مكتبة الجنة الكبرى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

أعرف أنى الآن فى الجنة.

لم أَمُتْ قبل أن أدخلها، أذكر كل ما حدث قبل ذلك، وحقيبتى ما زالت فى كتفى.

أعجبنى أنْ أجد فى الجنة أعدادًا كبيرة جدًا من البشر، شعرْتُ بالارتياح، تذكَّرْتُ تلك الجماعات الموجودة على الأرض، وكلٌ منها تدَّعى، تؤكِّد، أن الجنة لهم وحدهم، كأنها الحديقة الخلفيَّة لمنزلهم، كيف يجرؤن؟ من أين لهم هذا اليقين الساذج؟ وما الجمال فى أن يكونوا فى الجنة وحدهم؟.

حسنًا، لا بد أن فى الجنة مكتبة، لم أطلب أنْ تظهر لى على الفور، أردْتُ البحث عنها بنفسى، هذه رغبة أيضًا، أتوقَّعُ هنا مكتبات كثيرة، بحَثْتُ تحديدًا عن “مكتبة الجنة الكبرى”.

 وجدْتُها، مبنى من خشب ملوَّن، بحجم بيت عادى، مرسوم فيه حروف متداخلة بشكل فنى، له مدخل يتسرَّبُ منه نور هادئ، وفوقه لافتة منقوش فيها: “مكتبة الجنة الكبرى”.

دخَلْت.

 رأيت استاندات وأرفف ملأى بالكتب، بينها ممرَّات لا تتَّسِع لأكثر من شخصين، مشيْتُ فيها، بدَت المكتبة أكبر مِمّا يدلُّ شكلها الخارجى، شعرْتُ أنها لن تنتهى ما دُمْتُ أمشى.

كانت بسيطة، ومُقْنِعَة، أعجبنى هذا.

فكَّرْت: كان من الممكن، بما أنها “مكتبة الجنة الكبرى”، أن تتوفَّر فيها خدمة الحصول على الكتاب بمجرد التفكير فيه، أو أن تطير الكتب، بنفسها أو محمولة على أَبْسِطَة صغيرة، وتتجوَّل بين القُرَّاء حتى لا يُرهقهم المشى فى الممرَّات، والبحث بين الكتب، لكن، هل يكون هذا مُريحًا وممتعًا بالفعل؟.

البحث عن كتاب جزء من سحر المكتبة، قراءة عناوين أخرى قبل العثور على العنوان المطلوب، اكتشاف كُتُب، ومساحات جديدة للقراءة، البحث فى حَدّ ذاته قراءة، ومتعة.

كان يمكن أن تجرى أنهار داخل “مكتبة الجنة الكبرى”، يكون فيها بحر، شاطئ، مساحات مفتوحة من عُشْب، ورود، أشجار، فراشات، طيور ملوَّنة، أماكن لها طبيعة خاصة، مثل مكان مُشْمِس، أو مُظَلَّل بغيمة، كوخ داخل غابة، نافذة يداعبها المطر، أَسِرَّة طائرة، شبكة مشدودة بين شجرتَين أو نجمتَين، كان من الممكن أن تتوفَّر لرَّواد المكتبة إمكانية الطيران، المشى فوق الماء، أن يجلس الواحد منهم فوق سحابة، داخل قارب يتحرك بنفسه دون حاجة لتجديف.

 بالنسبة لى، هذا مقبول خارج المكتبة، لكن بداخلها؟ سيجعلها مدينة ملاهى.

هنا، كان الأمر بسيط، عميق، وبه جوهر “المكتبة”.

القراءة لا تحتاج غير شَغَف وكتاب.

الكتابة لا تحتاج غير شغف وقلم وورقة، أو شىء يمكن استعماله فى الكتابة.

أمشى بين الممرَّات، أتطلَّعُ إلى العناوين، أشُمُّ الرائحة المحبوبة للكتب، الأرض خشبيَّة، مفروشة بسجاد خفيف كاتم لصوت الخطوات، إضاءة مُريحة للعين، مقاعد بسيطة، طاولات صغيرة، وسائد مُبَطَّنَة موزَّعَة فى زوايا على الأرض، سلالم ترتكز على قائمتَين للبحث فى الأجزاء المرتفعة من الأرفف.

رأيت كُتبًا موضوعة فى بعض الزوايا بفوضى جميلة، أحبَبْتُ هذا.

أسحَبُ كتابًا، أتصفَّحه ثم أعيده، وأسحَبُ غيره.

أستمتع بذلك الصوت.

واحد من أجمل الأصوات فى العالم: صوت صفحة تقلبُها فى كتاب.

كان هناك أشخاص يقرأون وهم جالسون على الأرض فى زوايا بعيدة، البعض مُتكوِّر داخل الفواصل بين استاندات، أو واقفٌ عند نهاية سُلَّم وقد نسى نفسه مع كتاب.

أحدهم يبتسم أثناء قراءته، يتوقف ليفكر فى جُملة، أو معنى، يسند مؤخرة رأسه لرفّ الكتب، ينظر للسقف، أو يُغلق عينيه ويتنفَّس بعمق.

ومن وقت لآخر أسمع الصوت الجميل: صفحة يقلبُها أحدهم فى كتاب.

قابلْتُ فى أحد الممرَّات شابة بيدها كتاب، ابتسمْتُ لها.

 قلت: “مرحبا”.

ابتسمَتْ وردَّتْ:

 “مرحبا”، نظرَتْ إلى حقيبتى المُعَلَّقة فى كتفى:

 “أول زيارة للمكتبة؟”.

 قلت: “نعم”.

“تبحث عن شىء مُعيَّن؟”.

“لا، فقط أتجوَّل”.

“حسنًا، لو احتجْتَ شيئًا، يُمكنكَ أن تسأل بورخيس”، نظرَتْ إلى شاب يجلس على الأرض عند رفّ من الكتب، وبيده كتاب يقرأ فيه، قالت: “يعمل مُتطوِّعًا فى المكتبة، يكاد لا يخرج منها، يعرف كل شىء هنا تقريبًا”.

“شكرًا لكِ”.

“أهلاً بك”، قالت الفتاة ومرَّتْ بجوارى.

بدا الشاب المُتطوِّع مألوفًا لى بطريقة ما، فكَّرْتُ أيضًا فى اسمه “بورخيس”، وهنا فى “مكتبة الجنة”، يمكننى أن أُخمِّن مَنْ يكون، مشيْتُ إليه، ينظر فى كتابه، بيده قلم رصاص، وحوله أوراق متناثرة، توقفْتُ عنده، تأمَّلْتُه لحظة.

 قلت: “بورخيس؟”.

 نظرَ إلىَّ.

 قال: “مرحبا”.

 تأكَّدْتُ مما خمَّنْتُه، إنه الكاتب “خورخى لويس بورخيس”، فى الثلاثينات من عمره، أعرف هذه الملامح، فكَّرْتُ فى جُمْلته الشهيرة عن الجنة والمكتبة، ابتسَمْتُ وقلت:

“لا بُدّ أنك سعيد هنا”.

ابتسَمَ وقال:

 “فى الحقيقة أنا كذلك”، تلفَّتَ حوله: “مكتبة، كُتُب”، نظر إلىَّ: “لطالما تصوَّرْتُ أنَّ الجنة ستكون شيئًا كالمكتبة، كنت أريد، على الأقَلّ، مكتبة فى الجنة”.

 ها هو يقولها ثانية، أو ربما للمرة الأولى.

قلت: “وحصُلْتَ عليها”.

قال: “كنت أعرف أنها موجودة”.

تجوَّلْتُ من جديد بين الكتب، قابَلْتُ كُتَّابًا وأشخاصًا أعرفهم، بينهم أصدقاء لى مات بعضهم فى سِنٍ مبكرة، قضيْتُ معهم بعض الوقت، وغادرْتُ المكتبة.

…………………

مقطع من رواية “مزاج حُرّ”- تصدر قريبًا عن الدار المصرية اللبنانية.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون