رواية “في غياب بلانكا”.. أثر التحولات، وشبح ابن زيدون وعصره

في غياب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد أسامة 

يقول المثل الشعبي “الجواب بيبان من عنوانه”، وبغض النظر عن مدى مصداقيته أو ملائمته للواقع، فإنه يشير كما- هو واضح- إلى العلاقة العنوان أو المقدمات مع متن الحكاية، والتي -إن أدرك الكاتب قيمتها ووظفها بشكل صحيح- تساهم في استيعاب القارئ وفهمه للأفكار التي يرمي إليها الكاتب.

لذا فأنا أسجل امتناني الشديد لما صاغه الكاتب أنطونيو مولينا في مقدمة الترجمة العربية، ليس فقط لأسلوبه البسيط وأمثلته التقريبية – زادت من سلاستها الترجمة-، وتلقائيته الشديدة في مزج علاقته بأحفاده بحديثه، وإنما في أطروحاته عن الكتابة، والتي عضدت الحكاية وأكسبتها قوة، كما أضافت للقصة وشخصياتها وطبيعة المكان نفسه أبعادا كثيرة، تنقلنا من مجرد التعاطف لشخصية على حساب غيرها، إلى الوقوف والتأمل في خطوات الشخصيات واتجاهاتها “كما جاءت الاختلافات الطبقية وتأثيرها على فلسفة الحياة مثلا” إلى أن نصل إلى التفتيش عن معانٍ كمعنى الغياب “والذي كان عماد الرواية وأساسها” متحدين مع حيرة بطل القصة، متفهمين معاناته

ولكي تقدم الأطروحات بشكل سليم، جعل الكاتب القصة حيادية، فقدم نفسه راويًا للحكاية، ليحاول تقديم كل شخصية بطريقة مبتعدة عن الأحكام العاطفية “كما أشار الكاتب لقوة التأمل الشعري لدى ماريو” التي تزيد أو تنتقص وربما تلغي بعض الشخصيات عندما تُحكى “كشخصية خولي لدى ماريو ونارنخو لدى بلانكا” نتيجة ذاكرتها أو وقع تأثير الحدث نفسه، وأيضا ليستطيع تحليل الأحداث والدوافع- وإن ابتعد عن تسلسلها الزمني – للشخصيات الرئيسية، ومن تشابكها بجانب بعضها البعض نفهم سر مشاعرها -دون أي تعقيب منه إلا نادرا- من تأثر أو تخوف أو بهجة وحتى غضبها

ولعل هذا سر اتخاذ الكاتب لبيئة المكان، فمن وصف الكاتب جاءت خايين “جيّان” مدينة وسط بين كونها بعيدة عن المركز فتلائم شخصية كماريو وتناسب انتقاله من حياة الريف إلى الحضر رغم خوفه منها “لا تزيده نفورا منها كما أصاب شخصية خولي” وبين مغازلتها لمظاهر التحضر والثقافة فتلائم شخصية كبلانكا وتوافق -قليلا- ترددها بين الحماسة والفتور، ومجملا فإن ذاك الحياد هو ما حقق من وجود مزيج فريد على طول الرواية، وأرانا تفاعلاته بوضوح هو ذاته ما أضاف على بعض الشخصيات مسحة غموض “كلوحة خايمي نارانخو للأنثى بصورة مشوشة”، وهذا ما يزيد من قيمة للحواس “كسماع ماريو لأنفاس بلانكا” في استكشافها ما لا يستوعبه العقل، فتكون -لدى الشخصية- موقفها المميز تجاه هذا الغموض بشكل متزن

–خلف الإشارة الحمراء “عن مزيج شبحي”

-ومن ضمن تلك الأطروحات -وهي عماد الرواية وأساسها- افتراضه -او اتفاقه مع رأي الناقد كارلوس بوجول- أن كل الروايات أشباح، أي تعتمد على تعطيل استنكارها أو احتكامها بأي شيء من مقاييس الواقع على الأشياء، ومنه تكون الرواية حرة في صنع عالمها الخاص “من روايات الخيال العلمي إلى الأساطير كمصاص الدماء دراكولا” وإيقاع تأثيرها على القارئ كما لو أنها حقيقية باحتفاظها ببعض مضمون وجوهر الواقع “كما شرح الكاتب عن حيل لعب الأطفال” ، فتخايل-بهذا الوضع المربك- القارئ لصنع مساحة حرة للإسقاطات عن الأفكار والمشاهد، والتي لا تصل لعقل القارئ بنسبة إن قدمت بصورة مباشرة لثقل موضوعها

ومن خلال تلك الفكرة انتقلت العلاقة بين شخصيتي ماريو وبلانكا من مجرد علاقة رومانسية، يكون الحب فيها عاملها الأساسي الذي نرى منه الشد والجذب والافتراق والوصل، إلى علاقة مشوشة، شفافة يظهر منها مزيج قوامه صراعا دائما بين طبقتين، كل منهما يعيش نمط حياة مختلف تماما عن الآخر، تصنع نقطة بداية خاصة يُبنى عليها آراءه، والتي ترمم ما ينقصه، فالأول “والتي تمثلها بلانكا” ساهمت حياتها المرفهة في تكوين طباعها “كطريقة أكلها أو أدبها في الحزن بإصدار زمة لطيفة”، كما مكنتها “بنظرة فوقية” من التعرف إلى ما ينقصها، فتنجرف بإرادتها المطلقة ناحيته، وتتأثر به ساعية إلى الاكتفاء والكمال الذي يجعلها منغمسة بداخلها، تحاول التعرف على هويتها “ملونة بتأثرها بشيء ما كأفكار لويس أونسيمو أو نارانخو ” وترتقي مبتعدة عن الناس، فكان من ذمها حياة البيروقراطية أساس لتكتمل تلك النظرة وكذلك أزمتها في التعرف إلى التفاصيل، وكان أيضا ما عقب عليه الراوي بأنها تحتاج إلى مرساة

 والثاني “الذي يمثله ماريو” القادم من أرض الدموع، كبلته حياته البسيطة واحتياجه، فصار يسعى لتحقيقها، محددا حياته بأطر تقليدية لا يستطيع فكها، ولا يعجبه التعقيد أو الصراعات الطويلة، فنراه راضيا بوظيفته “رسام هندسي” على حساب طموحه “فني حساب الكميات”، وببساطته تلك فهو أقرب لفلسفة الأشياء التي حوله وتحليل ما فيها لمواد سهلة الوصول للمشاعر، كما تأثر بشده حينما سمع بوليرو مونشو، أو كما فضل في الأوبرا أن يرى أشكال الناس وسلوكهم، أو فلسفته لطبخة بلانكا الشهية، وحتى اشمئزازه من اللوحات الفنية الغارقة في ألغازها.

ونظرا لاحتفاظ كل منهما بصفاته، فإن وجوده في الحقيقة مستغربا، نظرا لصعوبة تكوينه ومن ثم استمراره “في العجز الدائم لماريو على معرفة أسرار بلانكا”، ومن خلال ذلك -لكي تتزن الحكاية وتوافق أثر واقعها الباقي- نرى مرونة الكاتب في نقل تلك الشبحية أو التشويش من المزيج نفسه إلى سر وجوده أصلا، وذلك ينقلنا للتعرف أكثر لمأساة ماريو وإنكاره الغامض تجاه كل شيء حتى زوجته، ليضعنا أمام مأساته باتخاذه من ذلك المزيج أساسا لحبه مستعينا ببعض النقاط على الرغم من قوتها الشاعرية “كالطهو أو الاستمتاع بلذة شوربة الفيشواز أو رقصة البوليرو” لكنها شديدة الهشاشة، وباختفاء تلك النقاط البسيطة -رغم حذره ومحاولة الاحتفاظ بذلك الحب- اختفى معه حبه وسر عشقه، ومنه كون معنى جديدا للغياب تتغير فيها نظرته تماما بحبيبه ممعنا في تفاصيل غامضة، ومن ثم يعيش طول حياته مرهقا تائها من مراقبته التشابهات والاختلافات بين حاضره وماضيه، فيعكس قليلا من أزمته تلك تجاه شريكته “بنعته إياها بالمحتالة”، ليقيم علاقة مترددة شديدة التعقيد، رغم استسلامه واكتفاءه بمحاولة العيش مدركا بعد ما يقصده

— تدمير ذاتي  “محاولة استمرار العقدة”

” أَنا راضٍ بِالَّذي يَرضى بِهِ

لِيَ مَن لَو قالَ مُت ما قُلتُ لا

مَثَلٌ في كُلِّ حُسنٍ مِثلَ ما

صارَ ذُلّي في هَواهُ مَثَلا”

-ابن زيدون الأندلسي

حتى تستمر تلك العلاقة -وبطريقة معتادة في قصص الحب- يميل الطرف الهائم في تقديم بعض تنازلات تحاول تقريب المساحة بينه وبين حبيبه، بغض النظر عن كونها تدميرا لنفسه وموتا لهويته، مستعذبا ذله الدائم في تقبله لأشياء مخالفة لطبيعته، كما فعل ماريو متقبلا ألوان الفن الغريبة عليه متحاشيا وصف نفسه بما يغضب بلانكا “على أنه موظف”، وكذلك متقربا من أصدقائها رغم أن كلامهم لا يصل لعقله، مبتعدا عن أصدقائه “حتى وإن اشمئز منهم”  لأجل نهاية سعيدة باكتمال الوصال والقرب، مثلما فعلت بلانكا بانجرافها واستحسانها الشديد خاصة ناحية الرسام خايمي نارانخو .

إلا أن تلك التنازلات لا تشفع وجود النهايات السعيدة، إذ أنها لا تستمر على نفس المستوى الذي يجذب الحبيب ويعرف تفانيه “كما أوضح ابن زيدون من فرط عشقه بأنه سلم روحه لحبيبه” أو تصيب من ثباتها الملل “كما قارنت بلانكا لويس أونسيمو بتشبيهه منحدر ريبيكا بماريو الذي يضعها ككرسي في بيته”، وربما الأسوأ، أن تكون-بمساعدة عوامل نفسية- مسخا متعلقا بين ثقافتين، متضحة أكثر في شخصية خايمي نارانخو الذي حولته بلانكا من فرط حبها لشخص مادي متسلط، متقلب كتقلب الواقع البغيض “كتصرفاته الشاذة” ورغم ذلك يحتفظ ببعض تفاصيل ريفية “كلحيته الداكنة”

ورغم أن ماريو حاول الحفاظ على نفسه مقللا من تنازلاته ومشككا في عالمه الجديد-وهو ما أفشل المزيج بينه وبين بلانكا- إلا أنه نال نفس المصير، فصار مسخا معلقا بين حياتين لا يدري أيهما شفاءه، فنرى حنانه لشخصية خولي وتمثيلها عن رتابة الريف التي ثار عليها من قبل، ومن ثم يعود لوفائه لبلانكا متقبلا لاندفاعها وغربتها عنه، فيزيد تعليقه هذا من حيرته عن الوصول لتمام المعنى “معنى الغياب ” فيتخذ من مسخ كافكا -الذي أشار الكاتب بأنه تأثر بذلك الأسلوب الذي اتخذه الكاتب جيوفاني بابيني في مقدمته- منهاجا -إذ أن ماريو نراه مجملا قليلا مخفيا في عالم بلانكا- في التقاط التفاصيل الصغيرة ونسجها لتكون معاناته وأزمته

ملاحظة : حاولت الترجمة التي قدمتها أسماء جمال عبد الناصر تقريب الصورة نفسها بصنع لغة هجينة بعض الشيء من مزجها الكلمات العربية ببعض كلمات معربة “ككلمة استيدج/مسرح أو هاي/ عالي” للدلالة على وجود المزيج أولا، والتأكيد ثانيا على أثر المزيج بتهجين الشخصيات وجعلها غريبة كما اللغة

ومختتم ذلك فلا يفوتني بإبداء دهشتي في ملامح شخصية بلانكا والتي تتلامس قليلا مع شخصية الكاتبة “مي زيادة” في كونها تضع نفسها وعاءً متسعا لكل صنوف الأدب، تؤثر بأصحابها وتتأثر بهم، وأيضا في كونها رغم كثرة من حولها هشة مكتفية بنفسها موغلة في وحدتها وعزلتها، ولا يؤنسها إلى صوت حبيب مخلص يأتي، لكنه خافت وبعيد

…………………………….
كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم