“عرب العطيات”..قصص تنبض بها قلوب المحتاجين والطامحين معا

عرب العطيات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد نصر

تعد المجموعة القصصية”عرب العطيات” هى التجربة الأدبية والقصصية الأولى للكاتب عمار على حسن، وتشتمل على 14 قصة قصيرة، ثمانية منها بنظام الكتلة الواحدة، وهى جحر من لحم، شوارع الألم، عرب العطيات، فانوس، أولاد الليل، أنا مصري، تجلى يا ملامح محمد، تضحية”، و 6 متتاليات قصصية ، تشتمل كل واحدة منها على عدد من الأقصوصات يجمع بينها سياق سردى ونفسى واحد ومضمون مشترك، وهى متتالية  طقوس السفر وتتضمن 4 أقصوصات “حنين ،عورة، سفر العصر، زمانه سافر”، ومتتالية تراحيل وتتضمن أقصوصتين “وجه ، تراحيل”، ومتتالية تقاسيم الهوى وتتضمن سبع أقصوصات”حرفان ، بترا ، أين الحبيبة يا قمر؟ ، الولد الصغير،الكلمةـ،بذرة عشق، برواز”، ومتتالية  أطفال،وتتضمن أربع أقصوصات” حصان المولد، شجار، كرة، عم خليل”، ومتتالية  صور وتتضمن ثلاث أقصوصات” شدو، سوق، سيارة”، ومتتالية أوجاع وتتضمن ست أقصوصات” المشهد الأليم، لقمة، خبر، الحجرة، وطن، ليمون”.

وتحكى قصص “عرب العطيات” عن ناس فقراء وبسطاء ومهمشين، فى الريف والمدينة، يكدون ويكدحون ليل نهار للبقاء على قيد الحياة، وتوفير لقمة العيش لأبنائهم، وتقدم بعض القصص والأقصوصات صورا فنية وأدبية رائعة عن الأطفال الفقراء فى القرى والمدن المحرومين من أدنى وأرخص وسائل السعادة والترفيه عن النفس، كحصان المولد وعروسة المولد، وفانوس رمضان، وكرة بلاستيك صغيرة الحجم، وشمعة بقرش صاغ “قصة أطفال”،وترسم صورا أخرى لمعاناة عمال التراحيل ومتاعب الشباب الفقير الراغب فى استكمال تعليمه وتحقيق أهدافه”تراحيل”،وتتحدث بعض القصص عن مظاهر خطيرة للغاية، منها أخطاء أطباء الامتياز الذين يتعلمون بإجراء العمليات الجراحية فى المرضى الفقراء ويتسببون لهم فى عاهات خطيرة “شوارع الألم”، وبيع الآباء المنسيين فى المجتمع لأطفالهم بسبب الفقر”شدو”،وخناقات الفلاحين على أمور تبدو تافهة بسبب ضيق الرزق،”المشهد الأليم”،واصطياد البنات للشباب الغنى، خاصة أصحاب السيارات،”سيارة” وهلع السعاة وصغار الموظفين من جبروت مديرى المؤسسات بسبب الخوف على لقمة العيش “لقمة”،وهروب شباب فقير من دفع التذاكر فى القطارات بسبب الجيوب الخاوية”عورة”، وسكن شباب أخرون من الصعيد فى القاهرة فى شقق أخرين من نفس قراهم “مجانا”، بدافع المروءة والمجدعة من طرف وبدافع اللامبالاة من طرف أخر، وذلك لعدم قدرته وقلة حيلته “حجرة”،ولا تخلو المجموعة القصصية من رومانسيات الحب الطفولى البرىء و الحب الرومانسى الجميل،والتى يتحدث الكاتب عنها فى متتالية “تقاسيم الهوى”، كما لاتخلو من الروح الوطنية الداعمة لقيمة الانتماء للوطن، حيث يتحدث الكاتب عن مرارة هزيمة 67 ، من خلال رمزية الطفل الراغب فى الانتقام من إسرائيل، على طريقته، فى قصة “أنا مصرى”، ومن خلال رمزية الضابط واخيه الأصغر محمد، فى قصة “تجلى يا ملامح محمد”، وذلك للتعبير عن ولادة نصر أكتوبر السريع من رحم هزيمة يونيو.

ويرسم الكاتب فى قصة “جحر من لحم” لوحة تشكيلية بديعة لإنسان فقير يعانى من الفقر ويحاربه بالعمل والكدح ويحلم بتخليص كل شعوب العالم منه، من خلال محاربته للنمل فى شوارع قريته وأسواقها وجدران البنايات فيها،وتتبدى العبقرية الأدبية فى تلك اللوحة من خلال اللون السردى للأحداث، فالسردية شاعرية رمزية ، فهى شاعرية تجمع بين اليقظة والحلم، وبين الخيال والواقع، وهى رمزية لدرجة أن الشىء الواحد قابل للتأويل لأشياء كثيرة، بحسب ثقافة القارىء ورؤاه الأدبية،   فالنمل قد يكون هواجس مقلقة للنفس، أو أفكار مسيطرة على المخ، أو آلام نفسية مصدرها الكبت والحرمان، أو أوهام بوجود أعداء متربصين.

 ويتسع الإبداع فى تلك اللوحة باتساع المسافة بين الواقع القبيح والحلم الجميل، فهى تعبر عن قسوة الفقر باعتباره مدهشة للعقل تجرح الكبرياء وتكسر النفس، حيث يظهر الفقر فيها، وبصورة متكررة،  فى شكل حشود من النمل تصنع جحورا من الألم فى أنف البطل،تنغص عليه حياته وتقهر نفسيته،  فيصارع  البطل النمل فى شقته بالكيروسين والخرق البالية المبتلة بالماء وعظام اللحم وبالعمل والكدح لتغيير وضعه الاقتصادى وتبليط شقته القديمة بالقيشانى على مراحل، دون جدوى، حيث يقول الكاتب عن البطل:” فالنمل تساقط من أنفه فوق الأرضية القيشانى الملساء والناعمة مثلما تساقط من أنفه فوق أرضية البلاط القديم الخشن والمتشقق”، ويحلم البطل فى المنام بتخليص العالم كله من النمل،من خلال رمزية تخليص قريته منه، حيث يقول البطل: “أخذنى النوم إلى قيعانه المليئة بالأحلام والحكايا. حلمت أننى أمتطى جواداً أبيض. أمسك بيدي سيفاً طويلاً لامعاً.أنادى فى الجموح المزدحمة حول عربات الخضار والفاكهة فى السوق: سأحارب النمل .. سأحارب النمل”، ويقول أيضا:” كان النمل يجرى فى الشوارع وعلى الجدران الحيطان. أخذت أدوسه بأرجل حصانى فيفر إلى الحارات الضيقة. وقلت بزهو: هزمت النمل.”

ويصل إبداع الكاتب إلى الذروة في قصتي أولاد الليل وتضحية، وذلك بسبب الدلالات الإنسانية العميقة الناجمة عن التناقض الشاسع بين تصرف إنسان مع إنسان أخر صاحب جميل عليه، أنقذه من الموت، وبين تصرف إنسان آخر مع بقرة يراها صاحبة جميل عليه، وكانت سببا فى استكمال دراسته الثانوية والجامعية، فالقصة الأولى تقدم صورة بشعة للخسة والندالة والخيانة وتقدمها بطابع درامى،والثانية ترسم صورة بديعة وشجية للإحساس بالجميل والعرفان به،وتقدمها بذات الطابع الدرامى ،ففى قصة أولاد الليل ينقذ خلف الله حارس الزراعات فى قرية عرب العطيات المجاورة لقريته،أحد اللصوص فى حقل قصب من الموت المحقق، عملا بمبدأ “اتقى شرهم بالتودد لهم”، ويداوى جروح رأسه بالسمن البلدى السائل، ويستضيفه فى بيته هو وزوجته لعدة أسابيع، وفى الليلة الأخيرة يقوم اللص ليسرق ذهب زوجته ليلا، ويستحيى أبوخلف الله أن يوقظ ضيفه حتى لايشعر أنه يشك فيه، ويقتله  بالفأس فى رأسه، ظنا منه أنه يقتل لصا آخر،ويرسم الكاتب صورة بديعة ومعبرة لمدى قهر الرجل للمرأة فى المجتمع الريفى،وذلك من خلال طريقة تعامل أبوخلف الله وزوجته رشيدة، حيث يقول:” تعودت رشيدة ألا تسأله. لو تباطأت أوسعها سباً وضرباً، ولو استفهمت قال لها: لا تراجعينى يا امرأة .. ليس على وجه الأرض من يراجع أبو خلف الله”.

و يتجلى الفداء فى أبهى صوره، فى قصة تضحية، حيث يفتدى طبيب بشرى بقرة بروحه ودمه فى مشهد ميلودرامى، تدفعه فيه سلسلة ذكرياته معها للاستشهاد من أجلها برصاص سارقيها، فقد رسم صورتها على أحد كتبه،وهو ما اكتشفه حسن بعد فترة من وفاة أخيه، وكان يحبها ويمتن لها، كما لو كانت أحد أفراد أسرته، بدليل أنه اشترى لها هدية من أول راتب بعد تعيينه طبيبا فى إحدى المستشفيات، حيث يقول الكاتب:”لم يفته أن يشترى لها رسناً من الكتان أكثر ليونة من ألياف النخيل.” 

وتكمن العبقرية القصصية والأدبية للكاتب فى قصة تضحية ، على الرغم من أنها إحدى أيقونات تجربته الأولى، فى توحيده للرسم البيانى الأدبى بين النمو البدنى للبقرة “الأكل، العشر، الولادة” وبين النمو العلمى لمحمود،”المذاكرة ،الثانوية العامة، كلية الطب”، حيث يقول الكاتب: “حين نصفت الشمس صفحة السماء عاد كلاهما وأهازيج الفرحة ترقص فى العيون, محمود أنهى امتحان الشهادة الابتدائية بتفوق, والأب حقق حلمه الذى كابد كى يصبح حقيقة. جاء حلمه خلفه, بقرة صغيرة بيضاء تسر الناظرين.”، ويقول أيضا :”تأكل وتشرب وينمو جسدها. ينمو عقل محمود، ويطوى صفحات الكتب يدشن بمداد قلمه لبنات مستقبله. ها هى الثانوية العامة على الأبواب, ورغم عبء الدراسة إلا أنه لم يقصر فى خدمتها.”، ويقول فى مقام آخر: ” عند الضحى عادت البقرة تحمل فى أحشائها بذور الأمل المنتظر. انبسطت الأسارير حين جاء الضيف الجديد. لفظ رحمها ثوراً صغيراً، اكتنز شحماً ولحماً حين دقت ساعة الجامعة احتفالاً بعام دراسى جديد.”،ويقول أيضا:”يلقى إليها الحشيش الأخضر, والبقرة تأكل وتقذف إلى عالمهم مخلوقات جديدة، فتتسابق أقدام الجزارين إلى بيتهم. إن لم يكن مع الشيخ زايد أى نقود يستدين ويؤجل الدفع حتى موعد البيع. كل ما يطلبه محمود يصبح رهن إشارته.” 

وتستحق قصة عرب العطيات أن تكون عنوان المجموعة القصصية، وإن كانت هناك قصص أكثر إثارة من حيث الدراما وسخونة الأحداث، كقصة تضحية وقصة تجلى يا ملامح محمد، فهى تقدم صورة حية متكاملة وحقيقية عن حياة الناس فى المجتمع الريفى،ما بين ميسورين يلعبون الدومنيو طوال الليل وينامون بالنهار، وآخرون يتسامرون على مصطبة النعمان ، وبين فقراء ومحتاجين، منهم بطل القصة صاحب المحراث والثورين، يضطرون للغربة فترة طويلة لتوفير حاجيات ومتطلبات أولادهم،تاركين قراهم ومافيها من سهرات السمر والأنس، وتاركين زوجات عاملات فى البيت،يربين الأولاد ويوفرن لهم طعامهم بالجهد الذاتى من قطع الجبن وبيض الفراخ، ويصبرن على قسوة وألم ابتعاد الرجال عنهن، حيث يقول الكاتب” الزوجة الآن تعيد الدجاج والحمام والبط إلى البنانى المرصوصة فوق السطح الدار. هديل وقرقرة لا تلبث أن تصمت حين تغلق الأبواب فتسوَّد الدنيا.”، ويظهر الكاتب فى “عرب العطيات” مدى معاناة فقراء الريف من أجل تربية أولادهم، وذلك بقول البطل: “أنا هنا أحارب الأرض القاحلة. كلما حرثت أرضاً طلب الناس منى أن أحرث غيرها. ألملم قروشهم فى جيبى فأتقوى على الغياب.”، ويبدع الكاتب فى فى التعبير عن أحاسيس الفلاح صاحب المحراث تجاه أسرته فى ليالى غربته، حيث يقول الرجل:”فى البرزخ بين النعاس واليقظة ترتسم على جدار حجرتى لوحة عريضة من أحلامى, وثغاء الماعز تحت شجرة الجميز يغالب السكون المطبق فوق رأسى. تتلاشى الصورة رويداً رويداً ويخفت الصوت الرفيع لتأتى وجوه دقيقة لعيال صغار، يحملقون فى عينى امرأة، تسكبان الدمع الغزير على الأرض القاحلة، فتبتل وتصير لينة أمام المحراث.”

ويستخدم الكاتب فى قصة شوارع الألم تقنية سردية تتوافر فيها كل مكونات الفعل السردى وخصائص التشويق والإدهاش الفنى والجمالى، وتشعرك بالآلام النفسية لرجل يخضع لعملية جراحية لاستئصال الزائد الدودية على أيدى أطباء إمتياز، تسبب عدد منهم فى عاهات عديدة له ، فى مرحلة الطفولة،  إحداها عبارة عن نتوء ظاهر فى وجهه، سبب له متاعب نفسية لاحدود لها، منها معايرة الأطفال له، ويسترجعها وهو يرى لمعان المشارط ويتخوف مما سيحدث له على أيديهم، حيث يقول: ” الشوارع الممتدة فى لحمى عبَّدتها مشارط الطب الرخيص.”، ويقول:”كلما أوغل المشرط رحيلاً فى جسدى يحتد صراخى. تكور الطبيبة ملء يدها قطناً وتكتم سيل الشتائم تغلى محبوسة داخلى، ثم تنفلت وراء العيال فى الشوارع،..والحبيبات ..والمرايا ..وكل أطباء الامتياز.”، ويصف الكاتب التأثيرات النفسية للعاهة على الرجل، بطريقة تجعلك تبكى على حاله،حيث يقول على لسان البطل:” وكلما هجرتنى إحداهن أجرى إلى المرآة، وأعاتب النتوء بمرارة وأوجعه شكوى.”، ويضيف:”فى زحام الأتوبيسات والأسواق وشوارع المدن الغربية يحيلنى إلى فئة اللصوص والبلطجية فيتجنبنى الناس متوجسين.”، ويستطرد:” عيَّرنى العيال وأطلقوا على لقب “أبو لمونة”. ولم ينجح احتجاجى العنيف فى إسكاتهم. أملأ حجرى عن آخره بالطوب وأرميهم. أخطف عصا أبى الطويلة وألاحقهم. يفرون وهم يرددون: “أبو لمونة أهه .. أبو لمونة أهه.”

ويلعب الكاتب فى المتتالية القصصية” تقاسيم الهوى”، على التكثيف الشديد فى السرد والوصف، لجذب ذهن القارىء، ويستخدم نهايات متباينة للأقصوصات، بعضها صادم يثير الشفقة على المحب، وبعضها الأخر نهايات محيرة أشبه بمصفوفة احتمالات، تعطى الأمل وتفقده فى آن واحد، ففى أقصوصة “الولد الصغير” نهاية صادمة، حيث يراها البطل صدفة بعد عشر سنوات من زجاج سيارة فتناديه باسمه ويتخيل أنها تحبه ويرادوه الأمل، ثم ينطفىء فجأة بعد سماعه طفل بجوارها يناديها بكلمة “ماما”، وفى  أقصوصة “وجه الحبيبة” نهاية صادمة أفقدت البطل الأمل فى انشغال حبيبته به، من خلال مرآة نفسية عاكسة للإحساس، صنعها الكاتب بحروف كلماته، حيث يقول:”لكنه حين راح ينادينى باسم غير اسمى، ويكرر الاسم فى كل مرة، وجدت وجه الحبيبة يتباعد.. يتباعد بقدر نسيانه لى .. يتباعد حتى يتلاشى هناك فى زحام الشارع المؤدى إلى المؤسسة.”

وتثير النهايات الاحتمالية فى أقصوصة”بترا” بمتتالية تقاسيم الهوى ، وفى أقصوصة “الحجرة” فى متتالية أوجاع، الدهشة فى ذهن القارىء وتدفعه إلى التأمل وتجعله يعيش حالة البطل، فى الأقصوصتين ، حيث يقول الحبيب فى النهاية بعد رحلة بحث طويلة عن حبيبته “بترا “:” مزقتنى الفجيعة وأنا أرى الرصيف خاوياً إلا من نفر قليلين. قلت لأحدهم وحروفى تتحشرج فلا يكاد يتبينها:”هل غادر القطار المحطة؟”،  رد وهو يمصمص شفتيه:”سافرت فيه أجمل فتاة رأيتها فى حياتى.”،ويقول فى  أقصوصة الحجرة:” فجأة تذكرت أن الذى يمشى هناك يرتدى قميصاً أبيض، ومحمود خرج فى الصباح بقميصه الأزرق، لكننى مضيت أجرى خلفه وأنادى عليه فى إلحاح شديد .. شديد.”

ويقدم الكاتب فى أقصوصة “برواز”  الحب الحقيقى بفلسفة مختلفة ومن خلال حكى يجمع السرد بالحوار بين ولد وأستاذه، ويستخدم فيها لغة شاعرية خاطفة للذهن، حيث يقول البطل فى نهايتها:”تنامت الملامح حتى امتلأ البرواز حسناً. قبضت عليه وجريت إلى الأستاذ أحمد، البرواز فى قلبى وعينى تراقب الزحام.”، ويعزف الكاتب فى أقصوصة “أين الحبيبة ياقمر؟”سيمفونية أدبية لحب تاه وسط زحام الحياة، ينهيها الكاتب بما بدأ به، وهو ذات العنوان ونفس السؤال، حيث يقول :”أقرأها وأقرأها، وأكون من بعثرة الكلام حروفها. أرددها وأنا أسير نحو الشرفة. أرفع هامتى فأجدك وأسألك:أين الحبيبة يا قمر؟،و يتذكر البطل فى هذه الأقصوصة حبيبته فى قاعة المحاضرات والمقهى وحوائط الغرفة، حيث يقول البطل:” أفتح باب غرفتى، ألقى جسدى فوق السرير. تتشكل الصورة فى ظلام الحجرة, تتراقص فوق الحوائط, تقبع وسط الكتب والأوراق على المكتب.”

ويبدع الكاتب فى المتتالية القصصية طقوس السفر  بأقاصيصها الأربعة “حنين، عورة، سفر العصر، زمانه سافر”، وفى  متتالية تراحيل بأقصوصتيها “وجه، تراحيل”، ويبدو فيها متمكنا من كل معالم وتفاصيل الحياة فى الريف ومشاكل وآلام ومتاعب شبابه الفقير فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ويكمن الإبداع هنا فى أمرين مهمين ، الأول: أن أبطال القصص متصالحون معها تلك الذكريات ويرونها ذكريات جميلة، وذلك فى مفارقة تثير دهشة القارىء، والثانى: أن كل ريفى يقرأها  يرى نفسه وصورته فيها،حيث الشعور بالغربة و الحنين لحضن الأم، وتوديع الأحبة والبشر والشجر والغيطان والذكريات أثناء السفر من القرية للقاهرة فى العصارى، وعمل شباب الريف “فواعلية” لشراء بعض حاجيات الدراسة بالجامعة، وقلق الأباء على أبنائهم المسافرين لمحافظات أخرى بعيدة، حيث يصف الكاتب فى أقصوصة”زمانه سافر” مشاعر الأباء لحظة سفر أبنائهم ، بقوله :” صبيحة السفر يضمنى، ويقبل خدى، ويذهب إلى الحقل. أجهز حقيبتى وأنطلق. على الجسر يلتوى العنق. يتابع البهائم الكثيرة هناك على مرمى البصر. ربما هو معهم يسوق البقرة والنعاج ويقول للعيال فى أسى:زمانه سافر.”

ويتنبأ الكاتب فى مجموعته القصصية بثورة 25 يناير 2011، بحكم أن الطبعة الأولى  منها صدرت عن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” سلسلة “إبداعات” 1998، وجاءت تلك النبؤة فى أقصوصة “وطن” ضمن متتالية أوجاع، وهى أقصوصة أشبه بالومضة، حيث يقول البطل:”لمحت عينى فتى يافعاً قادماً من الشارع الجانبى يهرول نحو قلب الميدان. فى يده كتاب, وشعره يهفهف فى النسمات التى وهبتها السماء للناس. كنت ذاهباً إلى الشارع الذى هلَّ منه. التقينا عند أول نقطة فى جانب الميدان. رحت أتابعه وهو يغوص فى الزحام مخلفاً وراءه جملته المخنوقة بالدمع :غداً سنحررك يا وطن”.     

وتتجسد الوطنية بكل ملامحها ومعالمها ومعانيها فى قصتى “أنا المصرى”، و”تجلى يا ملامح محمد”، ففى الأولى أم مصرية تحرص على رؤية طفلها لصورة أبيه الشهيد فى حرب 5 ينيو ، من الحين للأخر، ويتحقق هدف الأم من ذلك ،فعندما يسقط طيار مصرى من طائرة رش القطن ويشيع الناس أنه طيار إسرائيلى، يقول الطفل: “ها أنا طفل صغير. أقفز إلى فرع شجرة الرمان، وأسلخ عصا رفيعة لبلابة. أجرى وعينى تحلق مع الرجال فى الفضاء. فى جيبى صورة أبى. أعطتها أمى لى ذات ليلة حين طالنى الوعى. قالت وهى تغالب الدموع التي حبستها سنوات الانتظار:صورة أبيك.”

 

ويأتى نصر أكتوبر فى قصة “تجلى يا ملامح محمد” من رحم مرارة هزيمة 5 يونيو 1967، وتبدو الحربان كما لو كانت حربا واحدة من شوطين، وتظهر عبقرية الكاتب هنا فى رفض شهداء 5 يونية لمنطق الهزيمة، وإصرارهم على مواصلة القتال لتحقيق النصر، حتى بعد الموت، حيث يأتى الضابط الشهيد لأخيه محمد:”أجيئك فى الأحلام وفى الذكريات وأهمس لك فى صحوك:إياك أن تنكسر ..إياك أن تنكسر ..، قلتها زاعقة حماسية حين وجدتك يا محمد ترتدى الزى العسكرى. ألبستك كل ما كنت تنوى أن ترتديه، الأفرول والبيادة. صحبتك وأنت تؤدى طابور العبور فى ترعة المحمودية.”، ويرى الضابط الشهيد، صورة وجه أخيه محمد مقسومة نصفين وغير ملتئمة ،ولم يرها ملتئمة ، إلا عندما تحقق نصر أكتوبر، حيث يقول البطل الشهيد:” نصفان يتقاربان ويأتيان على مهل. أمعنت النظر والعين مثبتة فى اتجاه الوجه فإذا بلؤلؤ الثنايا يبرق، وحرير الرأس يهفهف في ريح النصر. يلتئم النصفان ويصيران واحداً. هو وجهك منذ سنين تماماً … تماماً يا محمد .”

 

 ويستخدم الكاتب فى هذه القصة حوارا مثيرا للحماس والشجن بين الضابط قائد السرية وزميله شعبان، يغلب عليه طابع الواقعية السحرية ، من خلال سرد أحد الشهداء للحظات الأخيرة لهزيمة يونيو وفرحة شهداء 5 يونيو الكبيرة بنصر أكتوبر، ويظهر الحوار مدى الحب والوفاء بين جنود الجيش، ومدى حبهم لمصر وإحساسهم بمسئولية القيادة، أثناء خوضهم معارك شرسة مع قوات العدو ، عقب قرار الاىنسحاب الخاطىء، حيث افتدى الضابط زميله شعبان وقال له لحظة استشهاده بلغم ،وهو يحضر له زمزمية مياه من بين أشلاء وجثث الجنود المصريين، لانقاذه  من الموت ظمأ، عبارة عميقة الدلالة والمعنى فى حب مصر والمصريين: ” أترك كل شىء ولا تحمل سوى القلب.”

ويحاكم الكاتب فى قصته بالإيحاء والتورية قادة حرب 5 يونيو 1967 وينتقد انسحابهم من دون خطة عسكرية، ويرى أن الجيش المصرى لو كان قد تخندق وتمترس وقاوم، ما كان قد انهزم بهذا الشكل المزرى، وما كانت سيناء قد سقطت فى أيدى إسرائيل، حيث يحكى عن كتيبة من عشرين جنديا مرابطين فوق أربعة مدافع،وآخر يستطلع الأرض والفضاء، ويقول:” لم ينسها الأعداء فى زخم المعارك، ولكن غلالة النار التى صنعتها مدافعها اليقظة جعلت طائراته تتفادها وتفر بعيداً عنها.”

مقالات من نفس القسم