ترجمة وتقديم: مبارك وساط
تقديم:
وُلِد أندري بريتون ـ André Breton ـ في تِنْشِبْرَيْ بمنطقة النّورماندي الفرنسيّة يوم 18فبراير 1896. كان الطّفل الأوحد لأبويه، وعاش طفولة وادعة. في نحو السّادسة عشرة، بدأ يهتمّ بكتابات بودلير ومالارمي.
نَشَر بريتون أولى مجموعاته الشّعريّة سنة 1919، تحت عنوان: “محلّ التّسليف بالرّهن”، وخلال نفس السنة، أسّس، رفقةَ لوي (لويس) أراغون وفيليب سوﭘو، مجلّة “ليتّيراتور” (أدب).
شارك بريتون في أنشطة “مجموعة دادا” خلال سنتي 1919-1921، وشكّلت الدّادائية، بالنسبة إليه، جِسراً نحو السّوريالية.
في سنة 1924، ظهر “بيان السّوريّاليّة”، بقلم أندري بريتون، وكان، في طبعته الأولى، تقديماً لكتاب بريتون الشّعري “سمكة قابلة للذّوبان”. في هذا البيان، يُشِيد أندري بريتون بالخيال المنطلِق من كلّ عِقال، وبالعجيب والمدهش ممّا يبتدعه الخيال ويحفل به الحلم، ويرى أن الجمال يكمن فيما هو مدهش وعجيب…
وقد صدرتْ له، لاحقاً، أعمال عديدة، نذكر منها : “نادجا”(1928)، و”البيان الثّاني للسّوريّالية (1928)، “الأواني المستطرقة” (1932)، “الحبّ الجنونيّ” (1937)، « أنطولوجيا الفكاهة السوداء » (1940)، “المصباح في ساعة الحائط” (1949)… وقد أصدر صيغة نهائية لكلٍّ من : “بيانات السّوريالية” (1962)، و”نادجا”، ( 1963 )…
وفي صبيحة 28 سبتمبر من سنة 1966، تُوفّي أندري بريتون في أحد مستشفيات باريس.
ـ ـ ـ
* ملاحظة: يُكتَب اسمُ هذا الشّاعر، في العربية، بِأكثر مِن صيغة: بريتون، بروتون، ولا واحدة مِن هاتين الصّيغتين تتواءم تماماً مع النّطق الفرنسيّ لاسم الشّاعر، وهذا أمر عاديّ طبعاً. واستعمال هاته الصّيغة أو تلك يبقى مسألة تعوّد أساساً.
ـ ـ ـ
القصائد:
مُعاشَرة حرّة
امرأتي ذاتُ شَعْرِ نارِ الحطب
ذاتُ أفكارٍ من وميضِ بَرْق
ذات قدِّ السّاعة الرّمليّة
امرأتي ذات قدّ ثَعلبِ الماء بين أسنان النّمر
امرأتي ذات فمِ الشّارةِ فمِ باقةِ نجومٍ من أحدثِ حجم
ذاتُ أسنانٍ من آثار فئرانٍ بيضاء على التّراب الأبيض
ذات لسانِ العنبر والزّجاج المَحكوكين
امرأتي ذاتُ لِسان القُربان المطعون
ذاتُ لسان الدّمية التي تفتح عينيها وتُغلقهما
ذاتُ لسانِ حَجَرٍ وُجودُه لا يُصدَّق
امرأتي ذاتُ أهدابٍ من خطوط غليظة لكتابةٍ طفليّة
ذاتُ حاجِبَيْ حافةِ عُشِّ خُطّاف
امرأتي ذاتُ صُدغَين من أردوازِ سقفِ الدّفيئة
مِن بخارٍ يُجلّل زجاج النّوافذ
امرأتي ذاتُ كتفيِّ الشّامپانيا
كتفَيْ نبعٍ له رؤوس دلافين تحت الجليد
امرأتي ذاتُ رُسغَي عود الثّقاب
امرأتي ذاتُ أصابع الصُّدفة وورقةِ آس القلب
ذات أصابع التّبن المُقطَّع
امرأتي ذاتُ إبطَي السَّمّور وثمار الزّان
وليلةِ عيد القدّيس يوحنّا
وشُجيرة الرِّباط وعُشِّ سمكٍ ملائكي
ذاتُ ذراعي زَبدِ البحر ومَحبِس مياه النّهر
ومَزيجٍ من القمح والطّاحونة
امرأتي ذاتُ ساقي الصّاروخ
ذاتُ حركات قِطَع السّاعات واليأس
امرأتي ذات رَبلتين من لُبّ البيلسان
امرأتي ذاتُ قدمين من حروف أولى
ذاتُ رجْلي حُزمة المفاتيح ذاتُ رِجلَي جِلفاطٍ يَشرب
امرأتي ذات عنق الشّعير غير المقشور
امرأتي ذات حنجرة وادي الذّهب
ذات حنجَرةِ مواعد في مجرى السّيل نفسِه
ذات النّهدَين الليليين
امرأتي ذات نهديّ الرّابية البحْريّة
ذاتُ نهدَيْ مِذْوب الياقوت الأحمر
ذاتُ نهدَيّْ شبح الوردة تحت النّدى
امرأتي ذات بَطنِ مروحةِ الأيّام إذ تنبسط
ذاتُ بطن مخلبٍ هائل الضّخامة
امرأتي ذاتُ ظَهْر الطّائر الذي يفِرّ عموديّاً
ذاتُ الظَّهْر الذي من زئبق
ذاتُ الظّهر الذي من ضوء
ذاتُ القفا الذي من حجر صقيل ومن طباشير مُبلَّل
ومن سَقطةِ كأسٍ شُرِب منها للتّوّ
امرأتي ذات خصر الزّورق
ذاتُ خصر النَّجَفة خصرٍ من ريشِ طيور
من سُويقاتِ ريشِ طاووسٍ أبيض
خصرِ ميزانٍ عديم الحساسيّة
امرأتي ذات الرّدفين اللذين من الصّلصال الرّمليّ والأمْيَنْت
امرأتي ذاتُ ردفيْ ظَهرِ طائر التَّمّ
امرأتي ذاتُ الرّدفين الرّبيعيين
ذات عضوِ سيفِ الغُراب الجنسيّ
امرأتي ذاتُ العضو الجنسيّ الذي للمُثْبِر ولِخُلد الماء
امرأتي ذات العضو الجنسي الذي من طحلب ومن ملبّساتٍ قديمة
امرأتي ذات عضو المرآة الجنسيّ
امرأتي ذات العينين المترعتين دُموعاً
ذاتُ العينين اللتين لمجموعة أدواتِ لَعبٍ بنفسجيّة ولإبرةٍ ممغنطة
امرأتي ذات عينَي المَفازة
امرأتي ذات عينَين من ماءٍ يُشرب في السّجن
امرأتي ذات عينَي خشبٍ دائماً تحت السّاطور
ذات عينَي مستوى الماء مستوى الهواءِ الأرضِ النّار
فِعْل الكينونة
أعرف اليأس في خطوطه العريضة. لا أجنحةَ لليأس، وهو لا يجلس ضرورةً في المساءات إلى مائدة رُفِعتْ عنها الأطباق، بِرصيفِ مقهىً مُطِلّ على البحر. إنّه اليأس وليس عودةَ كمٍّ من الأحداث الصّغيرة مثلما بُزور تُغادر مع حلول الليل ثلماً صوبَ آخر. إنّه ليس طُحلباً على حجر ولا كأساً ينبغي شُربها. إنّه سفينة يُخَرّقها الثّلج، إن لاءمكم هذا التّعبير، مثل طيور تَهوي وليس لِدَمها أدنى كثافة. أعرف اليأس في خطوطه العريضة. شكلٌ شديد الصِّغَر يَحدُّه حِلْيٌ لِلشَّعر. عِقدُ لآلئَ لن يُمْكننا أن نعثرَ له على مِغلاق ووجوده أوهى من أن يكون معلّقاً بخيط واهن، هذا هو اليأس. ما تبقّى لا نتحدّثُ عنه. لن نكون قد انتهينا من أنْ نيأس إذا ما بدأنا. أنا أيأس من الأباجورة نحو الرّابعة، أيأس من المروحة زُهاء منتصف الليل، أيأسُ من سيجارة المحكوم عليهم. أعرف اليأس في خطوطه العريضة. ليس لليأس قلب، اليد تبقى دائماً عند اليأس مبهورة الأنفاس، عند اليأس الذي لا تَنمّ لنا مراياه أبداً عمّا إن كان قد قضى نحبه. أعيش على هذا اليأس الذي يخلب لبّي. أُحبّ هذه الذّبابة الزّرقاء التي تطير في السّماء في ساعة دندنة النّجوم. أعرف في خطوطه العريضة اليأس المرفوق بحالات اندهاش طَويلة واهية، اليأس بدافع الأَنفة، اليأس الذي يُسبّبه الغضب. أستيقظ في كلِّ يوم مثل سائر النّاس وأَمطّ ذراعيّ على امتداد ورقٍ حائطيّ مُزَيَّن بالزّهور، ولا أتذكّر شيئاً ودائماً بيأس أكتشفُ أشجارَ الليل المقطوعةَ الجذور. هواء الغرفة جميل مثل مِقرعتَيْ طبل. إنّه طَقسُ طَقسٍ. أعرف اليأسَ في خطوطه العريضة. فهو كريح السّتارة التي تَمدّ لي العصاة. هل ثمّة تصوّر ليأسٍ كهذا! هيّا لإخماد النّار! آه، إنّهم سيأتون مُجدّداً… النّجدة! ها هم يسقطون في الدَّرَج… وتسقط إعلانات الصّحف ويافطات الإشهار الضّوئيّة على امتداد القَنال. كومةَ الرّمل، اغرُبْ من هنا، يا كومةَ الرّمل! في خطوطه العريضة، ليس لليأس أهمّية. إنّه عمل شاقّ لأشجارٍ ستُكَوّن غابةً من جديد، إنّه عملٌ شاقّ لنجوم سيؤدّي إلى يومٍ أقلّ، إنّه عملُ شاقّ لأيّام أقلّ ستَنشأُ عنه مُجدّداً حياتي.
طارِدْهُنّ كلّهنّ
إلى بنجامين ﭘِيري
في المركز من أراضي الهنود بأوكلاهوما
رجلٌ جالس
عينُه مثل قطّ يَطوف حول أصيصِ نَجيل
رجلُ مُطَوّق
ومن خلال نافذته
مجلسُ الآلهة الخادعة الصّارمة
التي تنهض من الضّباب أكثر عدداً في كلّ صباح
حوريّات غاضبات
عذراوات على الطّريقة الإسبانية
بداخل مثلّثات متساوية الضّلعين
مذنّبات ثابتة يُزيل البرد لونَ شَعرها
النّفط مثل شَعر إيليانور
يَغلي فوق القارّات
وفي بذرته الشّفافة
على مدى البصر هنالك جيوش تراقب بعضها
هنالك أناشيد تسافِر تحت جناح لمبة
وهنالك أيضاً الأمل في المُضِيّ بسرعة
إلى الحدّ الذي يلتقي معه في عينيك
خيطُ زجاجة النّافذة مع أوراق الشّجر
والأنوار
في ملتقى الطّرق المترحّلة
رَجل
هو الذي رُسِمتْ حوله دائرة
مثلما حول دجاجة
مدفون حيّاً في انعكاس البقع الزرقاء
المكوّمة إلى ما لا نهاية في خزانته
رجلٌ رأسُه مَخِيطٌ إلى الجوارب الطّويلة للشّمس الغاربة
ويداه سَمكتان ترعيان الطّحالب
هذا البلد يُشبِه علبة ليل هائلة الحجم
بنسائه القادمات من أقصى الأرض
أكتافهنّ تُسَوّي حَصى كلّ البحار
لمْ تنسَ الوكالات الأمريكيّة أن تتكفّل بهؤلاء الزّعماء الهنود
الذين حُفِرتْ في أراضيهم آبار
والذين لم تبق لهم حرّية التّنقّل
إلا في الحدود التي تَفرضها معاهدة الحَرب
الغنى اللامُجدي
الجفون الألف للماء الذي ينام
يمرّ الوصيّ في كلّ شهر
يضع قبعته الأنيقة على السّرير المغطّى بالسّهام
ومن حقيبته التي من جلد الفقمة
تتناثر أحدث كتالوغات المعامل
التي تمنحها أجنحةً اليدُ التي كانت تفتحها وتغلقها
حين كنّا أطفالاً
مرّةً وعلى الخصوص مرّةً
كان ذاك كتالوغَ سيّارات
يُقدِّم سيّارة العروس
للعربة التي تمتدّ لنحو عشرة أمتار
وتجرّها الخيل
يُقدّم عربةَ الرّسّام التشكيلي الكبير
وهي مُقتطَعة من مَوشور
وعَربة الحاكم
الشبيهة بقنفذِ بحرٍ كلٌّ من شوكاته قاذفةُ لهب
وكانت هنالك خاصّةً
سيّارةٌ سوداء سريعة
بأعلاها نُسورٌ من صَدف
وفي كلٍّ من جوانبها نَقْشٌ لِغصن ذي أوراق
ممّا تزيَّن به مداخن الصّالونات
فكأنّما نُقِشَ مِنْ قِبَل الأمواج
عربةٌ باذخة لا يُمكن أن يُحرّكها إلّا البرق
مثلما تلك التي تهيم فيها الأميرة أَكّانتْ
مِنقلةٌ هائلة الحجم بأكملها من بزّاقات رماديّة
ومن ألسنة نارٍ كما تلك التي تظهر
في السّاعات المشؤومة
في حديقة بُرج سان جاك
سمكةٌ سريعة عالقة بطحلب وضرباتُ ذيلها لا تكفّ
سيّارة كبيرة للتّباهي وللحِداد
للنّزهة الأخيرة لإمبراطور قدّيس قادم
من أجل نزوة
وستجعلُ الحياةَ بأكملها عتيقة الطّراز
الإصبع أشارت بلا تردّد إلى الصّورة المتجلّدة
ومنذ ذلك الوقت
فالرّجل ذو عُرْفِ سمندل الماء
خلف عجلة القيادة التي من لآلئ
يأتي كلّ مساء ليُطرّز سرير إلهة الذُّرة
أحتفظ للتّاريخ الشّعريّ
باسْم ذلك الزّعيم الذي سُلِبت منه أملاكه
والذي نشعر نوعاً ما بقرابته لنا
اسم ذلك الرّجل الوحيد الذي دخل السّباق الكبير
ذلك الرّجل الذي صدِئ بشكل بديع في آلة جديدة
الذي يُنَكِّس الرّيح
إنّه يُسمّى
إنّه يحمل الاسم اللامع
الذي هو طارِدْهنّ كلّهن
على الدّوام طارِدْ في الآنِ نفسِه الأرنَبين
جَرّب حظّك الذي هو مجموعة أجراسِ احتفال وإنذار
اِجْرِ خلف كائنات أحلامك اللائي يفقدن قواهنّ
ملفوفات في تنانيرهنّ الدّاخليّة
اِجْر خلف الخاتم الذي بلا إصبع
اِتبع رأسَ الجُرف الثّلجيّ