لقصة ” جريمة قتل على الهواء” فأعلمهم أنها احتوت على لغة مقبولة وعلى جمل سردية مكثفة ومباشرة. ولمّا تدخلت لأسالَهُ عن القيمة الأدبية للقصة ارتبك وفتح لي فاه، فلم يدري من شدة هوله إلاّ وهو يقول : ” – الحب؛ إنه الحب هو القيمة الدلالية للقصة يا سيدي”. فسألته ثانية : “-عن أي حب تتحدث.. إنها خيانة البطل وهو”مُذيع” لشريكَتِه، حسب ما فهمت، فهو قد خان محبوبته وقَبِل الطلاق منها. ثمّ إنّه هل تعتقد أنه لمجرَّد تبادل بضع إشارات يبدو ﺃنها توحي إلى عاطفة الحب كفيلٌ بلبس القصة معطفها الدّلالي ذاك؟ إنّ مضمون القصة من المفروض أن يكون قويا بما فيه الكفاية حتى يوازي قوة القصة لغويا وفنيا.. بل يجب أن يسيرا معا..”

 – أحسبُني أيُّها المغربي ﺃني قد تحوّلت إلى ناقد ولم أمارس النقد في حياتي قط، ولم أرى في حياتي كيف يقف رئيس وزراء إلى تزييف و تحريف كالذي وقفت عليه مع ذلك المُحكِّم الذي بدأ يتلون لي كالحِرباء، كمن جُبِل على خيانة الأمانة. لذالكم أنا أوصي دائما بالتريث قبل الحكم على الأشياء، وما برنامج “قصص على الهواء” إلاّ عينة من تلك الأشياء، فلو أنك شاركت معهم في برنامجِهم ذاك لبقيت الدَّهر كله مُهمشا أيها المغربي؛ سيتعللون مرة بقصور المغاربة اتجاه العربية، ومرة بقصور في الخصائص الفنية .. وسيظلُّون يمررون تفاهات الجنس اللطيف التي تصلهم مسبوقة أسماءهم بحرف الدّال و يتوجونهم كدأبهم، حتى ينالوا رضا لوبيا مندسا بينهم، متحكم في دواليب القسم العربي كله ينحدر معظمه من شبه الجزيرة وأطرافها.

“- لكن أنا فعلا بقيت الدهر أرسل بقصصي إليهم دون جدوى”. هذا اسم بلدي إذن الذي عطلني عن الفوز.

 فجأة إرتفع من داخل مبنى “البوش هاوس” صوت المخرج ومعد البرنامج وفريق مذيعي الbbc العربية مندفعين كعرمرم صوب مكان تواجد رئيس الوزراء مردّدين الاسم: ” مازيغ بوجلباب مغربي” عدة مرات ومُشيرين بأصابعهم باتجاهي، طامعين في أن يلمحهم السيد رئيس الوزراء ، كأنما يريدون أن يصبحون بين ليلة وضحاها ديمقراطيون مُتبجحون كدأب الشرقيين، حتى لا تنالهم غربلة ما أو عقابا أو تحويل من لدن رئيس الوزراء نفسه.

  بيد أنه لم يبق من ذكرى رئيس الوزراء غير صدى الكلمات تعيدها بنايات لندن الشاهقة، وخيط من سراب الضباب تذروه الرياح بعيدا. فقد غابت الديمقراطية وغاب الرئيس، وإذا بالبرق يبرُق والرعد يرعَد وأنهض مفزوعا لمغادرة رئيس الوزراء بهذه السرعة حتى ارتطم “نفوخي” بقوة لا مثيل لها بالخزانة، فأدركت أن ما اقترفه مُحكِّمي البرنامج في حق الإبداع كان في غياب الرئيس وليس لوجود الضباب. فيمينا قد فعل بي زمهرير المغرب المندفع عبر النافذة ما فعله بي ضباب لندن الرابض حول “البوش هاوس”، فأنا من اليوم لبناني أو مصري ولست جزائريا أبدا.

…………..

قاص من الجزائر

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون