عودةُ الموْتَى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي
أتذكر ..
أتذكر أن المشاكل كانت تأتيك تباعاً وقوية في آن، وكأنها تيار معاكس وجارف.
أتذكر حديثك عن جدتك. قلت يوماً إن جدتك كانت تخاف الموت، ولا تريد سماع أحد منكم يتحدث عنه في حضرتها. كنتَ في الحقيقة تستمتع بالوجود قربها، تستمتع بالإنصات إليها وهي تتحدث عن الحياة في مباهجها.
جدتك التي فقدتْ قامتها المعتدلة، وأضحت تستعين بعصا في سيرها، تثير بمشيتها ضحككم؛ ظهر مقوس إلى حد الركوع، ثديان كبيران متهدلان.. تراكم تضحكون فتضحي معتكرة المزاج سريعة الاهتياج. عيناها مازالتا محافظتين على بريقهما، نظراتها تفيض تعبيراً عن حزن دفين.
أتذكر أنك سألتها يوماً عن سبب حزنها، وعن هذا التحول الذي طرأ عليها، نظرت إليك، همهمت بكلام لم تفهمه، وأشاحت بوجهها عنك.
توفيت جدتك، أبوك واقف شارد الذهن أمام جسدها المسجى وأمك تترنح بالبكاء. رافقتَ النعش إلى المقبرة، مشيتَ في مقدمة الجنازة، لم تبك يومها. بعد الدفن تفرَّقَ الحشدُ وظللتَ وحدك عند قبر جدتك تسعى لتبديد القلق الذي خلفه فيك غيابها. بكت أختك راضية دون أن تدري لماذا تبكي. بكت لأنها رأت الناس يبكون. في مثل عمرها لا يستوعب الأطفال معنى الموت، هو غياب مؤقت..
صورة جدتك لم تفارقك منذ ذلك اليوم..
أتذكر أنك قلت لي يوماً مِن يَوْمِ مَوْتِ جدتك كلما دخلتَ غرفتها تراءى لك طيفها قاعداً أمام النافذة يرمي ببصره إلى الأفق، ويشير إليك أن تقترب منه، يمد يده، يمسك بيدك، يقربك من النافذة وبسبابة يمناه يشير إلى الأفق ويهمس:” هناك.. هناك”. ويضع في يدك سبحة بيضاء.
راجت شائعة بين أطفال قريتك أن جدتك ستعود بعد أيام. قلتَ ذلك لأمك، فردت دون أن تُحَوِّلَ نظرها تجاهك:” تُبْ إلى رشدك.. الموتى لا يعودون”. وبقيتَ أنتَ تعيش على أمل عودة جدتك، تنفرد في غرفتها، تقف عند النافذة المطلة على المقبرة وعيناك تحدقان في الأفق. تحس بيد تربت على كتفك بتودد، تلتفت تجد جدتك واقفة خلفك، تغمض عينيك.. تفتحهما.. لا أثر لجدتك..
أتذكر أنك قلت لي مرة أنه كلما تغشاك النوم، تراها في منامك ونور شمس يسطع من النافذة رغم أن الوقت ليلاً.. لم أقتنع بما قلته لي، أدخلت يدك في جيب سروالك، أخرجت سبحة بيضاء، قبضت عليها بقوة رفعتها إلى مستوى عيني، ظللت صامتاً للحظة، لاحت في عينيك نظرة حزن عميق. اضطربتَ ودمعتْ عيناك..
أتذكر أني حدَّقتُ في وجهك ألفيته وجهاً صامتاً مفرغاً من أي معنى. حدثتني عن عودة الموتى، ما كنت أعتقده أساسياً بدأ يتداعى أمامي.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون