حريقٌ في القلب

عبد الهادي المهادي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الهادي المهادي

كان في ساحة الكُلية ينتظر مَقْدَم صديقه عندما انتبه إلى أنها تُراقبه، نظرةُ الإعجاب كانت بادية على محياها، لم يهتم بالموضوع كثيرا، فتجاربه مع مثل هذه النظرات عديدة؛ فقد كان من الوجوه المعروفة بين الطلبة مُناضلا في الواجهة، والواجهة هي ما يجعل “الفتيات” ينْتبِهن… ويَحْلُمْنَ !

في طريقهما إلى مسكنهما استأنسا للحظة بزهرات الخشخاش الحمراء التي نبتت على جانب الطريق، كانت ريحٌ ربيعية لطيفة تداعبها برفق، بينما طنّت نحلات هنا وهناك باحثة عن رحيق ما فتئ يَقِلّ.

كان المشهد يُغري بالعودة لحديث بدآه البارحة حول الزواج وما يطلبانه من مقومات و”شروط” فيمن ستكون رفيقة المستقبل وشريكته.

سنوات بعد ذلك، وبعد زواجهما واشتباكهما مع الحياة ومشاغلها، سيتذكران ـ ذات عشيّة وهما أمام البحر ـ ذلك الحوار، ضحكا كثيرا على أفكار بدت لهما حينها غاية في الرومانسية… ومع ذلك اتفقا أنها كانت بدفء البراءة وطعمها… كانا في حنين عارم لتلك الأيام التي لا يستقيم لها وصف.

عندما دخل الكلية صباحا، وجدها هناك، حيث تركها البارحة، وكأنها ما برحت المكان، نفس اللباس والهيأة، و في عينيها اليافعتين تصرخ النظرة الهائمة ذاتها.. الفرق الوحيد أنها كانت أكثر جرأة، أطول وأعمق عمّا كانت عليه بالأمس. وعندما أحست أن أمرها قد انكشف، انشغلت بأوراق زادتها بعثرة.

حدّثَ نفسه قائلا: يبدو أن الأمر جدٌّ هذه المرة !

ملأ عينيه منها، ثم توجه إلى حيث كان أصدقاؤه مجتمعين، أحس بعد حين بدفء غريب يسري في دمه، وتسارع خفيف في دقات قلبه، تأكد ـ وهو كالغائب بين زملائه ـ أن سهما حادا قد أصابه في صميم فؤاده… التفت يمينا… ناحيتها، فالتقت نظراتهما في لحظة خاطفة، ولكن بطريقة كانت كافية لإشعال الحرائق في كامل جسده.

ما زال الإحساس ذاته بدفء اللحظة يعشش بداخلي كالبرد القديم ، حتى بعد مرور عشرين عاما من زواجنا ـ يقول شوقي، وكثيرا ما جلسنا معا ـ دون ملل ـ نستذكرها في تلذذ باعتبارها من أجمل ذكرياتنا المشتركة على الإطلاق.

كنا “ملتزميْن” ـ كما يقال ـ فلم يكن في مِلكنا سوى النظرات؛ لم نلتق، ولم نتحدّث مطلقا… ولكننا كنا متأكديْن ـ كما الشّمس من فوقنا ـ أننا نَهيم في بعضنا.

دارت الأيام، وكرت أخرى، وامتد البُعد لسنوات قاسية، دون أن ينسى حبه أو تخبو جذوته في قلبه؛ عاش أعواما بطولها ليس له فيها سوى الذكريات… ولا حتى صورة يُملّي نظره بها في لياليه الباردة.

صراع كان يعتمل بين قلبه وعقله، بين صوت يدعوه كي يبحث عن هاتفها ويتصل بها ليعبر لها عن عشقه، وبين صوت آخر يُحذّره، فهو لا يزال بلا عمل، رجلا يقتات على مائدة والديه ، ومن الخطر تدشين هذا الطريق.

جره قلبه إلى ليلة مقمرة، وكان على سطح بيته يَعُدُّ نجوم الوحدة، حصل على رقم هاتفها، ولأن الخوف والحياة تحالفا ضده، فقد تهيب الاتصال المباشر، فأرسل لها رسالة قصيرة تقول:

ـ أنا شوقي… الآن ـ وبعد أكثر من ثلاث سنوات عن تلك النظرة ـ أقول لك: أحبّك.

تقول سُكيْنة:

عندما قرأتُ هذه الرسالة اعتقدتُ في البداية أن إحدى صُوَيْحِباتي ـ التي كانت تعرف قصتي ـ تمازحني، كنت قد فقدتُ الأمل في أي إمكانية للقاء، خاصة ونحن بعيدين، في مدينتين مختلفتين، إلى درجة أني أرسلتُ له رسالة هاتفية قبل سنة من الآن أقول له فيها: يبدو أن لا حظ لي معك، وزدتُ قائلة في أسف: مستقبل سعيد.

لم يردّ عليّ ولا بكلمة. علمتُ بعد خِطْبَتنا أنه لم يفهم الرسالة، وظن أنها مُرسلة عن طريق الخطأ.

حاولت النوم، ولكنه جافاني، انفتحتْ فجأة كل أعضائي وصَحَتْ، وعاد إليّ ذلك الأمل يسكنني.

كم أنت صعبٌ، وكم أنت مُتعِبٌ أيها الحب، فهل أجِلّك أم ألعنك !

قمتُ أفتش في بعض أوراقي التي ركنتها في مكان مَنسيّ، قمت أبحث عن مذكرة كنت أحتفظ فيها ببعض أرقام هواتف لمعارفَ من الزمن الماضي. قلّبتها بهدوء على ضوء خافت حتى لا أقلق راحة أختي التي يبدوا أنها غرقت في نوم هانئ.

في غفلة مني، أصابتني ـ فجأة ـ رعدة، واعترتني حُمّى؛ كان رقمَه، أعدت قراءته مرات ومرات خوفا من أني أخطأت… يا إلهي إنه بالفعل رقمُه !

وضعتُ ما بيدي، وتركت الصّمت يسود، ولكن دقات قلبي كانت ـ فرحةً ـ تَزُفُّ إلى العالم، بصوت عال، خبرا طالما انتظره.

استيقظتْ أختي على زفرة عميقة كادت تخنقني… كنتُ أحبه بشغف… وكانت تعرف ذلك جيدا، فلا شيء يَخفى بيننا.

بعد سنوات، قرأتْ ابنتي إحدى رسائله التي كان يرسلها إلي، والتي كانت تُحرج خربشاتي، وقالت لي: إن قصة حبكما جميلة يا أمي، وتستحق أن تُصور فيلما أو تكتب قصة.

طالت مدة خطبتهما، وكان يلتقي بها لِماماً كلما قهره الشوق، ولكنه لم يتجرّأ ولا مرّة أن يلمس يديها؛ كان يُسرُّ إلى نفسه قائلا:

ـ ربي أحسن إليّ، إذ جمع بيني وبين مَن أحب، فلن أكون قليل الأدب وأتجاوز حدّا أعرف خطورته.

في هذه الفترة ـ يقول شوقي ـ حصلتُ على عمل محترم، فتأكّدتُ من فكرة كنت قد قرأتها قديما من كون “الزواج باب من أبواب الرزق” تماما كما الإجارة والتجارة.

…………..

* كاتب من المغرب

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون