عالمٌ مضى ولن يعود: الفلاح الفصيح عادل عصمت يكتب عن “الناس والأماكن”

ناس وأماكن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. إبراهيم منصور

يقول الكاتب والروائي “عادل عصمت” “رأيت فلاحين أصيبوا بالغَمّ لإدراكهم بأنهم فقدوا عالمهم القديم إلى الأبد” هذا الوصف لا يصدق على الفلاحين وحدهم، بل على كل من تمر عليه تصاريف الدهر، فتأكل عالمه وتفنيه، فيصبح – وقد فقد الوسط الذي ولد فيه ودرج عليه – كأنما غرق في لُجّة لا يستطيع مقاومة أمواجها العاتية، فيستسلم لليأس والقنوط. يعالج عادل عصمت موضوع هذا الفقدان على نحو فريد، يخلط الكاتب الوصف بالسرد، بالتحليل، استمع إليه يحكي عن مقهى عريق كان في مدينة طنطا اسمه مقهى العثمانية، فيقول: “تعَرّض جدّي لحادث نصب وهو جالس على مقعد بجوار باب المقهى، عرض عليه مجموعة من الشباب بعض الخرفان والماعز. ادعوا احتياجهم الشديد للمال، وتمادوا في جعل السعر رخيصا، طَمّعوا الشيخ الذي بدا مهيبا بعمامته الأزهرية، وجلبابه الكشمير وحركاته المحسوبة، في اللحظة التي أخرج فيها المحفظة من جيب الصديري، خطفها أحدهم من يده ولاذ بالفرار، تاركا خروفا ومعزتين صغيرتين تمأمآن في فضاء المقهى، وتتجولان بين المناضد” هكذا يحكي الكاتب عادل عصمت (مواليد ١٩٥٩م) في كتابه “ناس وأماكن” عن الناس في ارتباطها بالأماكن، عن القرية والمدينة، عن المقهى وتطور نشاطه بين زمنين. لا يكتفي الكاتب بسرد الحكايات، بل يضفر الحكاية مع تحليل وتعليق عميق، كأنه تأويل الحكاية وعرض لمحتواها الظاهر والباطن، يعود لحكاية جده، لكن هذه المرة في القرية بعد أن عاد وأخبر أبناءه وأحفاده بما جرى على المقهى في طنطا “كان أهل الدار يتخيلون ذهوله والفلوس تطير من يده، ويضحكون وهم يقلدون صوته “خد يا واد يا ابن الكلب” . القصة التي كانت في الواقع مأساوية تتحول في السرد إلى مرح وسخرية، حين تُحكى بعد ذلك وتضاف لها مقاطع متخيلة.

  كتاب “ناس وأماكن” نشر في البداية مقالات في مجلة “أمكنة” ثم صدرت طبعته الأولى عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام ٢٠١٠م، وصدرت طبعة جديدة منه عن الكتب خان ٢٠٢٠م. وقسم الكاتب كتابه إلى ثلاثة أقسام: الأول عن القرية، والثاني عن المقهى والمدينة، والثالث مختلف يعالج فيه الكاتب قضية الهجرة، ويعرض كتابا عن مصر كتبه واحد من علماء الحملة الفرنسية.

    عادل عصمت هو وريث  محمد حسين هيكل، وعبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس، وعبد الحكيم قاسم، وخليل حسن خليل، في الكتابة عن الفلاح وحياته، وعن الأرض والقرية، ومن اللافت أني حين سألته عن رواية أحمد صبري أبو الفتوح “ملحمة السراسوة” هل قرأها ؟ قال لا للأسف لم أقرأها. هل كانت تلك مصادفة! أم أن كاتبا ربط نفسه بالأرض والفلاح والقرية، لا يحب أن ينغمس فيما يشبه عمله، ربما كان تفسيري خطأ أيضا.

   عرفت عادل عصمت عن طريق صديقنا المشترك الزميل الدكتور هاني حلمي،  في عام ٢٠١٠م، في مؤتمر عقدناه في جامعة طنطا، ناقشنا روايته الأولى “أيام النوافذ الزرقاء” مع رواية ” رجال وشظايا ” للكاتب سمير الفيل تحت لافتة “رواية الحرب” تولى الدكتور هاني رئاسة الجلسة التي لم يحدث مثلها قبل ذلك، ولن تتكرر كثيرا بعد ذلك لا في جامعة طنطا ولا في جامعة دمياط، لذلك كنت قد ذكرت أن المؤتمر الذي عقدناه يشبه الحمل المتأخر لامرأة كادت تفقد الأمل، لكن يبدو أن تلك المرأة لم تحبل مرة أخرى ولم تضع. لكن المفرح في الأمر أن تلك الندوة كانت بمثابة النبوءة، لأن كلا من سمير الفيل وعادل عصمت قد تبوأ مكانة سامقة الأول في القصة القصيرة والثاني في الرواية. كان ذلك قبل أن يحصل عادل عصمت على أية جائزة، الآن هو يحمل على صدره أوسمة الجوائز كلها، وهذه هي المرة الأولى التي أكتب عنه فيها.

   القسم الأول من ناس وأماكن، المعنون قرية منسية كتب بالكامل عام ٢٠٠٢، ونشر جزء منه في “أمكنة” وباقي المقالات كتبت على مدار السنين حتى عام ٢٠١٠م.

  من قرأ روايات عادل عصمت سوف يقدر كتاب “ناس وأماكن” تقديرا خاصا، أنا أفعل ذلك، حيث أجد المخطوط الأولي القديم، الذي يستمد منه الكاتب مادة رواياته “أيام النوافذ الزرقاء” المنشورة ٢٠٠٩م، وبعدها “الوصايا” المنشورة ٢٠١٨م، وأخيرا “جنازة السيدة البيضاء” ٢٠٢١م آخر رواياته.

قرية منسية” هو عنوان الجزء الأول من الكتاب، والمقصود قرية “أبشواي المَلَق” قرية الكاتب، الواقعة بالقرب من مدينة طنطا، لكن خط السكة الحديد لا يمر بها، فظلت لزمن طويل بعيدة معزولة، فلما تكررت الفرص المتسربة لربطها بالعمران والحضارة ترسخ في ذهن أهلها أنها قرية منسية.

  يرصد الكاتب الترع والمصارف والمساجد والقناطر، ثم “المرشح” الذي أحدثته ثورة يوليو ٥٢، لكن السرد لا يكتفي بوصف المكان، بل يتوغل في وصف البشر ظاهرا وباطنا. يختار الكاتب نماذج من هؤلاء البشر: رجال ونساء، الجمّال الذي أحب أوصاف، وسنية “التي يبدو أنها كانت جاهلة بالوسائل الحديثة لمنع الحمل، حملت كل عام تقريبا، يرى الناس بطنها تكبر أمامهم، لكنني لم أعرف أنهم قاطعوها أو نبذوها بالكامل… ربما يعود تسامحهم النسبي معها إلى كونها أرملة وليست زوجة” كانت سنية أرملة رجل عجوز وكانت تحب الرجال، يمازحونها فتقبل مزاحهم، تضحك من قلبها ولا تعبأ بما يقال، ولم يمنعها المرح من العمل الشاق. كونت سنية ثروة من عملها الشاق، وأصبحت بنكا صغيرا يقرض الفلاحين، في فترة انتشار الجماعات الإسلامية في المدن، وفي المعاهد العلمية، لم تسلم القرية من تسلطهم، وكانت سنية هدفا مرصودا، لكنهم فشلوا في الإمساك بها متلبسة، فانصرفوا عن دارها خائبين.

   العالم الظاهر الذي يصفه الكاتب في براعة  يختلط في ذهن الأولاد بعالم باطن، عالم أو عوالم غير مرئية، هذه العوالم يعرفها الكبار ويحذرون الصغار من التمادي في تجاهلها “كنا نلعب في وسط الدار، ننط ونهبد الأرض بأقدامنا، فتخرج الجدة مغبرة بالتبن وتطردنا إلى الخارج قائلة إننا نزعج من يسكنون تحت الأرض”

        عالم المقابر أيضا، هو عالم آخر من تلك العوالم غير المرئية “كثيرا ما رأيت نساء جالسات بجوار جدران المقابر، يملن برؤوسهن إلى الأمام حتى تلمس الجدران، مندمجات في حديث هامس مع شخص ينصت إليهن في الجانب الآخر.. ربما يشكين الأحوال بعد غيابه، أو يدعونه إلى التصرف مع ابنه الذي أصبح كبيرا ولم تعد المرأة قادرة عليه، وأحيانا تذهب امرأة لتستأذنه في أنها ستزوج البنت، أو تخبره بنجاح الولد” كتابة عادل عصمت هنا هي المعادل لما كتبه عالم الاجتماع الشهير سيد عويس في كتبه عن رسائل الإمام الشافعي، والموت في فكر المصريين المعاصرين.

في مقطع طويل بعنوان “قناديل الليل” يقول الكاتب “عشت ليلين: الليل القديم، ليل اللمبة الجاز والضوء الأصفر والونس والدور المفتوحة الأبواب، وليل الكهرباء والمحلات المضاءة بالنيون والتليفزيون”. وصف الكاتب أنواع القناديل أو المسارج التي أضاءت ليل القرية القديم، وهي ستة أنواع يسميها اللمب، جمع لمبة، اللفظ مأخوذ من اللغات الأوربيةLampلكن الفلاحين يعرفونه هكذا، هذه الأنواع الستة هي: اللمبة الصفيح، والوناسة، والفانوس، واللمبة نمرة ٥ ، واللمبة نمرة ١٠، وأخيرا الكُلوب.

   في وصفه “للمبة الصفيح” أبدع عادل عصمت وسما إلى قمة عالية لا يطاوله فيها إلا الأقلون “اللمبة الصفيح نسيج وحدها في قلب المصابيح، ورغم أنها تعتبر أدنى الأنواع الموجودة في الدار، إلا أن دورها حيوي.. هي كوز من الصفيح مقفول  السطح، له رقبة رفيعة طويلة يبرز منها شريط القطن، عندما يشتعل الفتيل تخرج شعلة طويلة أطرافها النهائية خيوط رفيعة من الهباب”. خصص الكاتب ثلاث فقرات للمبة الصفيح بلغت عدد كلماتها ٢٥٥ كلمة أي مقال قصير، هو أول مقال في الأدب العربي عن هذا المسراج الفاني، يعرفنا الكاتب أن اللمبة الصفيح توضع بجوار الفرن أو تلقى على بسطة السلم، وأحيانا ترفع على رف مخصص لها. اللمبة الصفيح هي رفيقة المرأة في حلب الجاموسة، وهي رفيقتها أيضا في تأدية عمل في جوف الليل أو لزيارة أهلها، تحملها على رأسها وتمضي مستأنسة بنورها الضئيل الخابي.

  في تقديمه ل “الكلوب” لا يكتفي الكاتب بوصف هذا القنديل الفاني أيضا، بل يطلعنا على عوالم الصغار والكبار في القرية من زوايا اللعب والتسلية والفرح والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، سيقابلنا تعبير “الرتينة اتخرمت” الذي يحملنا هناك إلى عوالم عبد الرحمن الشرقاوي المنوفي، ويوسف إدريس الشرقاوي، وعبد الحكيم قاسم ابن الغربية الذي يعجب بكتابته عادل عصمت أيما إعجاب. والرتينة لمن لم يعرفها هي الفِتَل الحريرية التي تأخذ شكل كيس صغير يركب على ماسورة تضخ البنزين لإشعال الحرارة داخل هذا الكيس فيعطي الضوء اللامع المبين.

    في كل موضع من كتابه، يقدم لنا عادل عصمت نماذج من البشر، تذكرنا بعالم القرية في نهاية الستينيات وعقد السبعينيات من القرن العشرين، حين أخذت القرية تنفض عن كاهلها عصر الظلام الدامس، والليل لساجي، إلى عصر الكهرباء وما تبعه من تبعات. سنعرف شخصية “أبو زيد الميكانيكي” الذي يدير ماكينة النور العمومية في الوحدة المجمعة، وسنعرف “طه” الفارس الذي سابق قطار السكة الحديد فأفني حصانه الوفي، وخرج من السباق بيد معطوبة.

حينما يقارف الكاتب تحليل الحالة الاقتصادية وتغير الأوضاع المادية في القرية والمدينة، نرانا نتذكر العمل الشهير للدكتور جلال أمين “ماذا حدث للمصريين” لكن جلال أمين وهو أستاذ الاقتصاد بدا في كتابه وكأن التغير كان تركا لعالم مهيب لامع، فقد بدا الحنين (النوستالجيا) مطلا من التحليل. أما عادل عصمت فهو متأمل مدقق، متفاعل، لكنه مقدر لكل الجوانب التي “غيّرتنا”، هو يراها أحوالا تدهمنا، ولا تعطينا فرصة الاختيار، كنا نحن أطفال الفلاحين نجمع لطع القطن، في شمال الدلتا كانت العملية تسمى “الدودة” وسمعت والدتي تسميعها العونة، أي فرقة جمع لطع القطن، التي قد يدفعها القدر دفعا لأن تصبح وباء، ثم نتحول لرش الدود بالموتور والمبيدات الحشرية القاتلة، وبعض تلك المبيدات كانت محرمة دوليا، ويرصد الكاتب في براعة دخول طيارات الرش، وكانت هذه هي المرحلة الأخيرة في “المقاومة”. لم تتلاشى المقاومة بالطائرات، بل تلاشى القطن نفسه بعد ذلك.

 يواصل الكاتب رصد التحولات ومنها دخول الجرار الزراعي. هنا يكون لبعض الشخصيات السبق في قراءة المستقبل والتحول نحو العصر الجديد بلا تردد، ومن هؤلاء “السيد رماح” الذي وصفه شيخ الجامع ب”أشجع راجل في البلد” فقد اشترى جرارا زراعيا بملحقاته: المحراث والقصابية ومقطورة لنقل السباخ والمحاصيل. الجرار هنا سوف ينهي التعب والعناء الذي تحملته النساء والرجال والأولاد، بل سوف ينهي أيضا عصر “الجِمال” التي تولت نقل المحاصيل من الحقل إلى الأجران على مدى عقود متطاولة. أما “العفيفي” شيال القطن فلم يكن إلا نموذجا للرجل الدؤوب الذي واتته الفرصة لكي يصنع لنفسه سلطة بين الفلاحين، بعد أن كان مجرد “شيال”

    يرصد الكاتب التحولات الاقتصادية التي أنتجت تحولات اجتماعية، بل انقلابا في القيم والسلوك، لكنه يرصدها لا من باب التباكي على ما كان، بل لتأمل هذا الانقلاب وفهم أثره في نفوس القوم. يقول الكاتب ” الغموض أحاط بأشياء كثيرة، ناس كونوا ثروات، دون أن يملكوا ما يؤهلهم لذلك، أسرة كاملة تتاجر في الحشيش، وعصابات تدخل على نساء عجائز وتأخذ حليهن، ووصل الحال إلى أن تهامس الناس عن وجود شبكة دعارة” القرية هنا مثل المدينة تأكل الفراخ البيضا، والشباب يسافر إلى بلاد النفط، والملابس تتغير أنماطها، والحجاب ينتشر والميكروفونات تزعق في المساجد، العائلات الكبيرة تتفكك إلى أسر نووية، والقيم تتهاوى لأسفل سافلين. التغير الاجتماعي صار حتما مقضيا، لكن هل كان تهاوي القيم وتدني السلوكيات قدرا مكتوبا، أنزلته السماء كما أنزلت الكتب المقدسة؟  

  في مقطع بعنوان “أطياف المدينة” سوف يأخذنا الكاتب إلى عوالم مدينة طنطا، التي يعرفها أهلها، كما يعرفها الذين عاشوا فيها زمنا وأنا منهم، هنا عالم السيد البدوي والشيخة صباح وشارع بطرس، ويربط الكاتب بين عالمي القرية والمدينة إما عن طريق المُولد، أو عن طريق المقهى، وأيضا بتحليل “الخطاب” فعادل عصمت الذي درس الفلسفة في جامعة عين شمس -“دراسة هشة” كما يقول- قادر على تحليل خطاب ينمو في المدينة كما ينمو في الريف هو هذا النمط من الشجاعة الذي يدفع رجالا من الحواة ولاعبي السيرك وصانعي الأوشام، ليصنعوا ما يبدو أنه معجزات مثل تلك التي يصنعها المعزّمون على الثعابين في مجاهل بيوت الطين وسقوف القش على سطوح البيوت.

   يبلغ المؤلف قمة التحليل للخطاب الذي نأخذه من الفلسفة الغربية والنقد الأدبي الحديث، بل هو قادر على تقديم نموذج من التحليل النقدي للخطابCritical Discourse Analysis الذي تتذرع به بعض الاتجاهات النقدية لكي تقدم لنا نوعا من الشروح والحواشي في ثوب حديث، لكني وجدت عادل عصمت قد أبدع في هذا النوع من التحليل في وقت مبكر جدا حين كتب عن هجرة الشبان المصريين إلى أوربا، ثم عودة جثثهم، فقد أخذ الكاتب خبرا في صحيفة عن عدد من الجثث، هو لب الخبر في عام ٢٠٠٥م في الصحف المصرية، تأمل الكاتب كلمة جثة، وأخذ يقلبها على وجوهها، وقدم صفحات من التحليل الفلسفي العميق لخبر عن شبان مصريين رمى بهم تغير الزمان وتقلُّبه في عرض البحر، فغرقوا أمام سواحل ليبيا. الحمد لله أننا لم نعد نسمع عن هذا الحدث المؤسف، لكن ما وقع لم يكن لأبناء هؤلاء الشبان ولا لزوجاتهم، ولا حتى لأهل قريتهم حدثا عابرا أو خبرا في صحيفة، بل كان مأساة حفرت في الذاكرة، وتركت دموعا في المآقي، وأحزانا في القلوب، ومصائر في مهب الريح.

  في “سيرة شخصية لمقاهي المدينة” يقدم الكاتب وصفا لجوانب ثلاثة هي: العمارة، والجغرافيا، والتاريخ، واختار الكاتب أربعة من مقاهي طنطا العريقة: القهوة المصرية، والقهوة التجارية، وقهوة الأقصر، والقهوة العثمانية التي حدثت في ساحتها حادثة النصب على جد الكاتب وذكرناها في صدر هذا المقال. لكن الكاتب عرض لنا نماذج من رواد تلك المقاهي ورسم لنا صورة لشخصيات من جيله كانت ترتاد تلك المقاهي منهم “أحمد علام” المهندس ابن الأسرة الوفدية، المعجب جدا بالأوربيين، والذي انتهى به الحال أن هاجر إلى دبي، “وينوي ألا يعود إلى هنا مرة أخرى”  وشخصية “جودة” الذي أهمل دراسته الطبية، وتفرغ لمطاردة البنات، وكان جودة يرى نقاشات زملائه على المقهى في موضوعات السياسة والأدب “لعب عيال”، لكن المحزن أن جودة الذي كان يملك دقة تجريبية في مراقبة سلوك البنات والتنبؤ به، قد هوت به الحال إلى أن صار مندوب مبيعات ترهق كاهله شنطة أدوية يتنقل بها في القطارات، يوصلها للزبائن في مدن بعيدة.  

  ويختم الكاتب هذا القسم من الكتاب بمقطع عن كوبري طنطا العلوي على الطريق، الذي انتظره أهل المدينة زمنا طويلا، فلما بني خاب أملهم، ووقعوا في الشكوك، لأن التصميم الهندسي للكوبري جعل تنفيذه لا يعطي الغرض من إنشائه، هنا ثارت الشكوك حول السبب وراء تغيير التصميم، وتحول مسار الكوبري، ووجد الناس أن وجود كافيتريا على الطريق كانت مصدر ثروة ونفوذ لصاحبها، هو التفسير المنطقي لتحول مسار الكوبري، وضياع الأمل في الاستفادة منه في انسياب المرور. لكن شخصية صاحب الكافيتريا كانت أيضا موضع تحليل من الكاتب، فهي شخصية شاب طنطاوي مغامر، هارب من الخدمة العسكرية مثل أخيه الذي تسلل مبكرا إلى إيطاليا، كان أخوه هذا شقيا، قيل أنه مطلوب وصوره مطبوعة على علب الكبريت هناك، فقد تزوج فتاة فرنسية وقتلها وعاد إلى مصر، ويفسر الكاتب تلك الأساطير بأنها إنما تصاحب مشاريع المغامرات، لكي تشكل أجواء غير عادية حول شخص يفكر بطريقة متفردة وشيطانية.

  في تحليله للخطاب، لا يترك عادل عصمت أمرا إلا وتفحصه، المباني والشوارع، والملابس والعادات والتقاليد، حتى تحولات اللغة فكلمة “شعبية” التي عرفت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، حلت محلها كلمة  “بيئة” في نهاية التسعينيات. يتابع الكاتب الأفلام وأفيشاتها، وكلمات مثل الترسو والبلكون واللوج، وكذلك كلمات سواريه وماتينية، وحرفة مشغل الفيلم وارتباط عمله بمشاعر رواد السينما وسلوكهم، كل ذلك من خلال الذكريات في مدينة  مدينة طنطا التي امتلكت يوما خمسة دور للسينما ومسرحا للبلدية.

   لقد انطوى كتاب عادل عصمت “ناس وأماكن” على لون من التأليف المبدع، الذي تطاوعه الموهبة الفذة لروائي قدير، فيحلل العلامات   Signsمثل تلك التي توضع على السيارات، لتدل على المهنة وعضوية الأندية والاهتمام بالملابس لكي تكون دليلا على الانتماء لطبقة أعلى. هذا التحليل ينطلق من علم السيميوطيقاSemiotics  فيراه تقليد التقليد، الطبقات الصاعدة تقلد الطبقات الغنية التي بدورها تقلد الأوربيين. لقد كان ارتياد البنات للمقهى، في القاهرة أو في طنطا، دليلا على ما جرى من تغير في حياتها بالدراسة والعمل، وتبديل الملابس علامة على تبديل المكان، حينما تشرع فتاة تجلس على المقهى في إعادة لف الشال على رأسها وتثبته بالمشابك مرة أخرى فإن تلك الفتاة “ترتدي البيت وهي في طريقها إليه”

 

 

مقالات من نفس القسم