“ثلاث برتقالات مملوكية”.. عن مشكلة السرد والسارد

"ثلاث برتقالات مملوكية".. عن مشكلة السرد والسارد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يمكن أن نضع رواية "ثلاث برتقالات مملوكية" لمؤلفها حجّاج أدول (صدرت منها طبعة جديدة فى مكتبة الأسرة وكانت طبعتها الأولى قد صدرت عن دار العين) بين مجموعة من الروايات المصرية التى استلهمت الحقبة المملوكية، لتسقط أحداثها على الظرف السياسى المعاصر، نقصد بذلك أعمالا هامة للغاية فى تاريخ الرواية المصرية، وفى مسيرة مؤلفيها مثل :"السائرون نياما" لسعد مكاوى، و"الزينى بركات" لجمال الغيطانى، ويمكن أن نتحدث أيضا عن رواية "مقامات عربية" للراحل محمد ناجى، فرغم أنها لا تقول صراحة إنها تستوحى  أحداثها من عصر سلاطين المماليك المضطرب، إلا أن لعبة العرش، ومهزلة وتراجيديا السلطة والسلطان، وأجواء الدسائس والمؤامرات، بل وحتى اللغة المستخدمة فى السرد، تستلهم تلك السنوات الطويلة، التى كان فيها الشعار المرفوع هو: "الحكم لمن غلب"، بينما وقف الشعب فى موقف المتفرج، وكأن الصراع على السلطة لا يعنيه، ولا يؤثر على حياته.

الفترة ثرية للغاية، كما أنها تحتمل هذا الإسقاط، ولكن نصيب “ثلاث برتقالات مملوكية” من النضج والإجادة أقل بكثير من النماذج الهامة سابقة الذكر، رغم الطموح الفنى الكبير لدى حجاج أدول فى أن يبنى هو أيضا معادله الفنى ليسقطه على سنوات مبارك الأخيرة (انتهى أدول من كتابة الرواية فى سبتمبر 2010).  لا بأس إطلاقا فى ذلك، خاصة أن الصراع فى القصر، وحول دوائر السلطة، أخذ  فى نهايات عهد مبارك، ما يقترب من  شكل صراع المماليك حول أى سلطان ضعيف وتافه، أو معدوم الكفاءة، أو ضعفت سيطرته على مقاليد الأمور، بعد أن شاخ على مقعده، وهو بالمناسبة أحد أوصاف محمد حسنين هيكل المتنبئة، عن بوادر تفكك السلطة فى عصر مبارك، حتى قبل أن يكون لهذا التفكك تجلياته المدوية، وقبل أن يتحول الغضب الى ثورة أو انتفاضة.

أمسك حجاج أدول بالفكرة، ووقع على العصر الصحيح، والتاريخ الملائم لتمثلها وترجمتها، ولكن بقيت حلقة مفقودة أثرت على التجربة بأكملها، وجعلتها فى مكانة أقل، رغم الجهد الكبير الواضح. فى رأيى أننا أمام مشكلات حقيقية فى السرد وفى السارد أيضا، إنه الصوت الذى يحكى لنا تفصيلات الحكاية، متعمدا أو متكلفا أن يستوحى لغة تجمع بين الفصحى والعامية، تذكرنا بكتب الحوليات التاريخية عن العصر المملوكى، أو ببعض كتابات الجبرتى، أو حتى بأساليب بعض قصص “ألف ليلة وليلة” فى قصصها  المصرية على وجه التحديد.

ولكن المشكلة ليست فى هذا الإختيار الفنى، وإنما فى ترجمته على الورق. هناك تكلف حقيقى فى الكتابة، وفى استعارة أسلوب ولغة العصر الركيكة، وهو أمر يمكن اكتشافة بالمقارنة مثلا بأسلوب جمال الغيطانى عندما يستلهم نفس العصر فى “الزينى بركات”، أو بالمقارنة بأسلوب محمد ناجى البديع فى “مقامات عربية”. السارد العليم فى “ثلاث برتقالات مملوكية” ليس ابن العصر الحالى، ولا هو شاهد مملوكى يتعثر فى سرده، ولكنه خليط متنافر من الصنفين. يتحدث أحيانا بطريقة مؤرخ معاصر يسهب فى الحديث عن مكانة “مصر” وعظمتها، ثم يصف مشاهد مملوكية بأسلوب مؤرخ قريب من تلك الفترة، يتحدث حينا عن مصطلحات معاصرة مثل “الجنس” و”بويضة” المرأة، ثم يتحول للكلام عن “النكاح”. هذه الإزدواجية أضرت كثيرا بالسرد، وأفقدته الوحدة والإيهام بالواقع التاريخى، فلا نحن أمام سارد معاصر يتأمل المهزلة المملوكية، ولا نحن أمام سارد مستعار ينجح فى محاكاة الأسلوب المتهشم بين الفصحى والعامية، وبين الكلمات الرصينة، والألفاظ والشتائم المبتذلة. هنا خلل خطير، رغم صواب الإستلهام، وجرأة المغامرة الأسلوبية.

من حيث مضمون الرواية، هناك إسقاط  سياسى واضح استيحاء من قصة سلطان مملوكى يدعى بنبان، وصل الى الحكم بالقوة وبالصدفة أيضا، رغم غبائه الشديد، وسلطانة (زوجته) تدعى شمس، تنتمى الى أرض السهول الثلجية، وبلاد البحيرة البحر، وهى امرأة لا تحب إلا نفسها، تسيطر على الحكم بالنفوذ وبمضاجعة نائب السلطان ، وقائد الجيش، بينما نكتشف أن المتحكم فى الأمور فعليا هو الدوادار كمال الدين  (حامل أختام السلطان والمشرف على ديوانه ومكاتباته وأمرائه وعاصمته)، بالتنسيق مع عز الدين نقيب التجار، ومحتكر التجارة، أى أننا بوضوح أمام تحالف بين السلطة والثروة، تواكب مع ضعف السلطان، ومحدودية قدراته، ومع طموح لا حدود له لزوجته، وسوء لأحوال الرعاية بسبب الفساد، والسرقة، والنهب، والإحتكار، ونتيجة اكتشاف البرتغاليين لطريق بحرى حول أفريقيا، بدلا من مرور التجارة فى الأراضى المصرية.

هذه الخطوط العامة واضحة، لأن تفاصيل الحالة المملوكية والمعاصرة متماثلتان بصورة مرعبة، كما أن أدول نجح الى حد كبير فى تعميق إسقاطاته، انطلق مثلا بالناس الى انتفاضة شعبية انتزعت بعض التنازلات من ساكن القلعة ومماليكه،  وصف الإنتفاضة جيد وشديد الحيوية، ونهاية الإنتفاضة  بعودة سيطرة المماليك والسلطان من مناطق الرواية البارعة. الرؤية أيضا تتأمل العصر المملوكى وقوانينه عموما ، وعلاقة المصريين بمحكوميهم، ولا تأخذ فقط ما يماثل الحالة المباركية، المعضلة كما لمستها الرواية هى أن يتفرج الشعب على السلطة، لا أن يساهم فى اختيارها، أو فى محاسبتها، والأمر يخضع بالتالى للحظ: فإذا جاء حاكم مملوكى رشيد أطلقوا عليه  لقب “السلطان المعدول” ، وإذا جاء حاكم لا تعنيه إلا السلطة والثروة، أطلقوا عليه لقب “السلطان المايل”، وإذا جاء حاكم غبى ومعدوم الكفاءة ، أطلقوا عليه لقب “السلطان الأمجد طرطور”.

الى حد كبير وضع حجاج أدول يده على العالم الذى يبرز فكرته، ولكن سرده ظل يسير به وبنا متأرجحا ومضطربا، مرة الى أعلى ، ومرة الى أسفل، مرة بلفتات ذكية، ومرة أخرى بعبارات واضحة مباشرة من طراز:” من لم يغتنى فى عهد بنبان فلن يغتنى أبدا”، أو بتسمية جماعات التطرف باسم “الصحراويين”. وبعد أن يتخذ السرد زاوية الصراع على السلطة فى القصور، فإنه  ينقل إلينا  بشكل مفاجىء الصورة من أسفل، حيث يتوقف عند قصة نجية الفلاحة، والتى سرعان ما ستأتلف مع قصة البهاء ، ابن اليوسفى أمير الجيوش ، والبهاء  فى نفس الوقت زوج قمر، ابنة السلطانة شمس. تبدو نجية فى رأيى كشخصية محورية لا يجب تأخيرها الى منتصف الرواية أبدا، إنها بنت البلد فى مقابل السلطانة المجلوبة من بلاد الثلوج. هذه أيضا مشكلة شخصية أخرى هامة جدا، ولكنها باهتة فى الرواية، وهى شخصية عز الدين نقيب التجار، إنه الطرف الآخر فى إحكام السيطرة على السلطة مع الدوادار كمال الدين، ومع ذلك يظهر كمال  الدين فى مواقف هامة ومؤثرة، بينما نسمع عن عز الدين فى سطور قليلة، وهناك أيضا شخصية غزلان التى تختفى طويلا، رغم أهمية دورها فى كشف أسرار السلطانة شمس، وتحطيم حفيظ السلولى ، نائب السلطان بنبان، وعشيق زوجته.

حتى اسم الرواية بدا أيضا غامضا عند الكثيرين، ما هى بالضبط البرتقالات الثلاث المقصودة؟ قمر ابنة السلطان تعشق البرتقال، ونجية، وزوجها البهاء، وابنهما عزيز، وحسام (ابن قمر المشكوك فى نسبه الى البهاء) يتناولون البرتقال فى أثناء هروبهم بالمركب الى النوبة، رفضا لمهزلة الصراع على السلطة. يبدو لى إن البرتقالات الثلاث لها علاقة بمعنى أعمق، يمكن أن نقترح مثلا أن الرواية عن ثلاث سيدات مملوكيات: شمس، وغزلان، وقمر، ولكن هناك أيضا برتقالة رابعة هامة هى نجية الفلاحة المصرية، التى لن تسقط  فى النهاية، ولن تدهس بالأقدام، مثلما حدث للبرتقالات المملوكية الثلاث، بل ستواصل الرحلة رغم معاناتها.

فى كل الأحوال، فإن مشاكل السرد والسارد، قد اثرت بوضوح على بناء الرواية، ظل القارئ للرواية معلّقا بين الواقع الحاضر بقوة ، والواقع التاريخى الذى تصطنعه اللغة السردية اصطناعا. أصبحنا أمام إيهام منقوص، وليس ذلك شأن الأعمال الروائية التاريخية الناضجة، التى تقنعك طوال الوقت بأنها تتحدث عن عصر آخر، تأخذك إليه لغة وروحا ورائحة وطريقة حياة، وبعد أن تغرق فيه، تكتشف أن الرواية عن زمنك، وعن عصرك. ظلت التجربة فى “ثلاث برتقالات مملوكية” واضحة الإستعارة، شكلا ومضمونا، تماما مثلما تستعير قناعا أو ملابس فى حفلة تنكرية، وما أن تتكلم، حتى يعرف الجميع شخصيتك الحقيقية.

مقالات من نفس القسم