حالات البحر الميّت

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 بسمة النسور

 

في اللّيل يصبح الميّت أقل موتاً. تدبّ فيه أرواح غاضبة. يثور موجه كأيّ بحر مكتمل الأهليّة، تامّ الشروط. يضجّ بالصخب. ينادي الأحبّة الذاهبين ، يستوقفهم بأغنيّة فيروزيّة : " وقف يا أسمر في إلك..".

غير أنّ الكلام يطير، تهيم الحروف على وجهها لبرهة، لكنّها سرعان ما  تلتئم كحمائم نهمة على شرفة مكتظّة بورود كثيرة تطلّ منها سيدة وحيدة، تستدرج الحمائم التي تهدل احتفالاً بالحياة ، بفتات خبز تبقّى من عشاء أخير تناوله الأحبّة على عجل، قبل أن يرحلوا من جديد.

كتبت في الصباح "بوستاً" على صفحتها في "فيسبوك" قالت: الناس طيبون حتّى يثبت العكس، ثم أضافت: للأسف أنّه غالباً ما يثبت العكس!

 

                                                                        

 

 

حزمت حقيبتها الصغيرة ، وذهبت إليه كما اعتادت أن تفعل كلّما ضاقت روحها بكل أولئك الملفّقة قلوبهم. قادت سيارتها نزولاً إلى أخفض بقعة في الأرض، توقاً إلى علو جديد فوق جراح عتيقة.

 أتمّ موظف الاستقبال في الفندق ذي النجوم الخمس إجراءات  الحجز.  ألقت   حقيبتها باستعجال. ركضت نحوه بكلّ الشوق الممكن. تباطأت خطواتها حين لمحت   مجموعة رجال قبيحين بكروش متدلّية، يَطفون ببلادة على الماء  المثقل بالملح .

محض اعتداء بصريّ ! ويتحدثون بانفعال عن تغيير وزاريّ متوقّع، فيما أحدهم يركض مثل وحيد قرن نحو زوجته، يحدثها بحماسة عن فوائد السباحة في البحر الميّت، تناوله المنشفة بصمت وتلتحق ببقية الزوجات المكفرات عن أنوثتهن بأمتار من القماش الأسود السميك.

 

 تساءلت عن شكل الحياة داخل عباءة، هل ثمّة مزايا سوى التدرّب على مهارات الباطنية؟!.

عادت السيدة المخذولة إلى بهو الفندق. أنعشتها نسائم باردة  منبعثة من المكيّفات الضخمة. لاحقت نظراتها عائلة أوروبيّة مكوّنة من زوجين شابين وابنتهما الشقراء الصغيرة، فرحين كانوا بأثر الشمس على أجسادهم، التي غادرها الشحوب، يحاولون تغميس الحمص بقطعة خبز، ويضحكون بانطلاق حين يخفقون في ذلك. يتناولون شوكاتهم باستسلام. يتلذذون بعشائهم السياحيّ، غير عابئين بأعين فضوليّة تحسد براعتهم في ممارسة حرّيّة الوجود.

تنتظر هبوط اللّيل كي يعود البحر بحرها. تنفرد به على هواها. يسمع أنين روحها المتعبة.

 تستحضر روح أبيها المقيم بصفة دائمة في أحلامها: حين يتوارى الدفء عن وجه الكون يحضر حنان يديه ، يوم كان يحكم وضع الغطاء فوق جسدها الصغير. تغمض عينيها وتتشبث بالصورة، لعلّها تستبقيه برهة إضافيّة غير أنّه يصرّ على الرحيل، فتدرك أنّها على الرغم من الحرّ القائظ في ليل الغور العتيق سوف ترتعش برداً إلى آخر العمر.

   يشهق البحر مفجوعاً حين تطلّ ابتسامة أمها الطفوليّة الخجولة، كلّما داهمها الفرح كانت تخفي فمها بكفها الصغيرة. أورثتها تلك الحركة، وجعلت الناس يرددون” أنك تشبهين أمك ” ، إلى أن قال لها رجل لا يتقن المكوث طويلا : ضحكتك حلوة . لماذا تخفينها؟ . ردّت: أسناني قبيحة، كبيرة ومعوجّة. قال لها: إنّها أجمل ما فيك، أسنان ذئبة رؤوم تستدعي الحنين إلى أزمان غامضة بالحنين.

 

يشقّ صراخ مخاض أمها فضاء الحارة ، ويهزّ روحها المذعورة. تختبئ الصغيرة المرتعشة رهبة  في زاوية معتمة. تفتح  الصغيرة عينيها على اتساعهما. تحبس أنفاسها المتسارعة ، ويقفز قلبها هلعاً حين تصرخ القابلة بأمها قائلة: ادفعي بقوة أكثر. يستحيل الصراخ الدامي إلى عواء ذئبة جريحة أعياها الأنين،  لتشهد السنين الخمس للصغيرة  المنذورة روحها  للدهشة لحظة خروج  الحياة من جوف الألم المبرّح  لجسد الجنين  الذي  سيصبح شقيقها المفضّل  ملطّخاً بالدماء، زاعقاً بغضب كبير يشبه اللّوم ، قبل أن تنطلق زغرودة من فم الجارة، وتفوح في الأرجاء رائحة أعواد القرفة، وتقذف يد كبيرة حفنة ملبس  زهيدة  الثمن يتنافس أولاد الحارة  لالتقاطها.

 

 يحلّ الليل هادئاً حنوناً. تسير السيدة الوحيدة ثانية نحو البحر الحيّ. تتساقط أوجاعها على الرمل الساخن . تحس ” بخفة الكائن التي تحتمل” .عتمة كثيرة في الطريق، ترافقها أطياف من رحلوا، وطاويط عمياء تقودها نحو البصيرة، فتنتبه!

 

 تغادر أضواء  المرفق السياحيّ  الفارهة . تمشي بخطوات حذرة ، فيستوقفها رجل الأمن  قائلا : ليس من الحكمة الخروج في هذا  الوقت  سيدتي  ،  الظلام حالك  ،  وليس ثمّة ما يمكن مشاهدته  ، لا تنسي نحن على الحدود  مع العدو ، يطلقون  النار على أي شيء متحرّك  ، قد يعتقدون أنك متسلّلة إلى فلسطين ،  أومأت  بابتسامة قائلة : لا تقلق لن  أبتعد  كثيرا ،   لن أتسلّل إلى أيّ مكان  ، اطمئن !

 

    عثرت في الجوار على صخرة  اتّخذت هيئة  امرأة مذعورة  تتلفت  إلى الخلف. فكرت  بأسى:  هاهي امرأة الملح إذا ،  يا لشدّة سذاجتها  ، لو أنّها نظرت صوب الأمام   لبرهة وجيزة ، لأدركت أن لا  أحد نجا  في الواقع من شرط الوجود  البئيس ، غير أنّها غبية ضعيفة الإرادة  شدّها الحنين  فصارت أسيرته الأبديّة .

 

 تأمّلت السيدة  الحزينة  في التمثال  طويلا . داهمها التعب . فكرت بمغادرة المكان الموحش ، والعودة حيث أمان الفندق .

 

حانت منها التفاتة لا إراديّة إلى الخلف . تجمّدت قدماها على نحو مفاجئ ، وغاصت عميقا  في الرمل  . حاولت  إعادة رأسها إلى وضعه الطبيعيّ ، غير أنّها لم تتمكّن . حاولت تحريك ذراعيها ، بيد أنّ الدماء جفت في عروقها  .

 احتشد حولها  جمع من نساء كثيرات .  حدّقن فيها مذهولات . تساءلن   غير مصدقات كيف صمد تمثال  الملح  كلّ هذا   الزمن . اختنقت  صرختها ،  وتحوّل لسانها إلى كتلة من الملح  الجاف الخشن  ، حين  حاولت  تحذيرهن  من عاقبة التلفت إلى الخلف  .  تابعن  سيرهن في قلب  اللّيل  دون  أن ينتبهن  إلى دمعتها ، التي جرت  ساخنة ، لكنّها لم تكن كافية لتفتيت  كلّ ذلك الصخر  المكدّس المتراكم  عبر السنين  !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصة أردنية،

 

 والقصة من مجموعتها القصصية “أوجاعي كلها” تصدر قريبًا عن دار الشروق بالأردن

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون