الكرسي

جميلة عمايرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جميلة عمايرة

يا إلهي.  ما أجمله من كرسي!.

أسر الإمبراطور لصديقه المقرب، والزهو يملؤه، حتى تكاد أوداجه الحمراء المنتفخة أن تنفجر، وكان يجلس بقامته الطويلة، على كرسيه العظيم، مرتديا حلته الإمبراطورية، مستندا بظهره للوراء، وبيده عصا الامبراطورية المعدة له من خشب السنديان، المرصع بالذهب الخالص في صورتها الأخيرة.

 أسر قائلا:

لم يسبق لي أن تذوقتُ حلاوة كرسي مثله من قبل.  ولم أكن أتخيل حتى في أكثر أحلامي تفاؤلاً، أنني وحين ساقتني الظروف، بالصدفة المحضة، للظفر به، والتربع على فرشه الوثير، بأنني ومنذ المرة الأولى، سأقع في غرامه. حالة من العشق بيننا أبدية. الكرسي. أعني الكرسي. حدث هذا، منذ أن اعتليته للمرة الأولى، ولم أبلغ العشرين من عمري.  فصار ماضيّ وحاضري وغدي.

ـ الكرسي؟ سأله صديقه.

ـ أجل. الكرسي. الكرسي هذا.

أنه جذابٌ. نُسج مقعده الوثير، من خيوط حريرية رقيقة ودقيقة، قادرٌ على جذبكَ إليه بقوة مغناطيسية خفية، بحيث تجدُ صعوبة بالغة في القدرة على مغادرته بسهولة، حتى لو كان الأمر ملحاَ، أو لحاجة طارئة، أو مستجدة. الكرسي، حينها أغادره مرغما، على امل العودة إليه، في أقرب وقت.

الكرسي؟ سأل صديقة للمرة الثانية، وملامح الدهشة ترتسم على وجهه.

ـ الكرسي، ولماذا تسأل بدهشة؟

الكرسي. أجل الكرسي.  إنه كل حياتي. منحني الكثير، ولا يزال يمنحني، دون تعب أو شكوى أو تذمر، أو ملل. يدعني أبقى في دائرة التوازن النفسي، خاصة عند مقابلة الآخرين.  ولهذه الأسباب وغيرها الكثير، وضعتُ كرسياً، بصورة مطابقة لمواصفاته، في جناحي بالقصر البيتي. وكثيراً ما أضبط نفسي منسحبا بهدوء، من بين أفراد الأسرة، للجلوس عليه. أنا الملك المتوج بحلة، من الزبرجد والياقوت والعسجد، من بين الجميع. حتى إنني قمت بشراء الأثواب القديمة والنادرة، التي تعود لملوك وأباطرة الزمن القديم.

المثير للدهشة، أعترفُ لك هنا – أنني بت على استعدادٍ لأن أدع كل شيء ورائي: بدءًا من الأسرة الصغيرة، مروراً بالعائلة، والأصدقاء، والناس، وكل شيء. كل شيء، أقول لك، ليذهب للجحيم، ما دمتُ أتربعُ بكبرياء وقوة، بسلطة ومهابة وجاهٍ، على هذا الكرسي الوثير الذي، وكما أخبرتك، وقعتُ في غرامه منذ المرة الأولى حين جلست عليه.

ورغم مرور عديد السنوات، على الألفة والتعود بيننا، أعني بيني وبين الكرسي الذي وصفته، بمعنى آخر الدخول بالروتين أو النمطية،

إلا أنني في كل مرة أجلس بها، أحسُ وكأنها المرة الأولى. وأنسى كل شيء: التعب والإرهاق، النزاعات الكبيرة قبل الصغيرة، العائلة، الإفراد الذين تربطني معرفة أو صداقة أو صلة بهم. كل شيء أقول لك. كل شيء ما عدا هذا الكرسي.

ـ أحقا ما تقوله، أم مزاحا؟

 أحيانا يتناهى لسمعي، ما تتمتم به الحاشية، فيما بينهم، على سبيل المزاح، فيصيبني الضحك. اضحك كثيرا. وأحيانا يصلني ما يتهامسون به سراً ورائي أو علنا، من المبغضين، والحاسدين، وكذلك الطامعين والطامحين، القريبين بالداخل، أو الأعداء بالخارج،  أتجاهله تماماً ولا أكترث، بل لا يعنيني الأمر بشيء.

لهذا الكرسي ” السحري” مكاسبٌ وفوائدٌ، لا تعد ولا تحصى. بعضها يمكنك معرفته، وبعضها الآخر لا يدركه سواي: إذ ما أن أجلسُ عليه، وأسند ظهري للوراء، محركا قدمي يمينا ويساراً، وأصابع يدي متشابكة حيناً، وحيناً أخر تذرع الهواء، أمام الجميع الذين، يسارعون بالوقوف بين يدي، محني الرؤوس، ينتايني إحساسٌ بالقوة، وشعور طاغٍ يغمرني بالسيطرة والتحكم، بالأفراد، بل وتحديد مصائرهم، ورسم أدوارهم.

ياإلهي… ما أعظمه.!.

ـ الكرس…….؟

ـ عرفته عن قرب، واستمتعتُ بمذاقة من أضواء وشهرة، وعزٍ ومعارف، ومريدين ومقربين، وحاسدين، وكارهين، بت على استعداد أن أدفع كل ما أملك في سبيل الاحتفاظ بهذا الكرسي. بل أنني بت لا أتورع عن قتل أو تدمير ومعاقبة، من يجرؤ على الاقتراب منه، أو من محيطه، أو حتى مجرد التفكير به.

ومع أنني قرأت لكتاب وشعراء، يذمون بالكرسي، إلا أنني أتغاضى عن هذه الأقاويل والأفكار، دعك من هذا الهراء، أضعه في باب” الحسد” أو الغيرة، واجلس هانئا مرتاحا مطمئنا.

في الآونة الأخيرة، أقول لك، بأنني أحيانا أنهض بالليل، فزعا من كابوس أسود ثقيل، رأيتني فيه، وأنا أبحث عنه في أرجاء القصر، دون أن أعثر عليه، فيصبني الهلع، وأخشى من فقدانه، أفتش كل الأمكنة وأنا أهذي: الكرسي الكرسي الكرسي  ال…. لأجدني جالس عليه.

ـ الكر….؟

تكرر الكابوس، في ليال عديدة أخرى، فأصاب بأرق لم أشهده من قبل، ولكي أتخلص من هذه الكوابيس السوداء، والأرق الذي يليها، والشك والظنون وما ينتابني من مخاوف وقلق وهواجس، قررت أن لا أنام. أعني النوم في سريري، بل أبق جالس عليه، إلى أن أغفوا حتى الصباح.

أحس بأنني الإمبراطور الأول، سبق وأن أخبرتك بأنه كرسي جذابٌ وساحرُ، حتى انه بات يعرفني من مؤخرتي الكبيرة والثقيلة.

ـ ولكن – قال صاحبه أخيرا – :  ألا تخشى يا صديقي من أن يهرم هذا الكرسي، وتهرم معه؟.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون