حدث في مقهى أشرقت

abd alazeez diab
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد العزيز دياب

   لا أعرف بالضبط أي كائن كنت أحمل على ذراعي، لحم طري لشخص ميت، أم شخص يبدو كأنه ميت لكنه لا يزال على قيد الحياة. عندما تأخرت عربة الإسعاف عن المجيء تمخضت القرائح عن حلول موضوعية:

   ـ حد فيكم يشيلها.

   السيارات تمر مسرعة، لا يهتم السائقون بالأنثى التي أحمل على ذراعي، بإمكان أي واحد منهم أن يقوم بالمهمة وله الأجر والثواب. أتذكر أنني في لحظة ما لم أتحمل سقوط كارت الكوتشينة الذي يحمل صورة البنت على الطاولة بجوار الشايب أو الولد، أو بجوار أي كارت آخر من كروت الكوتشينة. هي فقط غمزة رشيقة من لاعب محترف لزميله، شاربه كث ومشعث، مبروم لأعلي وشبيه بشارب الريس “متقال”، رفع يده لأعلي وهوي دون رحمة بالبنت إلى سطح الطاولة.

   بعد جزء ضئيل من لحظة تضاهي سقوط جسد مدرس جغرافيا على الأسفلت ارتفع كارت البنت لأعلى كما ترتفع فتاة ساحر تمددت على طاولة، وارتفعت في الفضاء بطيئاً مع تمتماته وتلويحة قبعة يغترف بها من الفضاء ويسكب سائلاً وهمياً.

   البنت رشيقة تموج في الفضاء، ارتفعت أذرع الذين تحلقوا حول الطاولة في دهشة، يبتهلون في مشهد شبيه برقص تجريدي، لأعضاء فريق مسرحي يتمتع بأداء هابط.

   ـ انزلي…

   ـ انزلي يا حلوة بالراحة.

   ـ بالراحة، يا واش يا واش…

   ـ هئ هئ، هأ هأ.

   تحسسوا شواربهم وهرشوا ذقونهم أو أن الأمر كان خلاف ذلك وهبط كارت الكوتشينة الذي يحمل صورة البنت هبوطاً صاعقاً على الطاولة، أحدث ارتطام جسدها دوياً. اخترق جدار الطاولة إلى الأرض الكالحة المرشوشة بأعقاب السجائر، أحدث حفرة بمقاييس مثالية، فهل كانت الموسيقي الجنائزية تكلل المشهد لحظة سقوط أبله “انشراح” مدرس الجغرافيا بمدرسة “عادل ألفونسو” الثانوية” على الرصيف وهي بهيئة ورسمة تشبه البنت المرسومة على كارت الكوتشينة، لتدوسها الحافلات وأقدام البشر، هل كانت الموسيقي الجنائزية بنفس إيقاع مثيلتها في مقهي “أشرقت” لصاحبه المعلم “حنكوشة” الأحول؟

   نهر النيل كان حاضراً بمخيلتها بعد أن خرجت من حصة “الخنازير” على حد وصفها لطلاب فصل 3/4 أدبي، انشق فرع منه امتد بشارع “القصر العيني”، وجاءت شركة “المقاولون العرب” تشيد رصيفاً للكورنيش، قبل أن يزدحم بالحبيبة، والفنانين، والمتسولين، الرسامين.

   ـ ساعدوني يا بشر.

   أخرجت جسد البنت من الحفرة بباحة المقهى، حملتها على ذراعي، خرجت يحفني الزحام. ورائي رهط كانت الشياشي تبقلل أمامهم، ويسبح دخان سجائرهم عابراً الشوارع والأزقة على هيئات مراكب، وباصات، وسلاحف، وشجر، وجثث آدمية. يرتشفون فناجين قهوة معتقة وممزوجة بالهيل والحبهان، أعجبهم غرابة المشهد أو استفزهم، أو التبس عليهم. كانوا يثرثرون ورائي بأن شايب الكونشينة وولدها وكل الكروت ذوات الأرقام الفردية قد انسحبت من الكوتشينة وتعملقت تلتصق هناك بجدران المقهى في تظاهرة غريبة.

   كان المشهد ثرياً، قذف بجموع غفيرة من طلاب ومدرسي المدارس الفنية والثانوية والاعدادية بإدارة عابدين التعليمية في مسيرة حاشدة، انضم لنا المارة بالشوارع، وأصحاب الحوانيت، وطلاب الجامعات، المنتظرون بمحطة الباص، ورواد المطاعم والكافيهات. ارتفعت كاميرات الموبايلات ترصد التفاصيل دون أن نعرف إلى أي اتجاه سنمضي.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم